صفحات مختارةعمر قدّور

حيث إنّ السلطة هي السلطة أوّلاً

عمر قدور
ينبني وصف الإعلام بأنّه سلطة رابعة على افتراض كونه سلطة شعبيّة في المقابل من السلطات الثلاث، التي وإن كانت منتخبة ديمقراطيّاً في بعض الدول إلا أنّها قد تنزاح بأدائها عن الواجبات المنوطة بها، وهذا الافتراض لطالما أخفى تحته سلطة الإعلام كسلطة على الحقل الثقافيّ ذاته؛ بمعنى تحوّل الإعلام عن وظيفته الرقابيّة المجتمعيّة إلى سلطة ضمن المجتمع قد تتآزر مع السلطات الأخرى، أو قد تمثّل السلطات الموجودة واقعاً بدل تمثيل الأغلبيّة الرازحة تحت هيمنة السلطة. وقد يبدو واقعيّاً القول: ليس بوسع الإعلام الخروج عمّا هو متحقّق من حرّيّات فرديّة وعامّة، أو الخروج عن بنيّة السلطة الاحتكاريّة في مجتمعات لا تعرف التعدّد. لكنّ هذه الصورة الانعكاسيّة، وإن بدت منطقيّة، تنزّه الإعلام عن آليّات إعادة إنتاج السلطة، وتغفل انتقائيّة الصورة التي ينقلها الإعلام، وهي انتقائيّة غير مجرّدة عن الأغراض التي تبتغيها سلطة ما، حتّى إن لم تكن هذه السلطة متعيّنة على نحو نفعيّ مباشر.
قد نقول الكثير عن استخدام الإعلام كوسيلة من قِبل أصحاب المصالح السياسيّة المباشرة، أو كوسيلة تنافس وتنازع من قبل مجموعات الضغط المتباينة في بعض الدول، وقد يطول الحديث عن دور الإعلام في الترويج لثقافة الاستهلاك المعمّم، وما تقتضيه هذه الثقافة من آليّات نمذجة وتسطيح؛ لكنّ ما سبق يجب ألا يجعلنا نتغافل عن الأنماط الجوهريّة التي يروّج لها الإعلام، أو الكتلة الفاعلة منه على الأقلّ، لأنّ هذه الأنماط هي الكفيلة بديمومة عمل النظام. أي أنّ المصالح المتشابكة أو المتنازعة للسلطة الرابعة مع السلطات الأخرى ينبغي ألا تمنعنا من الانتباه إلى الطبيعة التآزريّة لها جميعاً، فلا يكون المحكّ حينئذ فيما يكشفه الإعلام من انحرافات عن النظام، بل قد يكون فيما يتجاهله الإعلام ويقصيه لمصلحة النظام الذي يعمل ضمنه ولأجله. على سبيل المثال؛ انشغل الإعلام، العربيّ منه على وجه خاصّ، خلال العقد المنصرم في التفريق بين الإسلاميّ “المحمود” والإرهابيّ “المذموم”، وهذا الخطاب كما نلاحظ لم يلامس المشكلة الأصل وهي الإسلام السياسيّ الذي يتموضع على النقيض من الدولة الحديثة والمنظومة الحقوقيّة المعاصرة، فكان الإعلام يطابق بين المؤمن والإسلاميّ، وفي المحصّلة يروّج بذلك للإسلام السياسيّ الذي شكّل على الدوام حاضنة للإرهاب والتوتاليتارية المطبوعة بأفكار قروسطية.
القائمة تطول، إذا ما أردنا تعداد القضايا التي يتجنّب الإعلام العربيّ الخوض فيها؛ فالفئات الاجتماعيّة المهمّشة تلاقي المصير نفسه في الإعلام، ولنا أن نستعرض الحجم الذي تشغله قضايا المرأة والطفل والتمييز بحقّ الأقلّيّات العرقيّة والدينيّة، وصولاً إلى قضايا الجنس وتفرّعاته، قياساً بالحجم الذي تستغرقه زوايا وبرامج الوعظ الدينيّ على سبيل المثال!. ولنا أيضاً أن نأخذ الحيّز الذي تستغرقه برامج الرياضة والطبخ قياساً إلى الحيّز الذي تناله القضايا المذكورة آنفاً لنرى ترتيب الأولويّات بالنسبة إلى الإعلام، والمفارقة أنّه كلّما تمّت مطالبة الإعلام بالاهتمام بتلك القضايا انبرت الأبواق إلى الردّ الذي يتمحور حول أولويّة “القضايا الوطنيّة المصيريّة”، مع أنّ هذه القضايا المصيريّة لم تُقصِ عن الإعلام برامجَ الترفيه من الدرجة العاشرة أو الوعّاظ على اختلاف درجاتهم ومذاهبهم، أو الدراما التلفزيونيّة مالئة الدنيا وشاغلة الصحافة والناس!.
لا شكّ أن معرفة المتلقّي العربي قد ازدادت مع الانفجار الإعلاميّ الحاصل في العقدين الأخيرين خاصّة، لكنّ ما ينبغي التوقّف عنده مطوّلاً هو أنّ المتلقّي ذاته لم تتطوّر معرفته بمجتمعه بالقدر الذي تطوّرت فيه معرفته بالآخر، سواء كانت هذه المعرفة تشاركيّة أو صراعيّة. ومن السهل أن نعزو السبب إلى ضعف الإعلام العربي مقارنةً بالإعلام الغربيّ، إلا أنّ نظرة متفحّصة على آليّات الاشتغال الإعلاميّ العربيّ تدلّ على قصور المقارنة السابقة، إذ لم يكن من المطلوب بإلحاح حاليّاً أن ينافس الإعلام العربيّ نظيره الغربيّ في السوق العالميّة بقدر ما هو مأمول منه أن يلبّي الحاجات المحليّة للمجتمعات العربيّة. فما يجعل قسماً من المتلقّين العرب ينصرف إلى متابعة الإعلام الغربيّ، والثقة به أحياناً، ليست الحرفيّة العالية التي يمتاز بها الأخير، بل في كثير من الأحيان غياب المصداقيّة عن الإعلام العربي، إن لم نذهب إلى القول إنّ الأخير يكرّس جهداً لإخفاء المعلومات قد يوازي أو يزيد عمّا يبذله للكشف عنها.
يتميّز الإعلام العربي على العموم بالبنية الاحتكاريّة التي تميّز السلطة السياسيّة أيضاً، وفي الواقع يصعب علينا وصفه بالسلطة الرابعة بما أنّ السلطات الثلاث الأخرى مهيمَنٌ عليها من السلطة التنفيذيّة الممثّلة بشخص الحاكم، سواء كان حاكماً بأمر الله أو بدونه، فلا هيئات تشريعيّة منتخَبة بشكل ديمقراطيّ ولا وجود لقضاء مستقلّ أو مؤسّسات للمجتمع المدنيّ؛ أي لا وجود للبيئة التي تسمح بنشوء إعلام حرّ أو حتّى معبّر عن مصالح متنازعة ضمن الصراع السلميّ للمجتمع. وعلى الرغم من وصفنا للسلطات القائمة بالتأخّر والتخلّف إلا أنّها واعية لأهمّيّة المعلومات، لذا تولي عناية ملحوظة بوزارات الإعلام التي لا تعبّر عن وجهة نظر السلطة وحسب وإنّما تقوم بدور الرقيب المباشر على أصحاب الأقلام المستقلّة، وبهذا تتحكّم بصناعة الرأي عبر إقصاء الرأي الآخر أوّلاً وحجب المعلومات ثانياً. وبالطبع سيكون من الصعب، حتّى مع توفّر التقنيات الإعلاميّة الحديثة، على أصحاب الرأي المستقلّ المساهمة في الحوار المجتمعيّ ما دامت السلطة تحتكر غالبيّة المعلومات الضروريّة في الشأن الداخليّ تحت ذرائع تتعلّق بالأمن الوطنيّ، وليس من قبيل المصادفة أن نقرأ دراسات عربيّة عديدة تعتمد في بياناتها على تقارير الأمم المتّحدة للتنمية البشرية أو على تقارير لمراكز بحوث أجنبيّة، وهي غالباً تفتقر إلى الدقّة المطلوبة، بما أنّ الحصول على المعلومات الدقيقة غير متاح من مصادرها العربيّة.
تنسحب البنية الاستبداديّة الاحتكاريّة السابقة على كلّ مناحي النشاط المجتمعيّ ومنها الحقل الثقافيّ، ولعلّ أخطر تأثيراتها يكون في تعميم الخطاب الاستبدادي على نحو واعٍ أو غير واعٍ؛ فالمثقّف “الأحاديّ”، مهما تقنّع بآراء حداثيّة، قد لا يعدو عن كونه ابناً بارّاً للبنية الأصل. إنّ الأثر المديد لإقصاء الآخر لا يظهر في صورة المثقّف الناطق باسم السلطة فقط، فهذه الصورة هي الأكثر انكشافاً وابتذالاً، بل تبرز تجلّياته الأعمق في اصطناع أنواع من المثقّفين الذين يتوهّمون الاستقلاليّة تحت أسماء متعدّدة كالمثقّف التقنيّ أو المثقّف الهامشيّ؛ ونميّز هنا بين المثقّف الهامشيّ في النظم الديمقراطيّة ونظيره في النظم الاستبداديّة، فالأوّل يختار الهامش كرؤية جذريّة مناهضة للمتن أمّا الثاني فهو مُقصى أو مدفوع إلى الهامش رغماً عن إرادته.
لكنّ الأكثر ازدهاراً ضمن ثقافة الاستبداد هي النزعات التلفيقيّة أو التوفيقيّة، وقد لا تعبّر بالضرورة عن انتهازيّة فكريّة مباشرة؛ إنّها أوّلاً الأثر الأعمق للإرهاب الفكريّ الذي يمارسه النظام، وواحدة من مستلزمات استمراريّته تالياً. قد تأتي التلفيقيّة أو التوفيقيّة تحت مسمّى الإصلاح أو التدرّج، وقد يتبنّاهما المثقف مقتنعاً حقّاً بأنّه يخلخل المنظومة السائدة، وربّما يساهم انتشار هذه النزعات بتعزيز وهم التطوّر أو التقدّم، بالإضافة إلى العزاء الذي تلاقيه نرجسيّة المثقّف في نزوعها إلى النجوميّة. قد تكون التوفيقيّة في المجتمعات الديمقراطيّة تعبيراً عن تقاسم السلطة بشكل سلميّ، إلا أنّها في المجتمعات الاستبداديّة لا تفعل غالباً سوى تجميل النظام، وسيلتها في ذلك انتقائيّة بسيطة أو ماكرة، وغايتها المشاركة في السلطة بإرضائها لا بالتنازع معها.
ما يروّجه الإعلام العربيّ هو نوع من الثقافة التي تنأى عن الشكّ، وتفتقد التوق إلى المغامرة الذي يمكن تأويله على أنّه توق إلى الانعتاق والحرّيّة، وكتّاب هذا النوع باتوا سلطة في الحقل الثقافيّ، وفي أذهان المتلقّين، بحيث أصبح الخروج عن الترسيمة السائدة طيشاً أو تهوّراً لن يلاقي سوى التجاهل والإهمال. أمّا الحديث عن آثار إيجابيّة للعولمة الثقافيّة فهو رهن بمستقبل مأمول، لأنّ الاصطدام بالإعلام العالميّ لم يخلّف إلى الآن آثاراً جوهريّة على البنية الثقافيّة السائدة، وثمّة خشية مبرّرة من أن تجاري “الاستثمارات” العالميّة في الثقافة العربية المعايير المحلّيّة السائدة، وألا تجد في ثقافتنا ما يفوق كوننا “كائنات غريبة الأطوار”(1).
سيكون من باب التلفيقيّة إذاً أن نساوي بين الإعلام الغربيّ والعربيّ لجهة وجود مسكوت عنه في الاثنين، خاصّة عندما تصدر هذه المقارنة عن دعاة الهويّة والخصوصيّة الثقافيّة، إلا إذا أقررنا بأنّ الاستبداد والأصوليّة بمختلف أشكالها هما قدر المجتمعات العربيّة. وسيكون من باب المجاز أن نتحدّث عن الإعلام العربيّ بوصفه “سلطة رابعة”، فهو لن يستحق هذا الوصف إلا عندما يصبح بإمكاننا الحديث عن فصل فعليّ بين السلطات، وإلى أن يحين ذلك من الأقرب إلى الواقع أن نصفه بأنّه السلطة أوّلاً، لكونه يستمدّ بنيته من السلطة القائمة، أي أنّه سلطة ليست لنا بل علينا.
هامش:
1- “كائنات غريبة الأطوار”: عنوان مقال للأستاذ عبد السلام بنعبدالعالي، يرى فيه أنّ ما يُترجم من الأدب العربيّ إلى اللغات الأجنبيّة لا يُترجم بالنظر إلى قيمته الفنّيّة بل كشهادة حيّة عن أناس غريبي الأطوار. المقال منشور في الأوان بتاريخ 7/3/2009.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى