صفحات العالم

خنازير في كل مكان

عبد الوهاب بدرخان
كيفما تنقلت بين صفحات الجرائد، بين نشرات الفضائيات، بين “الويب سايتات”، لا ترى في هذه الأيام سوى خنازير، معروضة في كل مكان، بالأوضاع كافة، “زووم إن” و”زوم أوت”. وبعض العدسات اختارت أن تركز عينها على طرف بوز الخنزير كما لو أنها تأخذ بوسة حميمة من الثغر العريض المفلطح. الخنازير، كما الطيور قبلها، لا تعرف أنها مصدر وباء قاتل، بل سبق أن قتل الملايين بنسختيه الإسبانية والآسيوية.
كان الاعتقاد أنها سنة الكارثة المالية، وأن هذا كافٍ وحده، لكن الهم أصبح أيضاً إنفلونزا خنزيرية لا تصيب فقط بل تقتل، لا تقتل بل تعدي، لا تعدي فقط بل تجلب شبهة محرجة. كان الاعتقاد الأول أن المفلوز، أي المصاب، قد يكون أكل لحم الخنزير علناً كما هي العادة في “عالم الكفار” الغربي، أو سراً كما تُفعل أشياء كثيرة في “عالم المؤمنين” الشرقي. هذه المرة أيضاً كان اليهود سباقين، فيما اعتبر المسلمون أنهم غير معنيين عملياً، إذ دعا موظف في الصحة الإسرائيلية إلى اعتماد تسمية “الإنفلونزا المكسيكية” لأن الإشارة إلى الخنازير غير لائقة حيال التعاليم الدينية اليهودية والإسلامية التي تحرم أكل لحم الخنزير.
إذا كان الفيروس افتتح سلالته تاريخياً في الولايات المتحدة، ثم تنقَّل ليعود فيظهر في المكسيك، فلا علاقة للأمر بالتعاليم الدينية إلا من قبيل التأكيد مجدداً أن تحريم لحم الخنزير كان حكمة ثاقبة. أي، بلغة أصوليي هذا العصر، أن الإسلام و(اليهودية) هما الحل، مثلما يقال أيضاً عن الأزمة المالية. الأسوأ أن المرض لا يتأتى من اللحم، كما يقول الخبراء، وإنما من التعامل مع الخنازير عن قرب وعدم إدراك أنها مضروبة بمرض تنفسي يصيبها عادة، بل هي تحتكره. فإذا كان أحدهم يعمل في تربية الخنازير والتقط الفيروس فمن المضمون أن المرض سينتشر عملا بقواعد العولمة. قد يقال قريباً إنه يمكن أن ينتقل بالإيميل.
قبل يومين، في قطار الأنفاق في لندن، الناس يتبادلون النظرات بحذر وتفحص. لم يعد الأمر مستغرباً منذ التفجيرات الإرهابية قبل أربع سنوات. إلا أن أسباب القلق تغيرت، كان أحد الركاب مستغرقاً في جريدته، لكنه كان يسعل، وأحياناً بشكل متواصل. راح الركاب الآخرون يبتعدون عنه شيئاً فشيئاً. انتبه الرجل فتطلع يميناً ويساراً أحمر خجلا ثم قال: أنا آسف. كان قد أصبح وحده في شبه حلقة مفرغة، محاطاً بنظرات الخيفة والنقمة. واحدة من الركاب الذين ابتعدوا عنه كانت ترمقه بشيء من الشفقة، وفجأة غلبها الأمر فعطست من دون أن تغطي فمها وفقاً للنصائح. شعرت بالعار وراحت تعتذر بدورها، ثم همت بالمغادرة في المحطة التالية، لكنها عطست ثانية قبل أن تخرج. لابد أنها أمضت يومها قلقة ولعلها قصدت أول مستشفى.
يفترض أن تكون هيلاري كلينتون أكثر حيطة وإلا اتهمت بالتهور، إذ قالت: “نراقب إنفلونزا الخنازير عن قرب”. هيلاري تعرف ككل محترفي السياسة أن الخنازير يجب أن تعالج لإعدام الوباء أو تُعدم، أما “خنازير” السياسة فلا علاج لإنفلونزاتها ثم إن إبادتها محرمة. في أي حال، تأكد لهيلاري مجدداً أنها غير محظوظة، فالبيت الأبيض نفى أن يكون أوباما أصيب على رغم الاشتباه بأنه صافح رجلا مكسيكياً تقول الإشاعات أنه توفي فيما بعد. فحتى الخنازير المريضة لا تريد وقف “التغيير” الذي وعد به أوباما.
قبل التحذير رقم 5 لمنظمة الصحة العالمية لم يكن معلوماً أن المكسيكيين منتشرون إلى هذا الحد، باستثناء مسلسلاتهم الدرامية، باللغة العربية الفصحى. والآن بات السفر محظوراً إلى بلادهم منذ اتضح أن من زارهم عاد بهوية فيروسية. أصبحوا يعرفون أن من يربي الخنازير يجب أن يتحمل السمعة والمخاطر، ولعلهم بالغوا في مراعاة وصايا بريجيت باردو، صديقة الحيوانات، إلى أن الرأفة التي مارسوها أزعجت الخنازير ذاتها. أما في مصر فأدى الهلع واليأس المسبق من أي إجراءات وقاية للبشر إلى اختصار الطريق بذبح الخنازير، ما أغضب مدام “بريجيت”، التي أطلقت توبيخاً للقاهرة. لابد أن خنازير إيران وإسرائيل مغتبطة لما يحدث لخناير مصر.
لا شك أن الوباء المستشري أحدث شرخاً جديداً بين عالم الإنسان وعالم الحيوان. ومن بين كل النصائح لم تسمع واحدة ضرورية: “لا تقربوا الخنازير” وإذا اقتربتم فأبقوا معها لئلاً تتحولوا خنازير بشرية.
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى