صفحات مختارة

مصطلحات مُتحفية

خيري منصور
إذا صح القول إن لكل زمان دولة ورجالاً فمن باب أولى أن يكون لكل زمان مصطلحاته ومفاهيمه السائدة، والتي تمليها حاجات الناس وأحلامهم، فالمدن الفاضلة أو اليوتوبيات كانت تعبيراً عن نقص شديد في الواقع، لهذا فإن من يحلم بالماء ليس من يعيش على ضفافه أو يغرق فيه، بل ذلك الذي تتشقق شفتاه من فرط الظمأ.
وبقدر ما يتغزل من يعيشون في الأصقاع الباردة بالشمس، فإن العكس هو ما يحدث لمن يعيشون تحت لهيبها وقيظها، والأمور على أية حال نسبية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية سادت مصطلحات ذات وهج فوسفوري خاطف للأبصار منها تصفية الاستعمار وهواجس الاستقلال والسيادة والأمن القومي، والقدرة على حماية الحدود، وكانت الولايات المتحدة في تلك الأيام تعد العالم بالحرية، بعد أن لعبت دوراً في تحرير أوروبا من الاحتلال النازي، لكن سرعان ما أدرك مثقفو أوروبا أن وراء الأكمة ما لا يسر، فكتب سارتر بوعي استباقي عن الاستعمار الجديد الذي بدأت أمريكا تمهد له، وسخر هنري باربوس من تمثال الحرية في أمريكا، وقال إنه لو وصل إليه لبصق عليه.

والمصطلحات التي بشرت بها أمريكا قبل أكثر من ستة عقود أصبحت الآن تصاب بضيق التنفس لدى سماعها، فهي لا تطيق كلمة مقاومة رغم أنها مجدتها عندما أعانت الفرنسيين على تحرير بلادهم، ولا تعترف الآن بالاستقلال لأن استراتيجية الهيمنة وانتهاك المصائر هي بيت الداء لا بيت القصيد في منظومة أفكارها، أما كلمة سيادة، فقد سيقت مذبوحة إلى المتحف اللغوي، وهي الآن أشبه بمومياء إذا كشف عنها الغطاء الزجاجي تتلاشى وتتحول إلى هباء في مهب الأساطيل.
وما كان يقال عن الدول والنظم التوتالية أو الشمولية، أصبح الآن من حصة النظام الرأسمالي وهو يتقدم نحو ذروة توحشه، من خلال العولمة في أشد أبعادها سلبية وتعميماً للشقاء وإفقار في العالم، فمن بين المليارات الستة الذين يقتسمون هذا الكوكب بلا مساواة أو عدل، ثمة ثلاثة أرباع هذا الرقم من الجياع والمشردين. وحسب الدراسات المستقبلية الأقل تفاؤلاً فإن هذا الرقم قد يتضاعف في العقود القادمة، إذا استمرت المتوالية ذاتها.
لقد هلل العرب وغيرهم من شعوب العالم المنكوب بكلمة جمهورية غداة انطلاق البيان الأول في بلد ما.. وتحولت الكلمة إلى أيقونة، لكن بعد ستين عاماً أصبحت هذه المفردة السحرية ومرادفاتها أشبه بالفوبيا، واستبدت بالناس فوستالجيا عمياء، تتلخص في الحنين إلى الماضي وكأنه فردوس مفقود، وهو في الحقيقة ليس كذلك، فالتاريخ يخلو من الفراديس الأرضية، لهذا لايزال البشر يحلمون ويتخيلون وينتظرون غداً أقل بؤساً.
إن ما أفرزته العولمة ثقافياً هو معجم من المصطلحات المنحوتة بعناية استراتيجية فائقة، فالكلمات تقتاد الناس أحياناً من أنوفهم إلى ملاعب أخرى غير ملاعبهم، وقد يتم استبدال قضايا ساخنة وملحة بأخرى مصنعة ومستولدة من أنابيب الميديا واستراتيجيات الدول الطامحة إلى التمدد الإمبراطوري، حتى لو لم تعلن ذلك صراحة وسمّت الشمس مصباحاً كهربائياً عملاقاً على سبيل التضليل.
بعد عشرين أو ثلاثين سنة، ستبدو المصطلحات الجذابة والتي تظاهر الملايين باسمها وتحت مظلاتها وسجنوا وشردوا مجرد جرار من فخار أو آنية خزفية، وما يحدث الآن هو تحالف بين أنماط إنتاج غير مسبوقة وميديا مدججة بالإيديولوجيا والأسلحة وعولمة تتأسس على فلسفة التدجين والتأقلم القسري.. أما الضحايا فهم من هذه الشعوب التي دفعت خلال قرن أضعاف ثمن حريتها من الدم والفاقة.. لكنها لم تنل شيئاً.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى