الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

الحدث التركي إذ يمهّد لنقل السيادة من «الدولة» إلى الشعب

حسن شامي
وصف رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان، نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية والتي أسفرت عن فوز الـ «نعم» لهذه التعديلات بنسبة 58 في المئة بأنها منعطف ومؤشر على مرحلة تاريخية لتركيا الديموقراطية. يغلب على الظن أن التوصيف هذا ليس ضرباً من البلاغة والإنشاء الخطابي المعهود في غير بلد من بلدان ما كان يسمى، قبل عقدين من السنين، بالعالم الثالث، خصوصاً في الدول التي أنشأت أو توارثت تقاليد سلطوية أو تسلطية تطوّق الحراك الاجتماعي وتلجمه. قد يظهر للبعض أن التوصيف المذكور ليس سوى صياغة تعبيرية لنبرة انتصارية ما دامت صادرة عن رئاسة حكومة تولت عملية تنظيم الاستفتاء وحضّت على الاقتراع المؤيد للتعديلات، إضافة إلى أن النتائج فاقت توقعات الحكومة وحزب العدالة والتنمية في ظل إقبال كثيف على التصويت ناهز الثمانين في المئة، على رغم مقاطعة كردية كانت في النهاية غير كلية إذ أدلى ثلث الناخبين الأكراد بأصواتهم وأيدوا التعديلات بنسبة تسعين في المئة.
وتشير التغطيات والتقارير الإعلامية إلى أن كتلة الموافقين على التعديلات، والتي تضم مروحة من القوى والشخصيات يتصدرها بطبيعة الحال حزب العدالة والتنمية ذو التمثيل الشعبي العريض، لم تقتصر على قواعد الحزب المذكور وحلفائه، فهي طاولت أيضاً بعض جمهور أحزاب المعارضة مما سيكون له مضاعفات قد تعرض بعض هذه الأحزاب للاهتزاز في الأمد المنظور.
ويفهم مــــن هــــذا أن موضوع الاستفــــتاء خاطـــــب تطلعـــات ونوازع مقيمة في مختلف الأوساط الاجتماعية والمدنية بحيــــث تحوّل إلى نصاب تتقاطع فيه وحوله مطالبات بدفع الحــــراك الاجتماعي إلى التحقق سياسياً وحقوقياً. وفي هذا المعــــنى يمكن القول إنه حراك ديمـــوقراطي وإن الاستفتاء يشكـــــل فـــــي حد ذاته حدثاً وطنياً بارزاً يمكن التأسيس عليه لتعهـــــد الاستحقاقات القادمة، الدستورية والقانونية، والتي يفترض لها أن تكون ترجمة حقوقية لما يمكن أن تستخلصه قراءة سوسيولوجية دقيقة ومتأنية لنتائج الاستفتاء وخريطة التعبيرات والدلالات التي حفلت بها.
لا حاجة للخوض في تفاصيل رزمة المواد والبنود التي عرض تعديلها على «الأمة» التركية في استفتاء شعبي مباشر وشفاف. إذ يمكن الاكتفاء بالعنوان العريض لهذه التعديلات: تحرير الحياة السياسية والمدنية من وصاية العسكر وتوارثهم لتقليد يرقى إلى مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية العلمانية. وهو تقليد يجعل الجيش، في المعنى الواسع للكلمة، حارس الدولة القومية التركية وعقيدتها المقدسة. ويستفاد من هذا أن الانقسام التقليدي، المتجدد دورياً وبأشكال وتعبيرات مختلفة، بين العلمانيين والمتدينين يشهد تراجعاً في قطبيته وفي قدرته على اختزال الحراك الاجتماعي والمدني إلى اصطفاف ايديولوجي أو مؤدلج حول مقولات جاهزة ومحكمة. فقد تضاءلت على ما يبدو حظوظ نجاح التهويل بخطر إسلامي يتهدد العلمانية ونمط الحياة العصرية فيما يقود الحزب الإسلامي الحاكم، وبطريقة مدروسة، سياسة إصلاحية تساهم بالتأكيد في التحول الديموقراطي للمجتمع التركي. وقد بات معروفاً أن حزب العدالة والتنمية يجتذب قسماً كبيراً من الطبقة الوسطى ومن رجال الأعمال ويتميز عن غيره من الأحزاب والحركات الإسلامية بنوع من الاحترام الفعلي للشرعية القانونية، الأمر الذي من شأنه أن يطمئن الأوروبيين (ويحرجهم في مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي) والفئات المحلية التركية المتشوقة إلى الإصلاح والتي كانت ترتاب في نوايا الأحزاب الإسلامية عموماً.
على أن أهمية الحدث الاستفتائي التركي تكمن، في أنه يشي بعملية ديموقراطية لنقل السيادة إلى الشعب. لا نبالغ إذا قلنا إن مفهوم السيادة والجهة المعنية بتعريفها ورعايتها هما، في العمق، المدار الحقيقي للاستفتاء ورهانه. وتقتضي الإحاطة بدلالات هذا الرهان وضع الحدث الاقتراعي الوطني في سياق التحولات التي عرفتها تركيا الحديثة ليس فحسب منذ تأسيس الجمهورية الكمالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بل منذ حقبة الإصلاحات العثمانية المعروفة باسم «التنظيمات» والتي تغطي مفاعيلها عملياً القرن التاسع عشر كله. وقد يكون مفيداً على نحو خاص التوقف عند المرحلة الحميدية (نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني) الطويلة إذ امتدت أكثر من ثلاثة عقود حافلة بالاضطرابات الداخلية والخارجية وفقدت خلالها السلطنة ما تبقى من ممتلكاتها الأوروبية فاستدارت شرقاً وصبت اهتمامها على الولايات العربية وحاولت استنهاض الرابطة الإسلامية عبر رمزية الخلافة الجامعة مع مواصلة عملية التحديث الإداري والعسكري والعلمي التي انتهجها رجال «التنظيمات».
ما يعنينا الآن هو موضوع السيادة. فقد استلهمت النخب العثمانية الحديثة من التجارب الأوروبية في بناء الدولة – الأمة تعبيرات عن السيادة القومية كما اقتبس المثقفون الناشئون الذين عرفوا باسم «العثمانيون الجدد» مفاهيم للسيادة أخذوا معظمها عن منظري الفكرة القومية في أوروبا. وكانت هذه النظريات الأوروبية تنيط السيادة، تبعاً للتشكل التاريخي الخاص للأمة، حيناً بالإدارة (البيروقراطية) وحيناً بالجيش، كما هي حال بونابرت وبسمارك، وحيناً بالملك أو القيصر أو الأمير باعتباره الحاكم السيد. فكرة نقل السيادة إلى الشعب شقت طريقها بصعوبة ولم يتحصل مفهوم «الشعب» على فاعليته الحقوقية والسياسية إلا في مرحلة لاحقة شهدت تزايداً في الحراك الاجتماعي وفي تبلّور الهويات الطبقية. خلال عهد «التنظيمات» العثمانية نشأ نزاع بين السلطان وبين النخبة الإدارية التي اضطلعت بتنفيذ الإصلاحات، وهذا ما يلخصه باحث فرنسي متخصص في التاريخ العثماني الحديث بالصراع بين القصر والباب العالي.
عبد الحميد الذي لقبه بعض الأوروبيين بالسلطان الأحمر، حسم هذا الصراع لمصلحته وربط السيادة بشخصه بعد أن نجح في معالجة أزمة الديون العثمانية التي كانت تفتح الباب واسعاً أمام تدخل القوى الأوروبية وقناصلها. بل حتى أنه، في ما عدا بث الجواسيس وإشاعة الخوف، ربط أراضي ولايات بملكه الخاص كي يحول دون الاستيطان الأوروبي فيها.
تعاظم دور الجيش والنخبة العسكرية كقوة سيادية مستقلة أثناء الصراع بين القصر والباب العالي وإن ظل محل تجاذب بينهما. الانقلاب على السلطان عبد الحميد نقل السيادة من السلطان إلى الجيش الذي سرعان ما استتبع الإدارة والقضاء. وها هو اليوم يشهد بداية انتقال السيادة إلى الشعب. في كتاب جماعي صدر بالفرنسية عام 2007 كتب باحث من أصل تركي ما يأتي: بغض النظر عن نتائج انتخابات 2007 أثبتت التجربة أن التحولات الديموقراطية ممكنة في تركيا. «ولكن هذه التحولات لن توصل إلى ديموقراطية حقيقية إلا بشرط التوقف عن الرضوخ لضغوط «سيادة الدولة» التي تمارسها هيئات غير منتخبة على «سيادة الشعب» المعبّر عنها بواسطة ممثليه. لا تعليق.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى