الدور التركي في المنطقةصبحي حديديصفحات العالم

الديمقراطية التركية: مسافة امان بين المسجد ودار القضاء

null
صبحي حديدي
قبل أمد غير بعيد، في أيار (مايو) الماضي، طرحت صحيفة ‘وول ستريت جورنال’ السؤال التالي على برنارد لويس، كبير مستشرقي أيّامنا هذه، أو ‘بطريرك الإستشراق’ كما يحلو للمرء تسميته: إلى أين تسير تركيا الراهنة؟ وكان جواب الرجل لا يصدر عن صفته الإستشراقية، الافتراضية أو الفعلية، فحسب؛ بل عن حقيقة كونه أحد كبار المختصين بتركيا الحديثة، وتركيا العثمانية، سواء بسواء: خلال عقد من الآن، قد تصبح الجمهورية العلمانية التي أسّسها مصطفى كمال أتاتورك أشبه، إلى حدّ بعيد، بالجمهورية الإسلامية في إيران.
وفي 12 أيلول (سبتمبر) الجاري، يوم الاستفتاء على التعديلات الدستورية الـ 26، بدا أنّ الشارع الشعبي التركي قد قطع خطوة ملموسة، قصيرة ربما، أو حتى متواضعة، ولكنها حاسمة تماماً، على طريق تكذيب نبوءة لويس؛ أو، بالأحرى، الشروع في تثبيت نقيضها. وكانت نسبة التصويت لصالح التعديلات، 58 بالمئة من أصل نسبة مشاركة بلغت 77 بالمئة، وكذلك ملابسات التصويت التي اتضح أنها عابرة للانقسامات الحزبية أو السياسية أو الإثنية أو الدينية؛ بمثابة إشارات ديمقراطية سليمة وبليغة لا تقبل التأويل المضاد، ولا الاختزال أو التبخيس.
موقف أكراد تركيا، على سبيل المثال الأبرز، له دلالة كبرى في هذا السياق. فبالرغم من دعوة حزب ‘السلام والديمقراطية’ الكردي إلى مقاطعة الاستفتاء، لسبب وجيه في الواقع هو أنّ التعديلات لا تلحظ ردّ المظالم الكثيرة التي لحقت وتلحق بالأكراد، فإنّ فئات واسعة من الأكراد سارعت إلى المشاركة والتصويت لصالح التعديلات، من منطلق تمكين القوى الشعبية على حساب المؤسسات البيروقراطية والعسكرتاريا التي تناهض تقديم أيّ تنازل يدعم الهوية القومية الكردية. وكان مدهشاً أن تؤيد التعديلات نسبة عالية من المشاركين في الاستفتاء، على امتداد المناطق الشرقية ذات الأغلبية الكردية الطاغية.
هذا الاستفتاء الهامّ يُدخل تركيا في مرحلة جديدة، إذاً، على طريق تقويض نظام الوصاية العسكري الذي أرسته الفلسفة الأتاتوركية منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي؛ ولكنه لا يمسّ روحية المادّتَيْن 35 و85 من النظام الداخلي للجيش، حيث تُناط بالمؤسسة العسكرية مهامّ الحفاظ على النظام العلماني، والعمل على حمايته بكلّ الوسائل، بما في ذلك تجريد السلاح. ذلك يعيدنا إلى ما نستعرضه عادة من سلسلة أسباب، تاريخية واجتماعية وثقافية، كانت وتظلّ وراء إيمان العسكر بأنّ إعلاء كلمة الجيش فوق الدستور والديمقراطية إنما هو في صالح المجتمع والبلاد. أهمّ هذه الأسباب أنّ الكمالية، التي أسسها أتاتورك كإيديولوجية رسمية ثمّ طوّرها عبر سلسلة مؤتمرات لـ ‘الحزب الجمهوري الشعبي’ بين عام 1927 و1935، تُسند إلى العسكر وظيفة ‘الحارس’ على الأمن الإيديولوجي للأمّة التركية، لا سيما حين يُصنّف هذا الطراز المحدّد من الأمن في خانة أبرز فروع الأمن القومي العام. ورغم أنّ الكمالية بدأت كتيّار شعبي حظي بإجماع عريض على امتداد أحقاب طويلة، فإنّ الشرائح العسكرية حوّلت المبادىء الكمالية بخصوص العلمانية والأمّة ـ الدولة والديمقراطية الغربية، إلى ما يشبه العقيدة المطلقة الكاملة المقدّسة، التي ينبغي أن تُحفظ دون مسّ أو تشكيك، وتُخلّد دون تعديل أو تطوير.
كذلك يعود تصوّر الجيش عن ذاته، كمنظومة فوق الأمّة، إلى حقيقة ضعف الروابط بين المجتمع والشرائح العسكرية العليا، إستناداً إلى التقاليد القديمة التي اعتمدتها الإمبراطورية العثمانية في تشكيل الفصائل الإنكشارية، والمعايير التي اعتُمدت في التجنيد واختيار الضباط. ورغم ما يُقال أحياناً من أنّ الجيش يدافع عن مصالح الطبقة الوسطى، وبالتالي عن اقتصاد السوق الرأسمالي من خلال دمج رموز الجيش العليا في النظام الاقتصادي القائم، فإن التوازي الأساسي ما فتىء يقوم بين تحالف الجيش مع البيروقراطية المدنية من جهة، والنخب السياسية والتكنوقراطية من جهة ثانية.
ومنذ الثمانينيات، ونتيجة العجز المدني عن حلّ الأزمات البنيوية ووقف تصاعد العنف عن طريق قوانين الطوارىء، توطدت مواقع الجيش أكثر فأكثر، وفشلت النخب السياسية ـ المحافظة، مثل تلك الليبرالية ـ في وضع حدّ لنطاق التدخل العسكري في الحياة المدنية. ويتمثل ذلك في ‘مجلس الأمن القومي’ بصفة خاصة، الذي أنشىء عام 1961 ليعطي الجيش فرصة إبداء الرأي في بعض المسائل الإيديولوجية والتربوية، ولكنّ التعديل الدستوري لعام 1973 منح المجلس حقّ تقديم الـ’توصيات’ للحكومة المدنية. وأما في التعديل الدستوري لعام 1982 فقد اكتسبت تلك التوصيات صفة ‘الأولوية’ على جدول أعمال مجلس الوزراء، وفي الآن ذاته ازداد عدد الأعضاء العسكريين في المجلس على حساب الأعضاء المدنيين.
ولقد مرّ زمن طويل شهد امتداد صلاحيات مجلس الأمن القومي إلى إبداء التوصيات، ذات الأولوية دائماً، في المسائل الحساسة التالية: تحديد المناهج التربوية للمدارس، تنظيم أقنية التلفزة والإذاعة والإشراف عليها، رفع الحصانة البرلمانية عن الأعضاء الأكراد، التدخل في التعيينات الإدارية لموظفي الدرجة الأولى في مناطق الشمال التركي، تمديد فترات الخدمة الإلزامية لفئات معينة من المواطنين، اقتراح صياغات للتحالفات البرلمانية إثر كل انتخابات تشريعية، تحديد جوهر مشاريع القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب قبل تقديمها إلى البرلمان، تحديد النظام الداخلي والمناهج التربوية للمدارس الإسلامية الخاصة، وتحديد حجم ونطاق الساعات المخصصة لتدريس اللغة العربية كلغة ثانية في المدارس…
ومضى زمن شهد ترنّح الديمقراطية الأتاتوركية تحت الضربات المتلاحقة التي لم يتردد جنرالات الجيش، أنفسهم، في تسديدها إلى قلب التجربة. وفعل الجنرالات هذا مراراً وتكراراً، كلما تعيّن أن يشهروا المسدّسات استناداً إلى تقديرات مجلس الأمن القومي التركي، بوصفه الحارس الساهر على العلمانية، والفريق الوحيد الذي يمتلك الحقّ في الاجتهاد العلماني، وتحويل محتوى الاجتهاد إلى قرارات ملزمة للمجتمع. وكان يستوي هنا أن يطوّع الجيش القانون (المحكمة الدستورية، وحلّ الأحزاب: 24 مرّة)؛ أو ينصب حبل المشنقة (كما في مثال عدنان مندريس، أوّل زعيم سياسي منتخب ديمقراطياً في تاريخ تركيا الحديث، ورئيس الوزراء خلال فترة 1950 ـ 1960)؛ أو يلجأ إلى الإنقلاب العسكري، بوصفه ذروة العلاج بالكيّ.
كذلك مرّت عقود شهدت مهازل القضاء التركي ضدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات العامة، ولم يكن النواب الأكراد (العلمانيون تماماً، الماركسيون أو اليساريون أو الليبراليون غالباً) هم وحدهم ضحايا هذه العربدة الدستورية. وفي صفّ الساسة، لم يكن نجم الدين أربكان، الزعيم السابق لحزب ‘الرفاه’ الإسلامي المنحلّ، هو الوحيد الذي طُرد من باب السياسة ليعود ثانية من نافذتها، إذْ يبدو السجلّ طريفاً وحافلاً. فالحزب الذي لجأت المحكمة الدستورية إلى حلّه سنة 1997، كان الثالث الذي أسّسه أربكان خلال نحو ربع قرن: الأوّل كان ‘حزب النظام الوطني’ وتأسس في العام 1970، لكي يتعرّض للحلّ على يد الطغمة العسكرية التي قادت انقلاب عام 1971؛ والثاني كان ‘حزب الإنقاذ’، وتأسس بعد وقت قصير من انسحاب العسكر إلى الثكنات، لكي يُحلّ مرة ثانية إثر الإنقلاب العسكري لعام 1980.
والأرجح، بذلك، أنّ اختيار حكومة رجب طيب أردوغان يوم 12 أيلول لإجراء الاستفتاء لم يكن عشوائياً، إذْ كان التاريخ يصادف الذكرى الثلاثين لانقلاب 1980 العسكري، الذي فرض الدستور الراهن دون سواه. ولهذا فإنّ حصيلة التعديلات الدستورية، التي صوّت عليها الاتراك بنسبة تُعدّ كبيرة، تقوّي سلطات البرلمان ورئاسة الجمهورية، مقابل إضعاف صلاحيات الجيش والمجلس العسكري الأعلى، في مختلف ميادين التشريع والقضاء والتنفيذ. هنالك، أيضاً، تعديلات ألغت حصانة الضباط السابقين، وعلى رأسهم كبار قادة انقلاب 1980 أنفسهم، ومنحت المحاكم المدنية سلطة مقاضاتهم وقبول دعاوى المواطنين ضدّهم. ومن الجلي، كذلك، أنّ نتيجة الاستفتاء هي انتصار دستوري لحكومة أردوغان، ولكنها في الآن ذاته بمثابة انتصار سياسي للحزب الحاكم، ‘العدالة والتنمية’، ينقله خطوة إضافية على طريق تعديلات أخرى حاسمة، بينها الانتقال بالبلاد إلى نظام رئاسي صرف، يُنتخب خلاله رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر. ولا مفاجأة في القول إنّ أردوغان هو اليوم، كما في المستقبل القريب، المرشّح الأوفر حظاً؛ ولا غرابة، في السياق إياه، أن يتكىء الحزب على هذا الإنتصار، فيقرّب موعد الإنتخابات التشريعية القادمة، من تموز (يوليو) إلى حزيران (يونيو)، أو حتى أيار (مايو) 2011، من باب طرق الحديد وهو حامٍ ملتهب!
ومَنْ ذا الذي يمكن، حقاً، أن يلوم أردوغان وفريقه الحزبي والحكومي على قطف ثمار انتصارات متعاقبة، كان الاستفتاء أحدثها عهداً فقط؟ قلّة قليلة، وذات طوية سيئة مسبقة، أو أجندات عداء ليست الاعتبارات التركية ـ التركية مصدرها (أو منبعها مواقف تركيا الأخيرة من إسرائيل، تحديداً)؛ ما تزال تنذر بأنّ حزب ‘العدالة والتنمية’ يعتزم ‘أسلمة’ تركيا وتفكيك نظامها العلماني. الاقتصاد في حال طيبة، بل مدهشة تماماً بالقياس إلى ماضي تركيا القريب، من جهة؛ وحال جاراتها الأوروبيات، من جهة ثانية. الحزب الحاكم، رغم خلفيته الإيديولوجية الإسلامية، يؤمن باقتصاد السوق، ونجح في تخفيض التضخّم إلى ما دون 10 بالمئة، بعد أن بلغ 99 بالمئة في سنوات قليلة سابقة؛ ومؤسسات غولدمان ساكس تتوقع لتركيا معدّل نموّ بنسبة 7 في المئة، ممّا يجعل البلد بين الأفضل أداء على النطاق الأوروبي… لكي لا يستذكر المرء المثال المأساوي لليونان، جارة تركيا ومنافستها السابقة!
والسياسة الخارجية للبلاد تواصل ترسيخ فلسفة أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية، في تطبيق مبدأ فضّ النزاعات مع الجميع، واعتماد ‘القوّة الناعمة’ لكسب الأصدقاء وتحييد الخصوم وردع الأعداء؛ والتدخّل الإيجابي في قضايا المنطقة، من العراق إلى فلسطين إلى سورية إلى إيران؛ ليس دون اكتساب شعبية واسعة عن طريق اتخاذ مواقف شجاعة، هنا وهناك، في مواجهة قوى إقليمية كبرى مثل إسرائيل، أو قوى عظمى مثل الولايات المتحدة، أو أحلاف كونية مثل الأطلسي. وثمة بعض الدلالة، هنا، في حقيقة أنّ معدّلات تعاطف الشارع التركي مع السياسة الخارجية الأمريكية لم تعد اليوم تتجاوز 14 بالمئة، وكانت لا تقلّ عن 30 في المئة قبل ستّ سنوات فقط، في ذروة فظائع سجن ‘أبو غريب’.
صحيح، بالطبع، أنّ الديمقراطية التركية في خلاصتها، وديمقراطية ‘العدالة والتنمية’ جزء لا يتجزأ من عمارتها، تعاني من معضلات بنيوية شتى؛ بينها التمييز ضدّ الهويات الثقافية والإثنية والدينية (الكرد، وفئات العلويين، والطوائف المسيحية)، مقابل إعلاء شأن الهوية التركية؛ وأنّ الأنظمة الحزبية والإنتخابية توطّد شبكات الولاء والهيمنة، عن طريق توظيف المال والأعمال والإعلام بصفة خاصة، على حساب التمثيل البرلماني الأكثر أمانة للشرائح الشعبية؛ وأنّ أردوغان يمارس، شخصياً، نفوذاً واسع النطاق، ليس ديمقراطياً وتشاورياً دائماً، داخل مؤسسات حزبه؛ ولكن… أيّ ديمقراطية هي الكاملة، في أيّ بلد، وأيّ زمن؟
يبقى أنّ الديمقراطية التركية برهان على أنّ المجتمعات المسلمة ليست قاتلة العلمانية، على نحو مسبق مطلق؛ وأنّ المسافة بين العابد في مسجده، والقاضي في دار المحكمة، ليست بالضرورة درب تفكك وخصام وآلام.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى