صفحات ثقافية

نشيد من ابتلعتهم الأنظمة الدكتاتورية

null


اسكندر حبش

«حياة الآخرين» لدونرسمارك الحائز أوسكار أفضل فيلم أجنبي

بدون أدنى شك، يشكل فيلم «حياة الآخرين» (الذي حاز مؤخرا اوسكار أفضل فيلم أجنبي) إحدى الروائع السينمائية للعام .2007 تبدأ روعته من هذه الفكرة للسينما التي لم نعد نجدها عند غالبية المخرجين الذين ينحازون إلى عدد من الموضوعات (كالعنف والجنس وما شابه، على سبيل المثال) التي تأطروا داخلها،
متناسين يضا أن السينما «حياة أخرى»، يمكن لها أن تعالج هواجسنا اليومية، لتعيد طرح علاقتنا بالعالم الذي نعيش فيه. من هنا ربما، عرف فيلم المخرج الألماني «فلوريان هينكل فون دونرسمارك» كيف يأسر ملايين المشاهدين بعد أن حاز أيضا إعجاب العديد من النقاد الذين كافأوه في أكثر من مهرجان عالمي للسينما، وذلك من خلال تقديمه وعبر رسمه لمسار أحد أعضاء «الستازي» (الأمن القومي في «ألمانيا الديموقراطية» السابقة) كل ثقل النظام الشيوعي الذي لا يحتمل. أي هذه الدكتاتورية ذات الخطى الملبدة في فتور الثمانينيات (من القرن الماضي).

السؤال الأول الذي لا بدّ من أن يطرح نفسه أمامنا: هل نحن أمام فيلم «ثريللر» أو فيلم جاسوسية؟ نستطيع قراءة «حياة الآخرين» وفق العديد من المعايير الجمالية. إذ ثمة «تشويق» أمامنا ومناخ يتناغمان مع بعضهما البعض عبر إخراج متين كما عبر عمل أرشيفي ضخم. (إذ كما صرح المخرج في حديث صحافي له أنه أمضى أربع سنوات وهو يبحث في الأرشيفات واستشارة الخبراء المعنيين). لكن على ذلك أن لا ينسينا أن الفيلم، هو أيضا، فيلم سياسي عن أولئك الذين يعودون لزيارة تاريخ بلدهم من دون أي تابوات ليشهدوا على حالة المجتمع «الراشدة».

بحبكته المثيرة لقلق المشاهد (لكن المتينة جدا فنيا)، يبدو فيلم «حياة الآخرين» كأنه أيضا «فيلم وثائقي» عن «الستازي» وأساليبها وأهدافها. إذ في العام 1950 بدأ عمل هذا النظام الأمني الذي تبنى قواعد الكي. جي. بي» الذي أنشأته وزارة الأمن في جمهورية ألمانيا الديموقراطية، من أجل مطاردة معارضي النظام. من هنا يبدأ الفيلم بمشهد في الجامعة حيث يتلقى التلامذة، الذين سيصبحون عاملين في الشرطة السرية، دروسا في كيفية التحقيق والتعامل مع «أعداء الوطن والشيوعية». يدعى أستاذهم غيرد فايسلر، وهو «أستاذ» هادئ يعرف كيف يتمالك أعصابه ويسيطر على آلامه من اجل تعليمهم فن تعذيب «المتغطرسين» المتهمين بالخيانة.

لكل شخص أسلوبه في الاستنطاق. كان أسلوب فايسلر يكمن في منع فريسته من النوم، إذ، يعتقد أنها بعد أن يحل بها التعب، لا بد للأبرياء من أن يغضبوا وليعلنوا عن سخطهم إزاء اللاإنسانية التي يتعرضون لها. أما المذنبون فيبقون هادئين، صامتين، لأنهم يعرفون السبب الذي سيقوا من أجله أمام التحقيق. ما يحاوله الفيلم إظهار أن هذه النظرية لم تكن سوى سراب وأضغاث أحلام، إذ منذ العام 1950 ولغاية 1989 (تاريخ سقوط جدار برلين)، أفضت ميكيافيلية السلطة والاشتباه المعمم على جميع المواطنين في ألمانيا الديموقراطية، إلى إصابتهم «بالأرق» من جراء التحقيقات التعسفية والأحكام الصادرة بحقهم كما السجن الاعتباطي.

أنوار وظلال

في العام ,1984 يوضع يورغ دريمان، وهو مسرحي وشاعر، تحت الرقابة. كان يعتبر بمثابة شخص مستقيم، لا ينتمي إلى فئة «المدمرين»، من قبل النظام. «لكنه كثير التأديب ليكون صادقا». هذا ما كان يجده وزير الثقافة الذي يعتقد أيضا أنه «يخفي شيئا ما». وانطلاقا من هذا الشعور نجد الوسائل والحجج المثيرة للريبة والتي وُضعت من اجل الإيقاع به.

رسميا، كان ينبغي الحذر من هذا المسرحي لأنه صديق مخرج مسرحي آخر منع من العمل مؤخرا لأنه وقّع على بيان احتجاج. وبصفة شبه رسمية أيضا كان حبيب ممثلة شهيرة، جعلها وزير الثقافة عشيقته عبر الابتزاز والتخويف. لذلك لم يجد الوزير صعوبة من إقناع احد رجال الستازي، الذي كان حريصا على البقاء في عمله، بزرع أدوات التنصت في شقة دريمان. فتم تعيين فايسلر، المرعب، للقيام بهذه المهمة، ذات السيناريو الشيطاني، الذي يظهر لنا عددا من الأحداث التي تشير إلى التواطؤ ما بين القضايا الحميمية والمصلحة العامة، حيث لا أحد فوق الشبهة في هذا السياق الجحيمي.

سياق يدفع المخرج إلى أن يلعب «في حياة الآخرين» على هذه السمة المتذبذبة بين الأنوار والظلال. إذ يمكن لكل واحد أن يبدو كعميل مزدوج، وذلك وفق المصلحة الدفينة أو وفق الكاميرا المنصوبة عليه أو بحسب الدليل الملفق أو الفخ المراد إيقاعه به. إذ إن مسألة نزاهة نظرات «الجواسيس» معقودة بالإبهام الشرعي لتصرفات كل كائن إنساني.

ربما عند هذه النقطة، ينجح الفيلم في رسم بهائه الكامل. فالوزير ليس سوى «شيطان» مسربل بالليبيدو، فيما الآخرون هم أيضا «أشياء» أخرى ذات أدوار قاطعة. وبما أنه رجل وعي، شدت دريمان قضية انتحار العديد من المثقفين في ألمانيا الديموقراطية، ليكتب تقريرا باسم مستعار وينشره في مجلة «دير شبيغل» الألمانية الغربية، وليخفي الآلة الكاتبة التي استعملها، مهملا المخاطر التي قد تلاحقه، وأولها خطر حبيبته كريستا، التي اضطرت إلى الاعتراف بما قام به خوفا من التهديدات التي وجهت إليها بعدم السماح لها بالصعود ثانية فوق خشبة المسرح. أي تأتيه الخيانة من حيث لم يكن يتوقع. وإن كانت كريستا تنتحر برمي نفسها أمام شاحنة مسرعة، أي ثمة تكفير عن الذنب الذي اقترفته بخيانتها المزدوجة.

إلا أن المفاجأة تأتي من فايسلر، فهذا الموظف البسيط في الستازي، الذي يكن حبا جارفا للفن والثقافة والجمال، يكون المنقذ عبر إخفائه الآلة الكاتبة كما عبر تزييف تقاريره التي كان عليه أن يقدمها لمرؤوسيه.

وكأن ثمة وعياً جديداً يبدأ بالتفتح في داخله. هذا الوعي الذي كان يمكن له أن ينقذ الاشتراكية من تعفنها الذي قادها إلى الانهيار. لكن هل كان المخرج يرغب، عبر هذه التحية التي يوجهها لفايسلر (واسمه الحركي «HGW XX 177»)، في أن يسامح الجزارين السابقين أم يؤشر إلى أنه كان هناك حقا العديد من أعضاء الستازي الذين قاوموا هذه النتانة من الداخل من دون أن ينتبه إليهم أحد؟

مهما كان عليه الجواب، كان ثمة أمل في تغيير ما لم يتغير في ذلك البلد الذي أصبح بعيدا بعد أن دخل غياهب التاريخ. تاريخ لم يتجاوز بعد العشرين عاما، لكن ثقل الدكتاتورية اليومية، جعلت من «خفة الكائن» أمرا «لا يحتمل» (فيما لو استعرنا تعبير الروائي التشيكي ميلان كونديرا) في بلاد لا تستقيم إلا بالإرهاب والتعذيب والتخويف.

«حياة الآخرين» فيلم بمثابة نشيد أيضا. قصيدة حول حيوات كل أولئك الذين ابتلعتهم الأنظمة الدكتاتورية وغادروا لأنهم ظنوا أن حريتهم الشخصية أمر مصان، أو أنها حق ولد معهم. بيد أن ثمة أقدارا أخرى، أقوى، تجعل من هذه الحياة الإنسانية، أشبه بلعبة تافهة لم يكن لأحد أن ينجو منها لــولا عجلـة التاريخ التي تسير أحيانا في اتجاهات لم تكن تخطــر في بال أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى