صفحات مختارةطيب تيزيني

ما وراء فجوة الدخول

د. طيب تيزيني
تتجه دراسات يكتبها أساتذةُ جامعات مختصصون في العلوم الاجتماعية، نحو طرح أسئلة متعددة تلتقي في محور واحد، هو: كيف نضيِّق الهوة بين من يملك ومن لا يملك من سكان الوطن العربي؟ ويحاول البعض من أولئك المتخصصين أن يتناولوا الوجه الأخلاقي من المحور المذكور. ويأتي ذلك من ملاحظة أن منظومات القيم، التي شكَّلت على مدى عقود طويلة في التاريخ العربي الحديث وربما حتى السبعينيات من القرن المنصرم، أسساً عامة للتربية الأخلاقية في المؤسسات المدرسية والعمومية القائمة في المدن كما في الريف.
وكان ذلك مهيمناً بتأثير واضح من الفئات الاجتماعية الوسطى، التي صاغت منظوماتها التأسيسية في حياتها على مجموعة من القواعد والضوابط والأسس، برزت في مقدمتها القناعة في المتطلبات الاقتصادية المعيشية، مع الإبقاء على حوافز الحياة بمختلف حقولها، إضافة إلى النظر للثقافة والتعلم بوصفهما أداتي استثمار اقتصادي وتطوير حضاري.
لقد أنتج نمطُ الحياة ذاك مُثُلاً لها دور فاعل في وسط وقاع المجتمعات العربية عموماً. ولأن الفئات الاجتماعية الوسطى كانت ذات حضور ديموغرافي كثيف في المجتمعات العربية، فقد أتيح لها أن تمتد في معظم هذه الأخيرة امتداداً عمودياً وآخر أفقياً، مما طبع معظم البنية السكانية العربية بطابع الاعتدال والتمسك بقيم العمل (الحلال)، بحيث كانت مظاهر الفساد والإفساد تكاد تكون محاصرة بسبب من التمسك بنقيضها.
ونعني بذلك أن الكثير من الروادع الأخلاقية والسياسية والدينية شكلت عوامل مباشرة لمحاصرة هذه الروادع ليس على صعيد فردي أو منعزل وضيق فحسب، فبالإضافة إلى هذه المعنية، كانت هنالك مجموعة من البِنى ذات الحضور الاجتماعي، من ذلك مثلاً بنية ومؤسسات سياسية وبكيفية خاصة أحزاب ومنظمات تمارس نشاطاً سياسياً حقيقياً، إلى درجة ملحوظة سواء في هذا الاتجاه السياسي والأيديولوجي أو في ذاك. ومن شأن هذا أنه أرسى حياة سياسية مدعمة بأسس من الديمقراطية البرلمانية، يحاسَب بمقتضاها الأكبر والأصغر. ومع أن الفساد السياسي والمال الملوث راحا يقرعان أبواب الحياة العامة، فقد ظلت ظلال مهمة من تلك الديمقراطية تفرض نفسها حتى مجيء تجربة الوحدة بين مصر وسوريا. لكن هذه التجربة التي كانت الأولى في تاريخ العرب الحديث، راحت تتفكك إلى أن أصبحت عاجزة عن حماية نفسها من داخل القطرين وأقطار أخرى. لقد سقطت بعد أن أطيح بالمجتمع السياسي الديمقراطي، بما يقتضيه من منافسة وصراع بين الأطراف المتعددة.
وفي سياق قضْم مظاهر الحياة القائمة على التعددية، كان على الوحدة أن تسقط تحت قبضة القوى الديكتاتورية، وتحتل هذه الأخيرة المواقع الحاسمة من المجتمعات المعنية، وأن تأتي تباعاً بمجموعات انقلابية عسكرية تُحكم القبضة على المؤسسات المتبقية، وبذلك تكون الأحوال قد دخلت في عالم النُّظم الأمنية، التي لاتزال تنجز ملفات المدنيين تحت الطلب. إن ذلك كله أخذ يصدع لا الحياة السياسية وحدها، وليس التيارات والأحزاب السياسية فحسب، بل أصبح المجتمع ذاته شيئاً فشيئاً في قبضة من يحمل مشروع تفكيكه وإسقاطه العقلاني والعلماني الديمقراطي. لقد انتهت المساءلة والمناقشة، وأخذت تهيمن قواعد لعبة فظيعة يتمثل هدفها في التمكين لمجتمعات تقود إلى تصدع مؤسسات العمل والتعليم والقضاء…إلخ، مما راح يجفّف الحياة ويقضي على الزرع والضرع، ويسحق منظومات القيم الأخلاقية، ومن شأن هذا أن يجعلنا ندرك لماذا أعلى وأدنى دخلين في العالم يوجدان في العالم العربي!
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى