صفحات سورية

العالم اليوم: من طوارئ الجوع إلي التجويع الممنهج

null

مطاع صفدي

برهنت العولمة علي أنها هي المصطلح الآخر عن الرأسمالية المتوحشة الفالتة من عقال كل تدبر اجتماعي. وهي عينها الرأسمالية التي لم تعد تعترف بأية حقوق أخري لمن هو ليس من أصحابها أو أسيادها الرئيسيين. هكذا تصل الإنسانية إلي حال المجاعة العالمية كحقيقة عادية وضرورية.

وليس هناك ما يضاهيها من حقائق أخري تناقضها أو تعارضها كوقائع جاهزة أو محتملة. فقد استسلم عقل المجتمع الدولي منذ سقوط التجربة الاشتراكية، إلي الاعتقاد بأنه لا بديل عن الرأسمالية كنظام اقتصادي (حضاري) صالح لكل زمان ومكان. لكن وصول الرأسمالية إلي أعلي مستوي تركيزها شبه الوحيد علي (تَمْوَلة) الاقتصاد كلياً، أي إلي جعل المال هو بضاعة نفسه فقط، قد عزل عمليات إنتاج المال للمال عن أية رقابة من قبل المجتمع والدولة معاً. أصبح الفضاء الكوني هو وطن الأرقام الفلكية المحرر من كل حدود أو قيود. أرقام متروكة لتنافسها الصامت فيما بينها. تخلق أو تدمر معادلاتها إزاء بعضها. وهي التي تتولي إصدار الأوامر لسماسرتها كيما يحركوها في هذا الاتجاه أو ذاك. بحيث أن هناك استقلالية حقيقية لصراع الأرقام الفلكية ضداً علي بعضها، وبما يفرض تحصيل الأرباح أو الخسائر، وفق آليات تخص حركاتها التلقائية وحدها، حتي دون توقفها أو استيعابها من قبل أصحابها. فهناك سلطة للمال الفلكي قد تفوق سلطة مالكيه.

هذا الوضع لتطور الرأسمالية المتوحشة قد يفسر إلي حد كبير الدرك الأسفل التي انهارت نحوه قوة القرار السياسي لأية دولة كبري أو حتي للمؤسسات الدولية إزاء الكوارث الشاملة التي ينتظرها عالم اليوم قبل الغد. بمعني أن العولمة القافزة فوق الدول استطاعت، خلال مرحلة الأمبطرة الأمريكية، أن تشكل من ذاتها ما يشبه الحكومة العالمية. وبالتالي مارست ببراعة فائقة ألعاب المال الفلكي، كما لو كانت صانعة لمصائر دول العالم الثالث، متبعة معها أسلوب السيطرة علي تنميتها، باقتراح المشاريع والسيطرة علي تنفيذها من قبل الشركات العملاقة عابرة الجنسيات والقارات. وهكذا فإن ما يقرب من تسعة أعشار دول العالم لا تعيش استقلالاً اقتصادياً حقيقياً، مكرساً أولاً لمصلحتها الوطنية، بل علي العكس فقد تحول معظمها إلي مزارع أو مصانع تشتغل لحساب هذه الشركات نفسها. ولا تكاد التنميات الوطنية تنجز متغيرات نوعية في حياة سكانها، بقدر ما تحول أكثرياتها، وخاصة أجيالها الشابة الصاعدة، إلي جيوش جديدة من العاطلين عن العمل والمحرومين من أبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة. وهكذا يمكن القول، مع ثقافة (العولمة البديلة) إن ثروات العالم، من المواد الأولية، ومن الأموال السائلة، لم تعد ملكية أحد، بالرغم من عناوينها الوطنية أو الفردية. لقد أمست معلقة بذيول الأرقام الفلكية الضاجّة علي أمواج الألكترونيات الفضائية، أشبه بأشباح بدون هويات أو ملامح؛ إنها حالة سريالية لم يشهدها تاريخ المضاربات في أوج الأزمات العالمية.

من هنا لا يعلق أحد كبير أهمية علي تحركات القمة الدولية المنعقدة في روما، سوي بعض القرارات اللفظية، والمساعدات الرمزية التي لن تحل شيئاً من مجاعة مليار من سكان المعمورة. فهؤلاء لا ترحمهم حكوماتهم القاسية قبل أن يتحرك ضمير إنساني آتٍ من ما وراء الحدود. إنهم متروكون لأتعس مصائرهم مع هذه الحالة المزرية من انحطاط الضمير الغربي خاصة. فهو بعد أن تنصّل من أية مسؤولية إنسانية عن كوارث الفقر المعممة، راح يعزي عقله الأناني باختراع المسوغات الأيديولوجية التي تحِّمل المتخلفَ وحده عقابيل عجزه عن تغيير أحواله. إنها عنصرية جديدة تبرر تفوق الغرب بالعودة إلي خرافة الفروقات العضوية بين جنسه الأبيض والآخرين الملونين. ما يعني أن الغرب لن يستطيع مهما ارتقت إنسانيته، وسعي إلي تخفيف الفوارق الطبقية مع معظم سكان المعمورة، لن يمكنه أن يعتبر هؤلاء شركاء متعادلين معه في صنع المدنية الكونية التي تعود إليه وحده أفضال اختراعها وتنميتها وحراستها. فهي كونية من حيث أن العالم كله هو من رعاياها، لكن حكامها الحقيقيين هم الغربيون وحدهم. وإذا لم يكونوا هم الحكام المباشرين، فإنّهم يتحولون إلي أولياء أمرهم. وقد عملت الأمم المتحدة وهيئاتها المالية والاجتماعية والثقافية علي تجسيد هذه الوظيفة الجديدة من الرعاية الإجبارية التي تخضع لها تطورات الشعوب النامية. فكانت المجاعة المعممة ليس في نطاق العالم الثالث بل والعالم الرابع والخامس.. هي المحصلة الواقعية، وبعد خمسين أو ستين عاماً من تجارب هذه الرعايات الخبيثة. فقد أمسي العالم أقل شبعاً وصحة وثقافة وأمناً، مما كان عليه في أسوأ ظروف الاستعمار وزمن الاستقلالات الوطنية.

والآن يراد للرأسمالية وهي في أوج وحشيتها وحريتها المطلقة أن ترعوي من تلقاء ذاتها، وتخترع الحلول السحرية لأوبئة المجاعات من كل نوع، بدءاً من مجاعة الغذاء والصحة والطاقة، إلي انعدام المساواة والعدالة والحقوق الأولية. فإن بعض الغرب (المتعقل) لم يعد يثق بخارطة المعازل الجغرافية. فالغرب ما زال يسكن في الصميم من الجغرافية العالمية. هناك نوع آخر من العولمة ـ السرية إن صح القول ـ خارج سيطرته. لم تعد تنفع معها جزيرة الاتحاد الأوروبي لتكون قلعة مغلقة علي رفاهها الاستثنائي. كما أن مشروع الأمبطرة الأمريكية الأحادية قد لفظ أنفاسه. والفضل الأول في ذلك ليس لاستحالة المشروع في حد ذاته تاريخياً واستراتيجياً فحسب، إن لم تشل مبادرتَه المناعةُ العربية الإسلامية، كرمز أول عن مناعة أشمل اكتسبها العصر الإنساني كله ضد آخر نماذج الاستبداد الكلياني المعتمد علي جنون إرادوية القوة الاحتكارية العمياء.

أزمة المجاعات البشرية الحضارية الراهنة ليست خللاً طارئاً علي ما يسمي بالنظام العالمي وتقاليده العقيمة. إنها أشبه ما تكون بإرهاصات حرب كونية جامعة لكل أدوات الحروب الاجتماعية المعروفة، ما عدا العسكرية منها، وإن إلي حين ما. وهي حرب طبقية عالمية بامتياز، لم تحلم بها تفاؤلية البروليتاريا الماركسية نفسها. فليس عمال العالم هم الذي يتحدون لإعلان ثورتهم البروليتارية الشاملة. إنها بروليتاريا الأمم المحرومة، وليس عمالها فقط. والمجتمع العالمي لا ينقسم بين نخبة أغنيائه وعامية فقرائه فحسب في هذه اللحظة المخيفة من انهيار ثقافة السوق العولمية، مع عطالة شبه نهائية لقانون العرض والطلب وعجزه الصارخ عن اختلاق أية توازنات استحالية يفرضها انفلات أسعار المواد الغذائية ومعها الطاقة، إلي جانب انهيار قاعدة العملة الدولية، الدولار الأمريكي الأخضر الذي يصير الأسود أو الأصفر، أو إلي مصير المارك الألماني القديم لما بعد الحرب العالمية الأولي.

إنها رطانة ألسنة سماسرة السوق التي لا تكف عن اجترار اتهام الدول الصناعية الصاعدة كالصين والهند، بتحطيم الأرقام القياسية في الطلب علي الطاقة، وبالتالي في مضاعفة نسب استهلاكها للمواد الأولية كلها من معدنية وغذائية. كأنما كفَّت أمريكا عن كونها السوق العظمي لشَرَهِ الاستهلاك لكل ما هو مأكول ومصنوع، وأن أوروبا قد حدَّت قليلاً من طقسنة الفردانية وقدسنتها، وطامنت من غلواء الترف وأنانيته (الحضارية). كأنما مكتوب علي الشرق، بأممه المليارية وحضاراته التاريخية، ألا يتخطي أياً من الخطوط الحمراء التي ينبغي أن تفصله وإلي الأبد عن ضفّة الحداثة لمجتمعاته، وأبسط شروط السعادة أو الكفاية لجياعه ـ فمن يستمع إلي حجج خبراء الغرب وأكثرية مثقفيه هذه الأيام يدرك كيف أن قانون معاقبة الضحايا علي جرائم الجلادين، لا يزال هو سيد التحليل، وسلطان كل حوار مع الآخر. فالجوعي والمرضي والمعاقون والمتخلفون هم المذنبون دائماً، وهم يعكرون مياه الينابيع العالية حيثما يسكن ذئاب الحضارة، ومن الوديان العميقة حيثما يقبع خراف الحبس البشري الآخر، المدان دائماً.

كل ذلك لا يعفي تاريخ النهضة العربية المعاصرة، من كونه تاريخاً سياسوياً يتيماً من أبويه الاجتماعي والإنساني في وقت واحد. كانت عقدة الدفاع عن الاستقلال المهدد، والحرية المنقوصة للجماعة قبل أفرادها، متغلبة علي هموم الأرض المحرومة من الزرع والضرع، والمصنع المنتج، والمدرسة والجامعة الحديثة، والسوق المفتوحة قطرياً و قومياً. كان ذلك زمن للسياسوي والعسكري فحسب. وكان الفقر متوارثاً ومستديماً، أشبه بضمانة (أخلاقوية) ضد مفاسد الغني الممتنع أصلاً، أو المحجوب توارياً عن أنظار المحرومين. لكن فجأة انشقت الصحاري البعيدة ما وراء مواطن الحضارة والخضرة المتوارثة، عن ينابيع الذهب الأسود السائل. إنه هجوم الغني الفاحش، ثائراً لغيابه الطويل، لكنه لن يكون حاضراً إلا في أطراف الخارطة العمرانية؛ فالغني مفنن العربي النفطوي وُلد ومعه عزلته الجغرافية والسياسية معاً، شرطه الأول، المسموح به غربياً، ألا يكون غني عربياً شاملاً. لن يكون فقط نخبوياً قابعاً في قمة الهرم القومي داخلياً، بقدر ما سوف يحافظ علي أمكنته الجانبية ومواطنه الطرفانية. لكنه من مواقعه تلك سيمارس جاذبيته النفعية علي بروليتاريا المنطقة، ثم علي برجوازيات المتروبولات العربية. هكذا سيتكون نوع من مجتمع تراتبي طبقياً، تفاصلي وتفاضلي جغرافياً وثقافوياً، ولكن علي مستوي أفقي فضائي، ضاماً جناحي المشرق بين ساحليْه المتوسطي والآخر الخليجي.

تلك هي الخارطة التقسيمية قطرياً دولتياً، تتطور إلي تقسيمية اقتصادية اجتماعية، لن تظل ممتنعة عن بث إفرازاتها السياسية في اتجاه تجذير التشرذم الكياني الأصغر، وليس علي أساس الفوارق الهائلة في مداخيل الدول والأفراد فحسب، ولكن بدعم منظّم من التمزقات العضوية علي قاعدة صراع الطوائف والمذاهب والعراق. وهو الواقع (القومي) الراهن الذي ينتهي به التردي إلي حال هذا الانفجار الفجائي في المسألة المعاشية البالغة حد التجويع المقصود للأكثريات الساحقة من الشعوب العربية والإسلامية، كأنه استكمال لمخطط الثأر الإرهابي غريباً من كينونتها كوجود عضوي مادي، وليس إنسانياً عادياً فحسب.

فالوصف الطبيعي للحالة العالمية البائسة هو أن الإنسانية لا تزال تدفع الأثمان الكارثية مقابل نوع من المدنية الاستغلالية المفروضة عليها من قبل النخبوية الغربوية، والهادفة إلي إجهاض مشاريعها النهضوية الخاصة بهوياتها الثقافية؛ وهي النازعة إلي الانفتاحات التلقائية علي بعضها، بما يمكن في النهاية غالبية الجنس البشري من إنتاج مدنيته الأخري، العادلة، ومن صنع عائلاته، المتكاملة إمكانياً وحضارياً فيما بينها. إنها لحظة التضامن الكوني ضداً علي النقلة المرصودة، من حال الجوع المتفرق إلي حال التجويع المعمم، ومن الجهل الموروث إلي التجهيل الحداثوي، ومن الفقر الطارئ إلي الإفقار المخطط، علي أن يكون كل هذا البؤس التقنوي عابراً للدول والأعراق والحضارات، وبما فيها كذلك شعوب الغرب نفسها التي لن تكون في مأمن مزدوج من الجحيم العالمي حولها، ومن الاستغلال المقنع في أوطانها عينها. هل نقول إن الثورة الكونية ليست حلماً طوباوياً، وإن كان دونها بعد مسلسلٌ مفجع من الثورات المضادة في تاريخ المستقبل القريب.

مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى