التفاوض السوري الإسرائيليبدر الدين شنن

شيء لايصدق .. حدث .. وقد يحدث بصورة أخرى

null
بدر الدين شنن
ماذا يعني أن يعلن النظام السوري ، بعد ساعة من إعلان اتفاق الدوحة بين الأطراف اللبنانية المتصارعة ، العودة ، وقد عاد بعد أيام فعلاً ، إلى طاولة المفاوضات .. غير المباشرة .. مع إسرائيل حول الجولان المحتل ؟
من العجالة بمكان ، أن يقتصر الجواب على تداعيات اتفاق الدوحة ، التي وإن جاءت بقدر ملموس ، لصالح حلفاء النظام ، واعتمادها مفتاح غرفة المفاوضات . أو على تبدلات الظروف الإقليمية التي أتاحتها حرب تموز عام 2006 . أو على الرغبة الدفينة لديه للتخلص من حلقة ضعف كبيرة في سياساته وهيبته . إذ أن من الواضح أن القرار السوري بالمفاوضات مع إسرائيل ، كان مفتاح قاعة مؤتمر الدوحة وليس العكس ، وأن مسألة إيجاد صيغة لطي صفحة احتلال الجولان هي وسيلة قبل أن تكون غاية بذاتها ، وأن حرب تموز في لبنان 2006 لم يكن بوارد ، في الزمن الذي جرت فيه ، حدوثها أو إعطائها تلك النتائج التي أدت إليها . وهذا ما يستدعي التوسع في الجواب ليشمل بجدية الداخل السوري بكامله ايضاً .
ذلك أن إيجاد حالة ” سلام ” عاجلة مع إ سرائيل مرتبط منذ سنوات .. بالتوجهات السياسية والاقتصادية والأمنية ” الجديدة ” .. توجهات سياسية ترسخ صيغة نظام بلا معارضة فعلية تتمتع بكامل الحقوق السياسية المساوية لقوى النظام ، واقتصادية تطلق بحرية ( ليبرالية ) تامة تطبيقات اقتصاد السوق والخصخصة ، وأمنية تحصن مناعة النظام من مخاطر داخلية ( تحركات سياسية مناوئة ) أو خارجية ، لإضعاف دوره الذي يحلم به إقليمياً ودولياً ، هذه التوجهات التي صار السلام مع إسرائيل من المتطلبات الأساسية لتحقيقها وإنجاحها ، لما يوفره هذا السلام من آليات ومناخات إقليمية ودولية هي الأكثر ضماناً لمصالحه وا ستدامته ، هي التي تشكل الآن خلفية الجري وراء المفاوضات ، التي كان منذ سنوات يطلبها علناً ، إلى أن تلاقت المصالح الإقليمية لوضعها على مضمار انطلاقها على ملعب أردوغان في ا ستانبول .
الشيء المقارب بين هذه المفاوضات ومفاوضات السادات مع ا سرائيل قبل ثلاثين عاماً ، هو تجاوز المذابح والمآسي التي ألحقها الكيان الإسرائيلي بالشعب الفلسطسني ، وتناسي الحروب التدميرية الإسرائيلية العديدة على الشعوب العربية في فلسطين وسوريا ومصر ولبنان والأردن ، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا وملايين المشردين ، وتجاوز أن هذا الكيان لم يقم ولن يدوم إلاً بالعنف وبمفاعيل القوة .. ولن يتمكن من تحقيق مشروعه الاستعماري العنصري والسيطرة على الشعوب العربية وا ستلابها ثرواتها والهيمنة على مقدراتها إلاً بالقوة . وأنها ، أي المفاوضات ، تأتي بعد حالة شبه انتصار عربي في حرب من حروب الصراع العربي الإسرائيلي . أما الشيء المفارق ، فهو أن السادات ا ستخدم باب المفاوضات وعقد اتفاق ” سلام ” مع إ سرائيل ليدخل مرحلة الانفتاح أي اقتصاد السوق والخصخصة ، بينما يستخدم النظام السوري باب اقتصاد السوق والخصخصة ليدخل إلى مرحلة ” السلام ” مع إ سرائيل .
وقد لخص نائب وزير الخارجية السوري فيصل مقداد العلاقة بين الازدهار الاقتصادي ” اكتمال سيطرة اقتصاد السوق ” وبين ” سلام ” سوري مع إسرائيل ب ” أن اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل سيؤدي إلى حقبة جديدة من الرخاء والازدهار في الشرق الأوسط ” .
بيد أن ما يجب التوقف عنده بإمعان ومسؤولية ، هو انعكاس ماسوف يجر النظام سوريا إليه ، من ا ستقالة سورية مماثلة لاستقالة مصر السادات من الصراع العربي الإسرائيلي ، والانسحاب من المشروع القومي المناهض للمشروع الصهيوني في فلسطين والمشرق العربي ، والانخراط في ” معسكر الاعتدال العربي ” لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بحيث يكون فيه الكيان الإسرائيلي الأكثر هيمنة ، ليس من خلال ارتباطه العضوي مع الإمبريالية الأمريكية والدولية وحسب ، وإنما من خلال شروطه في متون عقود السلام المذلة معه ، التي تسمح له بتوجيه إملاءاته على كل مستويات الحياة في البلدان التي ا ستسلمت لمشروعه الاستعماري . فهي تنص على إبطال أي نص في اتفاقيات عقدتها مع مصر والأردن سابقاً مع أية جهة دولية أخرى تتناقض أو تعادي اتفاقية كمب ديفيد واتفاقية وادي عربة وإ سرائيل . وحجمت السيادة المصرية على سيناء وفرضت ا ستئجار وادي عربة لعشرا ت طويلة من السنين . ووضعت مصر والأردن في موقع الحليف لإسرائيل إما بالصمت التواطؤي أو بالمشاركة المباشرة في أي نزاع لها مع دولة أودول أخرى ، والمقصود هنا الدول العربية .
والواضح من الآفاق المطروحة لعملية السلام بين النظام السوري وإ سرائيل ، أن المشرق العربي مقبل على حقبة هي في غاية الخطورة ، التي سيتوالد منها الكثير من المخاطر والمآسي . فلبنان سيتبع النظام السوري ، وهذا مؤكد ، في عقد اتفاق ” سلام ” مماثل ، ما سيؤدي إلى بلورة سلطة وطنية فلسطينية أكثر مطاوعة في تصفية القضية الفلسطينية ، وخاصة ما يتعلق بالدولة الفلسطينية العتيدة وعودة اللاجئين ، وإلى تسييس الحرب الأمريكية الدولية البترولية في الشرق الأوسط ، وإلى ا ستقرار الأنظمة العربية المفوتة ، بما يخدم ا ستدامتها وكفالة دورها في سياق الحقبة الجديدة في المنطقة . الأمر الذي سيزيد من حدة الانقسامات والتناحرات الطبقية ، ويوسع ويعمق البؤس الاجتماعي ويزيد من انتشار المجاعات والقمع وتصحر الفكر والسياسة أكثر فأكثر .. إن ماحدث في مصر قبل ثلاثين عاماً ونيف ، هو أنموذج لما هو قادم مع رياح ” السلام ” الإسرائيلي إلى سوريا ودول الجوار السوري .
قبل ثلاثين عاماً ونيف فاجأ أنور السادات العالم بزيارته للقدس . وخر ساجاً يقبل الأرض أمام أقدام زعماء إ سرائيل ، زاعماً ، أن هذه الزيارة سوف تكسر الحاجز النفسي الذي يعوق السلام بين مصر وإ سرائيل . وقد فسر هذا السجود السادات وزعماء إ سرائيل كل على طريقته . فالسادات تظاهر وادعى أنه قبل الأرض الفلسطينية ” تحت الاحتلال ” تعبيراً عن حبه لها . وزعماء إ سرائيل اعتبروها ا ستسلاماً مثيراً للدهشة لمشروعهم الصهيوني في المشرق العربي من قبل أكبر دولةعربية خرجت لتوها ” قبل أربع سنوات ، من قتال شجاع لجيشها . وقد عبرت غولدا مائيير رئيسة وزراء إ سرائيل سابقاً عن ذلك بقولها ” هذا شيء لايصدق ” لكن الحقيقة التي تجسدت على الأرض ، أن هذه الزيارة كانت عنواناً لاستقالة مصر السادات من الصراع العربي الاسرائيلي ، وتخليها عن المشروع القومي المقاوم للمشروع الصهيوني المرتبط عضوياً بالمشروع الاستعماري الأنكلوأمريكي في الوطن العربي ، وإعاقة وتدمير أي مشرروع نهضوي ، للهيمنة على مقدرات البلدان العربية وتأبيد ا ستعمارها بأشكال متجددة .
وقد اعتبرت زيارة السادات للقدس عربياً خيانة للحقوق الفلسطينية والعربية وانحداراً سياسياً بشعاً في الصراع العربي الإسرائيلي والصراعات الدولية . فلم يجر قط في التاريخ القريب على الأقل ، أن ذهب رئيس دولة دخل جيشه حرباً شجاعة وحقق إنجازاً قتالياً باهراً على العدو ، إلى عاصمة العدو ينشد سلاماً ا ستسلامياً ، ويوقع لاحقاً اتفاقيات تجرد بلده من حقوق السيادة الوطنية الكاملة على أرضه التي انسحب منها العدو ، وترهن وطنه بموجبها لشروط مذلة من التبعية السياسية الإقليمية . وقد كانت ردود الفعل العربية على هذه الزيارة أن طردت مصر من الجامعة العربية ، ونقل مقر الجامعة إلى بغداد ، ونقل مقر الاتحاد البرلماني العربي إلى دمشق . أما ردود فعل الشارع المصري ، فكانت اغتيال السادات بعد عامين لاأكثر من جر مصر لذاك ” السلام ” غير الواقعي وغير العادل . وطوال ثلاثين عاماً ونيف لم تنجح الجهود الإسرائيلية والمصرية الرسمية والدولية من فرض تطبيع العلاقات المصرية الإسرائيلية على المستوى الشعبي .
ويمكن الجزم ، أن مفاعيل اتفاقيات ” السلام ” التي وقعها السادات مع إسرائيل برعاية أمريكية ، قد لعبت وماتزال دوراً أساسياً في التدهور العام في مصر اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ، وأفضت إلى ما سمي بالانفتاح الاقتصادي والخصخصة ، وفي التدهور العام في المنطقة ، بل وأدت إلى انحدار الدور المصري الإقليمي وحولته إلى تابع مجاني في آليات الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة .
بإيجاز ، يمكن القول ، أن ” السلام ” الذي عقد صفقته السادات مع إ سرائيل ، لم يتضمن .. ولم يجلب السلام إلى الداخل المصري . بل ا ستبطن .. وتضمن نقل الحرب بأشكال أخرى إلى الداخل .. لم تنتقل صيغة حكم الحزب الواحد إلى التعددية وتداول السلطة ، بل تحكم الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم بالبلاد أكثر مما سبق .. لم تتوسع الحريات العامة ” الديمقراطية ولم ترفع حالة الطواريء .. وهناك الآن أكثر من 18 ألف معتقل سياسي .. ولم يرتفع مستوى معيشة الشعب ، بل انحدر إلى درجات أكثر مأساوية من البؤس حيث بات يتساقط الفقراء موتى وقتلى على أبواب المخابز ،والقدرة الشرائية للأجور انخفضت إلى عشر قدرتها قبل اتفاقيات كمب ديفيد ، وانتفاضة الجياع هي النتجة السافرة لهذا ” السلام ” .
ولأن ما جرى ويجري في مصر تحت ظلال ” السلام ” الإسرائيلي من الانفتاح الاقتصادي ، أي اقتصاد السوق والخصخصة ليس مجهولاً من أحد في سوريا وخاصة في الطبقة السياسية والثقافية ، فإن السؤال الوارد في هذا السياق هو ، ماهي الدوافع الحقيقة لولوج نفق المفاوضات والشروط الإذعانية مع الكيان الإسرائيلي .. وهل من الأخلاقية بمكان .. لتمرير العولمة المشبوهة وخصخصة الاقتصاد السوري .. يتعين أن يدفع بالشعب السوري نحو المجهول المشحون بالآلام والأزمات والمذلات والمجاعات ؟ أمن أجل فئة رأ سمالية سلطوية يزج بوطن بكامله وبمصالح أمة بكاملها في مفاوضات وصفقات هي في جوهرها بازارات تجارية عولمية ، وانحيازات لخرائط هيمنة الاحتكارات الدولية العابرة للقارات ، وخاصة في صناعات الأسلحة والبترول والمواد الغذائية ؟
إن الطريق لتحرير الجولان المحتل لايتحقق حسب معادلة يستعاد بموجبها شكلاً الجولان وتضيع مقابل ذلك سوريا كلها .. ويضيع معها المشروع القومي التحرري الديمقراطي . وإنما بتحرير الداخل السوري أولاً من الاستبداد والقمع ، وحسب معادلة بناء نظام وطني ديمقراطي قوي يبني مع جواره بندية وإخاء قوة تضامنية تحالفية من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة وفق رؤى وبرامج وأنشطة متعددة الأشكال تفتح الطريق لإفشال المشروع الصهيوني في الوطن العربي .
المطلوب من القوى الوطنية الديمقراطية .. أن لا تسمح لما حدث في مصر في أواخر السبعينات من القرن الماضي ، أن يتكرر الآن .. بصورة أخرى في سوريا .
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى