برهان غليونصفحات مختارة

في مسؤولية النخب عن الحروب الطائفية وآلامها

null
برهان غليون
لا يزال الكفاح ضد الطائفية يشكل محور الأفكار التحررية التي تنادي بها الحركات القومية واليسارية التي ترى في استمرار وجودها عائقا رئيسيا أمام تطور الولاءات الوطنية.
ويقدم الوضع القائم في لبنان والعراق واليمن والنزاعات العنيفة التي شهدتها هذه المجتمعات ومجتمعات عربية عديدة أخرى في نظرهم نماذج حية للدور السلبي الذي تلعبه الطائفية في قطع الطريق على نشوء الدولة القومية، وفي التمكين للاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية وفشل التحولات الديمقراطية.
لقد تحولت الطائفية في اللغة السياسية التقدمية العربية من ظاهرة تاريخية اجتماعية متحولة إلى لعنة أبدية وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية ولا التخلص منها.
وأصبح الخوف من تفجراتها المحتملة عقبة أمام تطور المناقشة السياسية نفسها، فهي فتنة نائمة لا سيطرة لنا عليها والحديث فيها بأي شكل جاء لا يمكن أن يكون إلا إيقاظا ملعونا لها وإطلاقا لبراكينها الكامنة.
ولا يعادل الكره الذي تراكمه الثقافة السياسية العربية ضدها، بكل تياراتها اليسارية واليمينية، الاستبدادية والديمقراطية، سوى الخوف من التأمل الموضوعي فيها وفي أسباب بقائها وانتشارها.
ولذلك قر السلوك العربي على نوع من الانفصام في السلوك السياسي إزاءها. وهكذا نجد الفرد الذي لا يكف عن إدانة الطائفية والتبرؤ من شرورها لا يتردد في أغلب الأحيان في الانصياع لقانونها والاندفاع في أحيان أخرى، بإرادته وأحيانا من دون إرادة، وراء رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها.
يخلق الحديث المتكرر عن الطائفية وعيا شقيا لدى المجتمعات العربية التي تشعر بأنها ضحية آلية عمياء جبارة تفرض عليها الانقسام بين عصبيات متنافرة وتغلق أمامها أبواب التحولات السياسية الديمقراطية والوطنية.
وبقدر ما يفقد هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة التي تتبارى في اتهام بعضها بعضا بإخفاء النوايا والرهانات الطائفية يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله بإمكانية التعايش داخل الوطن الواحد، بل بإمكانية بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتكافل والتعاون بين جميع أفراده بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد ويفرض عليهم مصيرا مشتركا.
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكا لمخاطر حقيقية وحتمية بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس اللذين اتسم بهما الفكر القومي والوطني المحلي الذي اتجه في سعيه لإقامة دولة وطنية حديثة وإضفاء المشروعية السياسية عليها إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج بدل بناء مفهوم المواطنية والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط الممارسة القانونية لها، وبالتالي تأمين حرية أبنائها ومساواتهم.
فقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب برنامج بناء المواطنية في مشروعها، أي عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة بالفعل عنها، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية والتاريخية الأحادية.
وكانت النتيجة توليد نزعة وطنية انصهارية صماء تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية وشخصية سياسية حقيقية.
وهكذا أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية بدل أن يعاش كعاهة مجتمعية يبدو وكأنه نقمة إلهية أو طبيعية.
وأصبح الوضع الاعتيادي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والإسلامية، وضعا نشازا أو تعبيرا عما ينبغي تسميته الخطيئة الأصلية، يميز المجتمعات العربية ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.
والحال، ليس تعدد الطوائف ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني وتقدم مشاريع التحويل الديمقراطية، ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة ويمكن تخفيضها جميعا إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها.
والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفيا وعرقيا من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية.
وهذا التعدد الواسع في المجتمعات الآسيوية يعبر، بعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي. فهذا الازدهار الحضاري وما يرتبط به من نمو قيم التسامح والتعايش وما يتيحه من إمكانيات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات وما يفرزه من حريات فردية وجمعية هو الذي يدفع إلى نشوء التعددية بقدر ما يسمح بنشوء الهويات المتمايزة أي بالتغاير داخل المجتمع الواحد بين مجموعات الرأي والثقافة وكذلك بقدر ما يؤلف قوة جذب جبارة للجماعات البعيدة خاصة للجماعات المضطهدة والمقهورة في المناطق الأخرى “البدائية”.
ولا حاجة للذهاب بعيدا لمعاينة هذه الديناميكية التاريخية الحضارية، فالعالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة أو المغايرة سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة.
وجميع هؤلاء يقصدون الدول الصناعية الكبرى المتقدمة، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية التي تستقطب القسم الأكبر من مهاجري جميع الجنسيات، بسبب ما يسود في هذه الدول من ازدهار اقتصادي وتسامح فكري وتنوع عقائدي. وهم يعززون من طابعها التعددي في الوقت الذي تنحو فيه المجتمعات العربية، مثلها مثل المجتمعات المتأخرة الأخرى، إلى التجانس وكبت التنوع والخوف من التعدد حتى داخل الطائفة أو الجماعة العرقية الواحدة.
وليس هذا من علامات التقدم الحضاري ولا التشكل الوطني ولا التسامي الديني بأي حال. إن استقبال المهاجرين والجماعات المغايرة يعكس ثقة المجتمعات بنفسها، أي بثقافتها ومستقبلها وقدراتها على الدمج ومتانة مؤسساتها السياسية والاجتماعية، بينما يعبر طرد الأقليات بصورة واعية أو غير واعية عن استبداد القلق والشك وغياب الثقة بالنفس عند المجتمعات وتهافت مؤسساتها الدستورية والاقتصادية والاجتماعية.
فكما أن لوجود أغلبية ثقافية أو دينية متجانسة دورا كبيرا في خلق شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ، وبالتالي لنشوء الدول ورسوخ الحضارة في منطقة من المناطق، تشكل الأقليات المنفتحة باستمرار على الخارج، والعابرة عادة للبلدان، ناقلا استثنائيا للمكتسبات التقنية والعلمية والفكرية، وبالتالي حاملا رئيسيا لديناميكية التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات.
باختصار، إن التعددية بكل وجوهها وأشكالها ليست خطأ تاريخيا ولا بنية نشازا ولكنها الأمر الطبيعي والشائع أيضا في أي مجتمع متمدن لا يمكن أن ينحدر في منطق انتظامه إلى مستوى منطق الأسرة أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وقد كانت الطوائف موجودة دائما في المجتمعات العربية، وستظل موجودة في المستقبل. وهي موجودة أيضا في بلدان عديدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وهي لا تشكل، كما تبين ذلك تجربة الهند التي تعج باللغات والأقليات الدينية والعرقية على حد سواء، عائقا أمام قيام نظام ديمقراطي. فهي تستطيع أن تتعايش معه وتجد التسويات الضرورية للحفاظ على ما تمثله من عصبيات محلية وما تمثله الدولة الديمقراطية من علاقات سياسية وطنية.
لا تتحول التعددية الطائفية إلى مشكلة تهدد الديمقراطية كما تهدد الحياة الوطنية، حتى في الدول الاستبدادية، إلا عندما يتغلب الانتماء للطائفة أو العشيرة على الانتماء للجماعة الوطنية أو يمحوه أو يتنازع معه ويصبح عائقا أمام التفاعل بين الأفراد والتعاون في ما بينهم في ما وراء الحصن الطائفي أو الإثني. ولا يحصل ذلك إلا بسبب عجز النظام السياسي والقانوني العام عن استيعاب التعددية وإدارة التناقضات والاختلافات الاجتماعية.
ولذلك أكثر ما تترسخ العصبيات الطائفية والعشائرية وتتحول إلى بديل للانتماء الوطني في ظل النظم الاستبدادية التي تقوم على نفي التعددية ولا تملك أي مفهوم أو سياسة لاستيعابها وإدارتها بالطرق السلمية وتنزع إلى كبت الاختلافات والتمايزات بالقوة والقهر بدل التعامل السياسي والثقافي والاجتماعي معها.
بيد أنه حتى في هذه الحالة من الصعب للتمايز المذهبي أو الإثني أن يتحول إلى عصبية مناقضة أو معادية للوطنية الجامعة، وبالتالي أن يحظى بقيمة تبادلية سياسية إلى جانب قيمته الأصلية كمكون لهويات خصوصية، من دون أن يحظى بدعم من قبل النخب الثقافية والسياسية التي تسعى إلى استخدامه وسيلة للتعبئة السياسية في معركة التنافس من أجل السلطة المركزية أو سلطة الدولة.
لذلك ينبغي التمييز أيضا بين المللية أو التنوع الديني والمذهبي كما عاشته البلاد الإسلامية خلال حقب طويلة ماضية، وبين الطائفية التي ولدت مع نشوء السياسة الحديثة وتطور مفهوم المشاركة الشعبية في انتخاب القيادات السياسية.
فالعصبية الطائفية تتميز عن الشعور بالهوية المذهبية في أنها عصبية موجهة نحو هدف سياسي واضح لم يكن عند الأولى، وهو تعزيز فرص نخبها الخاصة في معركة السلطة السياسية المركزية التي ترتبط بنشوء الدولة الحديثة. فهذه النخب هي التي تشحن التمايز الطائفي والقبلي بمفاعيل ومدلولات سياسية وتستخدمه في النزاع على السلطة. ومن دون ذلك لا تنتج الاختلافات الثقافية والأقوامية نزاعات خاصة مختلفة عن النزاعات الاجتماعية العادية أو الطبيعية.
فلا تشكل هذه الاختلافات ولا تنتج مشاعر أو انتماءات طائفية متضاربة من تلقاء نفسها، وليست هي التي تفسر ظهورها. فلا يتقدم الولاء الطائفي على الولاء للدولة، لا في الماضي ولا في الحاضر، بشكل تلقائي وعفوي.
وحتى يحصل ذلك لا بد من شحنه بقيم ومفاعيل إيديولوجية لتحقيق مآرب سياسية، وهذا ما تقوم به النخب الاجتماعية.
والسؤال الذي يطرح عندئذ هو ما الذي يفسر تفكك النخبة الوطنية في ظرف ما وانقسامها على أسس طائفية بدل سعيها إلى تكوين نخبة وطنية واحدة تعكس في وحدتها مشروع توحيد المجتمعات المتعددة الطوائف على أسس سياسية، أي تكوين رابطة وطنية؟
الجواب هو أنه لا توجد أسباب واحدة لتفكيك النخب الوطنية، فقد يحصل هذا التفكيك نتيجة انهيار الدولة وسقوطها كما كان عليه الحال في أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية ونهاية عهد الوصاية السوفياتية.
وقد يحصل بسبب ضعف الدولة وسهولة اختراقها من القوى الخارجية دولا أو جماعات دينية أو إثنية، كما هو الحال في لبنان.
وقد يكون نتيجة نزوع نخبة خاصة إلى احتكار السلطة والقرار وحرمان النخب الأخرى من حقها في المشاركة أو الانتقاص الواضح من ممارسة هذا الحق، كما هو الحال في معظم الدول العربية التي تسيطر فيها نخبة قبلية أو عائلية أو مذهبية على القرار، بواجهة وطنية وأحيانا من دون أي واجهة على الإطلاق.
والنتيجة أن آليات توحيد النخب الوطنية ودمجها في إطار واحد مرتبط هو نفسه بوجود مشروع بناء أمة ووطنية سياسية. وهذا المشروع لا يوجد من تلقاء نفسه ولا نعثر عليه في الطبيعة كما هو، وإنما هو ثمرة جهد فكري وسياسي منظم لبناء علاقات الوحدة من قبل النخب أو أجزاء منها، ومن قبل القادة الوطنيين الكبار.
ولا يمكن أن يتقدم إلا بمقدار ما ينجح هؤلاء في تأسيس قواعد هذه الوحدة الوطنية، من أسس دستورية ومساواة قانونية ومشاركة فعلية لجميع أبناء الطوائف والعشائر على قدم المساواة.
فالمواطنية أو الوطنية المرتبطة بها هي الثمرة المباشرة للمشاركة في بناء الدولة المواطنية كمشروع مشترك لجميع النخب ومن جميع الطوائف والمذاهب.
وأصل توحيد النخب المنحدرة من مناطق ومذاهب وبيئات اجتماعية مختلفة ومتعددة في كل البلدان هو الاشتراك في هذا المشروع نفسه، فهي موحدة عليه ومن أجله وفيه.
والحال أن مثل هذه المشروع يصطدم في معظم الأقطار العربية بإرادة السيطرة التي تتجلى عند بعض الفئات الاجتماعية، عسكرية أو أمنية أو بيروقراطية أو مذهبية، وتدفعها حتى عندما لا تكون ذات نزعة طائفية إلى اللجوء إلى التعبئة الطائفية، أو تقسيم الرأي العام إلى طوائف متناحرة على مبدأ “فرق تسد”، من أجل الاحتفاظ بالسلطة واحتكار القرار السياسي، وتجيير الدولة لخدمة مصالحها الخاصة.
ويكفي للبرهان على ذلك معاينة ما حصل ويحصل في العراق من تفتيت متعمد بل تحطيم للنخبة الوطنية السياسية لحساب زعماء الطوائف والأحزاب الطائفية، ومن حروب دموية مصممة بصراحة لشحن العصبية الطائفية، والمطالبة العلنية لبعض الفرقاء باحتكار السلطة والاحتفاظ بها في يد نخبة طائفية ضد أخرى.
إذا دلت عملية تقويض الدولة هذه من الداخل على شيء، وهذا هو مضمون ما حصل للدولة العراقية، ولدولة ما بعد الاستقلال الوطنية عموما في العالم العربي، فإنها تدل على هشاشة ركائز هذه الدولة الدستورية واهتزاز قاعدتها الاجتماعية من جهة وعدم نضج النخب السياسية أو تأخرها من جهة ثانية. من دون أن يعني ذلك نفي عوامل الاختراق الداخلية والخارجية.
فمشروع بناء الدولة الوطنية بمعنى دولة المواطنية المتساوية والممارسة السياسية الشعبية ليس مشروعا وطنيا معزولا تماما عما يجري حوله وفي العالم. إنه جزء من المصير العالمي، وهو يخضع أيضا لصراعات وتوازنات القوة على الصعيد الإقليمي والدولي.
ولا أرى مخرجا من هذا المصير السياسي المؤلم للمجتمعات العربية سوى ظهور نخب سياسية تضع مشروع بناء الدولة قبل مصالح الطوائف والفئات الخاصة من جهة، وتقبل بألا تكون السلطة حكرا لها، ومبررا لتهميش النخب الأخرى أو أطرافا منها وتعطيل مبدأ تداول السلطة على أسس دستورية وقانونية من جهة ثانية، وتسعى إلى تعزيز استقلال قرارها عن الدول الأجنبية وتحصينه ضد الضغوط والاختراقات الخارجية من جهة ثالثة.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى