الأزمة المالية العالمية

الاشتراكية الرأسمالية

ميشال مرقص
أدخلت آليات تنفيذ خطط الإنعاش الاقتصادي، في البلدان المتضرّرة من تداعيات الأزمة الاقتصادية، مفاهيم «جديدة» في النظام الاقتصادي الرأسمالي، بل أعادت «مفردات» الأشتراكية الاقتصادية إلى القاموس اليومي للنشاط العالمي الذي يعاني ركوداً قاسياً نتيجة أخطاء «النيوليبيرالية» الأميركية. وشرّعت بلدانٌ مثل ألمانيا تأميم المؤسسات المتعثّرة.
والواقع أن تدخل حكومات مثل حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا وغيرها لإنقاذ مؤسسات مال كبرى ورفدها بالسيولة، أو إقراض مؤسسات صناعية، عشرات بلايين الدولارات، حتّم في مناخات محدّدة، أن تشتري «الدولة» أصول بعض منها، بخاصة المصارف المتعثّرة والسندات الهالكة أو المسمومة. ولا بدّ أن يفرض «الشاري» أنظمته ورعايته ورقابة صارمة يستنهض بها المؤسسات الواهنة المتخاذلة الأداء، ويجعل منها مؤسسات ناجحة قابلة للاستمرار وتحقيق فرص عمل.
وفي السياق التاريخي، لم تتخلَّ «الدولة» يوماً عن تدخلها في توجيه الاقتصاد، وإن بتفاوت بين دولة وثانية، وقارّة وأخرى. فأنظمة التعليم المجاني والرعاية الصحية وأنظمة تحرير التجارة العالمية، تحت فضاء العولمة، شكلت ظاهرة من ظواهر التدخل الحكومي في الشأن الاقتصادي، ضمن أنظمة الرأسمالية الحرّة. وبدت دول متقدّمة أكثر في مجال النشاط المصرفي، فأخضعت رقابة المصارف التجارية العاملة ضمن أراضيها إلى سلطة المصرف المركزي. ففي لبنان، وبعد أزمة «بنك أنترا» منتصف ستينات القرن الماضي، شرّعت الدولة ما يضمن ودائع المدّخرين. ولم يعد يتهاوى مصرف ويعلن إفلاسه، بل تضع السلطات النقدية، (مصرف لبنان) يده على المصرف المتعثّر، تديره لحسابها لقاء تعويمه، وقد تبيعه من إدارة جديدة.
وعلى غير صعيد، يبدو تدخل الدولة في التشريع الاقتصادي واضحاً، في ميادين شتى، وهو تدخل يضبط إيقاع الليبيرالية الاقتصادية وخروقاتها.
غير ان ما يخشاه مستثمرون عالميون، تحوّلوا الأسبوع الماضي إلى شراء الذهب كملاذ آمن، ورفعوا سعر الأونصة منه إلى ألف دولار، هو تأميم المصارف الأميركية، ومنها 171 مصرفاً مهدّداً بالسقوط هذه السنة. وتوسع سلسلة التأميم في أوروبا. فالاتحاد الأوروبي أقرب إلى تدخل الدولة في مسارت الاقتصاد وشؤون المصارف والتعليم والرعاية الصحية. وهذا ما لم تعهده أميركا منذ ثمانينات القرن الماضي عندما فتحت أبواب الليــبيرالية الجــديدة على مــصراعيها، وتركت مؤسسات المال تبني «أمبراطوريات» وهمية من دون ضوابط، دكَّت بانهيارها التحصينات المالية العالمية، فشكّل موجات مدّيّة عاتية أســقطت أعمدة الهيكل المالي والاقتصادي وأسواق المال والبورصات التي خسرت أكثر من 40 في المئة من قيمها، وتركت الملايين عاطلين عن العمل لا رزق لهم سوى مــساعدات تقدمها الحكومات متسببة بكثير من الديون العامة.
لذا بات على الإدارة الأميركية أن تنجرف أكثر في الإنفاق الحكومي على البنية الأساسية والمشاريع، وتحسّن موقعها في الإنفاق العام لتلتحق بالاتحاد الأوروبي. فقبل عقد كان الإنفاق الحكومي الأميركي 34.3 في المئة من الناتج الإجمالي للبلاد، في مقابل 48.2 في المئة في الاتحاد الأوروبي، ويتوقع أن تصير الحصص 39.9 و47.1 في المئة على التوالي في 2010، ما يشير إلى انخراط أميركا في الإنفاق الحكومي أكثر وتتدخل في الشأن الاقتصادي العام للبلاد.
هذه الإجراءات، وغيرها مما يتوقع أن تقره «قمة العشرين» الثانية، (لندن – نيسان / أبريل) تُبَلْوِر نموذجاً اقتصادياً جديداً، يعزز دور تدخل الدولة في الاقتصاد. فعندما تسقط مؤسسات المال الكبرى مثل القلاع الكرتونية، وينتظم المودعون صفوفاً طويلة أمام مصارفهم للحصول على ما ادخروه قبل أن تلتهمه «نار الإهمال المفرط»، يتحوّل المودعون والمصروفون من أعمالهم والذين فقدوا بطاقات رعاية صحية، إلى قوّة ضغط اجتماعي تحمّل الحكومات «المسؤولية» وتطالبها بمزيد من التدخل واضعين ثقتهم فيها، شرط ألا ينتقل الفساد إلى إدارتها. هذه الثقة تحمل الأنظمة الأكثر ديموقراطية والأشد تعلقاً بالحرية الاقتصادية إلى التدخل المباشر في الشأن الاقتصادي. لذا ترفض كل من أميركا وألمانيا وفرنسا وكندا وغيرها تقديم مساعدة مجانية إلى القطاع الخاص، بخاصة صناعة السيارات ما لم تنظم هذه الصناعة بنيتها في إشراف حكومي.
قبل مدة، شهد مؤتمر دافوس نقاشاً حاداً للأنظمة الرأسمالية، فانتقد رئيس الوزراء الروسي وزميله الصيني النظام الرأسمالي الأميركي المرتكز إلى الأسواق الحرة، وروّجا ضمناً لنموذجي بلديهما حيث تسيطر الدولة على التوجهات الرأسمالية. وفي سياق آخر تحدث رئيس الوزراء البريطاني عن الحاجة إلى أسواق حرة شرط ألا تكون عديمة القيمة، وحض وزير الاقتصاد الياباني على ابتكار نظام جديد من «الرأسمالية المتعاطفة». ويبدو أن التوجهات تقضي بتدخل «الدولة» في ظلِّ «اشتراكية» رأسمالية!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى