صفحات العالم

البكاء على أطلال تحولات ديموقراطية لم تتم

عمرو حمزاوي *
إزاء مشهد عربي خيوطه الناظمة هي العنف داخل المجتمعات والتوترات الطائفية – المذهبية وشبح الصراعات والحروب الإقليمية، بات الحديث عن مفردات كالديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية والحريات العامة أشبه ما يكون ببكاء على أطلال تحولات لم تكتمل، إما لعدم «مواءمة الظروف الداخلية والإقليمية» أو «لتآمر الخارج على مجتمعاتنا» وإفشال فرص بزوغ الديموقراطية فيها. وعلى ما في البكاء على الأطلال من جاذبية وما لمقولات الظروف غير الموائمة وتآمر الخارج من سطوة تاريخية بين العرب، تظهر مقاربة المشهد الراهن استناداً إليها الكثير من أوجه القصور والغيابات الجديرة بالنقاش.
ذاك أن الباكين على الأطلال، وهم خليط من النشطاء والكتاب العرب والغربيين الذين اهتموا خلال الأعوام الماضية بتناول إمكانات التحول نحو الديموقراطية وتحسين حالة حقوق الإنسان، وانتهوا اليوم إلى تقرير إخفاق عربي عام على المستويين، عادة ما يكتفون بإلقاء كامل اللائمة على نظم الحكم القائمة لتعنتها السلطوي وكذلك على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كالقوتين الخارجيتين المؤثرتين في مجتمعاتنا لعدم التزامهما الفعلي بدعم الديموقراطية. بيد أن وراء مثل هذا التوجه، وعلى رغم الموضوعية الجزئية للإشارة إلى التعنت السلطوي وإلى تهافت خطابات وبرامج دعم الديموقراطية الأميركية والأوروبية، تجاهلاً خطيراً لتناول المعوقات الحاضرة في المجتمع والسياسة والثقافة بعيداً عن دور نظم الحكم، وقراءة بالغة السطحية لطبيعة التهديد الاستراتيجي والأمني الذي أثبتت خبرة الأعوام الماضية دوره المهم في نظر المصالح الغربية في حال حدوث شيء من التحول الديموقراطي في بعض المجتمعات العربية، وصمت مطبق عن تداعيات تنامي نفوذ أطراف دولية وإقليمية في عالمنا لا تشكل قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان محددات لسياستها وفعلها الخارجي.
فوضعية الأزمة المستمرة في عراق ولبنان اليوم تدلل على عجز قوى المجتمع عن التعامل السلمي – الحداثي مع تركيبته التعددية من خلال وسائط مؤسسية وبمضامين تسمح للسياسة بالوجود بما هي صنو منافسة لا عنفية حول تحديد الصالح العام وممارسة توافقية لتحقيقه تخضع للمساءلة والمحاسبة، وللدولة بالحضور بما هي أداة تحقيق الصالح العام الرئيسية وصاحبة القدرة على ردع الخارجين عن شرطي المنافسة السلمية والتوافق من خلال احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية. يصبح هنا التعامل الاختزالي مع أزمة العراق أو لبنان، بإحالتها إن إلى إخفاق يوصف بالمرحلي للقوى السياسية في ممارسة التوافق (ومن ثم النجاح في تشكيل حكومة ائتلافية في العراق أو الحفاظ عليها في لبنان) أو إلى تبعية أجندات هذه القوى لأطراف دولية وإقليمية، بمثابة التحايل الخبيث على كارثة عجز المجتمع وما يستتبعها من غياب مستمر للسياسة وللدولة. وفي مصر، حيث تماسك مؤسسات دولتها والتعنت السلطوي لنظام الحكم في ما خص تمديد العمل بالقوانين المقيدة للحريات (وفي مقدمها قانون الطوارئ) وأيضاً لجهة إدارة العلاقة مع المعارضة الحزبية وغير الحزبية ليسا موضع شك، يستحيل من جهة فهم أسباب تعثر التحول الديموقراطي فيها من دون تناول الضعف البيّن لثقافة المشاركة في الشأن العام من قبل المواطنين وتداعيات ذلك على انخفاض كلفة السلطوية. فبينما خرج على سبيل المثال ملايين الإيرانيين إلى شوارع المدن الكبيرة للاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة والمطالبة بإصلاحات ديموقراطية ولم يرهبهم لأيام متتالية عنف الأجهزة الأمنية للجمهورية الإسلامية، لا يزيد عدد من يتظاهر في القاهرة والإسكندرية وغيرهما ضد توريث السلطة ومع الإصلاح الدستوري والسياسي في أحسن الأحوال على المئات. كما لا يمكن من جهة أخرى تجاهل نواقص فعل أحزاب وحركات المعارضة التي تمكّن، بسبب هشاشتها الاستراتيجية والتنظيمية وحساباتها السياسية الضيقة، نظام الحكم من تهميشها والتلاعب بها. والواقع أن بعض هذه الأحزاب والحركات، باختياره المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة هذا الخريف 2010، على رغم محدودية ضمانات تنافسية ونزاهة العملية الانتخابية وضآلة مردود عمل المعارضة في المجالس التشريعية، قدم في الأيام الأخيرة دليلاً جديداً على غياب بوصلته الاستراتيجية وضيق أفقه السياسي.
أما النزوع نحو إلقاء لائمة إخفاق التحولات الديموقراطية في المجتمعات العربية على الغرب، وما يرتبط به من اجترار مستمر للكيفية التي تعاملت بها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي مع فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية 2006 ومن قبله مع الأداء الجيد لجماعة «الإخوان المسلمين» المصرية في انتخابات 2005 للتدليل على ازدواجية معايير الغرب وعدم استعداده لتحمل كلفة ديموقراطية قد تأتي بالإسلاميين إلى مواقع الصدارة السياسية، فينطوي تحميل الغرب هذه المسؤولية على تبسيط مخل لدوره وقراءة بالغة السطحية لمصالحه. يتعلق التبسيط المخل بتجاهل حقيقة أن حكومات الولايات المتحدة وأوروبا قبلت نتائج الانتخابات المصرية وسعت بطرق عدة للانفتاح على جماعة «الإخوان» والتعرف إلى أجندتها وأن الولايات المتحدة كانت الطرف الدولي الرئيسي الذي ضغط لإجراء الانتخابات التشريعية في فلسطين في موعدها، ولم تملك ومعها أوروبا إزاء رفض «حماس» المقومات القانونية والسياسية لوجود السلطة والمؤسسات الفلسطينية (اتفاقات أوسلو) سوى مطالبة الحركة بالالتزام بها كشرط للتعامل مع حكومتها.
في المقابل، تنبع القراءة السطحية لمصالح الولايات المتحدة وأوروبا في علاقتها بالديموقراطية العربية من ثلاثة عوامل: أولها هو تجاهل الاحتمالية الشديدة الواقعية لانفلات الأوضاع الأمنية وحدوث انفجارات أهلية عنيفة في مجتمعاتنا التي عانت من سلطوية السياسة لعقود طويلة ولم تستقر فيها بعد مؤسسات الدولة الحديثة حين تشرع في شيء من التحول الديموقراطي وما يشكله ذلك من خطر كبير على مصالح الغرب. وثانيها هو اختصار المصالح الغربية الكثيرة والمعقدة في عالمنا إلى ثنائية النظم الصديقة والحركات الإسلامية المعادية، وافتراض أن الغرب يسعى بكل أوراقه للحفاظ على النظم وتهميش الإسلاميين. وثالثها هو توهم أن الغرب إن أراد الديموقراطية العربية وعرفها باعتبارها مصلحة حيوية يملك القدرة على تحقيقها بصرف النظر عن المعوقات الحاضرة في المجتمع والسياسة والثقافة وبمعزل عن إرادة نظم الحكم، وفي هذا مبالغة خطيرة في تقييم فاعلية دور وأدوات الغرب في الدفع نحو الديموقراطية.
كذلك يتضح مدى خطأ وخطورة مثل هذه المبالغة حين توجيه النظر إلى الأدوار المتنامية في الشرق الأوسط لقوى دولية منافسة للغرب، كالاتحاد الروسي والصين والبرازيل، وأخرى إقليمية، كإيران وتركيا، وحقيقة عدم استنادها إلى قيم الديموقراطية في بنائها لعلاقاتها مع العرب، بل وتوجيهها الدعم الاقتصادي والتجاري لبعضهم من دون مشروطية مشابهة لمشروطية الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي عادة ما تربط الدعم، بين إصلاحات وإجراءات أخرى، بالتحسن التدريجي والمطرد في وضعية حقوق الإنسان والحريات العامة.

* أكاديمي مصري.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى