صفحات الناس

وطن يبيعنا الثروة والنفوذ ثم نبيعه

null

أيمن الشوفي

نص المقال / التحقيق الذي أدى إلى منع توزيع العدد الأخير من مجلة المجتمع الاقتصادي

لم تكن نية أنطونيوس البشعلاني كأول سوري يهاجر إلى أميركا الشمالية عام 1854 أن يحصل على الجنسية الأميركية ، كما أنه لم يكن واحداً من المسؤولين لدى الباب العالي في دولة ” السفر برلك ” الآخذة بالإنقراض

لقد أقيم له نصب تذكاري في مدينة نيويورك كتب على أسفل قاعدته ” المغترب الأول إلى العالم الجديد ” .

بعد قرن ونصف سينسحب الجيش السوري من لبنان ، وسيكتب ” مايكل دين تاند ” في جريدة ” غلوبل أندميل ” الكندية مقالاً مطولاً بتاريخ 14 حزيران / جون 2005 يتحدث فيه كيف منحت السلطات الكندية كلاً من ( ر، س )ابنة أحد كبار المسؤولين السوريين و ( ز، خ )زوجة ابنه تأشيرتي دخول إلى كندا بهدف الولادة هناك ، وتمكين طفلهما من الحصول على الجنسية الكندية .

وسيتكاثر الخوف والقلق ، وسيشرع رجال أعمال كبار ، ومسؤولين بشراء عقارات في الأردن ، وآخرين ببيع عقاراتهم في منطقة المزة ، وسيغادر أهم رجل أعمال سوري إلى دبي لتوسيع استثماراته الخارجية ، وسيشتري مسؤول سوري كبير شقة في شارع ” فوش ” الباريسي ، وسنسمع عن خسارة مسؤول آخر مبلغ 20 مليون دولار كانت على هيئة ودائع قبل أن يفكر بالسفر .

قبل قرن ونصف هاجر أنطونيوس البشعلاني لأسباب لها هيئة مختلفة عن التي دفعت مسؤولين سوريين كثر عقب الانسحاب السوري من لبنان لأن يفكروا بهجران بلد اتخمهم بالثروة والنفوذ ، لأن يجهزوا جوازات سفرهم الثانية ( غير السورية ) ويحزموا نقودهم الكثيرة ، ويمسحوا الغبار العالق على أحذيتهم في مطار دمشق الدولي ويختفون إلى الأبد .

فرانكو بيلاريلا ….وآخرون.

بدا أن توطيد علاقة طيبة مع السفير الكندي السابق ” بيلاريلا ” شأناً ذا أهمية . هذا سهل منح تأشيرتي دخول إلى كندا لابنة وزوجة ابن مسؤول سوري أراد لأحفاده أن يحظوا بنظامي تعليم وصحة مجانيين غير الموجودين في سوريا … وهو مسؤول فيها ؟! عدا عن إمكانية جلب الأقارب باستخدام بنود جمع شمل العائلة في قانون الهجرة الكندي كون أن المستقبل هنا ليس مضموناً على الإطلاق ؟!

هذا يسميه إبراهيم لوزي عضو مجلس شعب سابق ( 1971 – 2002 ) ” قلة شعور بالوطنية “ويحصي ما بين ( 7 إلى 12 ) من أعضاء مجلس الشعب لسوري الحالي لديهم جنسية أخرى عدا الجنسية السورية ، كما أن عدداً من موظفي وزارة الخارجية السورية لديهم جنسية ثانية كذلك عدد من الوزراء السوريين الحاليين ومسؤولين في إدارات كبيرة ( النفط مثلاً ) لديهم جنسيات أخرى غير الجنسية السورية . ويوضح لوزي : ” في السنوات الأخيرة شهدنا أعداداً متزايدة من الذين يقصدون دولاً أجنبية كأميركا وكندا للحصول على جنسية تلك البلدان ، كما شهدنا بنات مسؤولين تتوجهن إلى تلك الدولتين بهدف الولادة بغية حصول المواليد على الجنسية . وهذه العائلات تفكر جدياً بوطن بديل لأبنائها ” .

ولا يوجد في المرسوم التشريعي رقم 276 لعام 1969 المتعلق بالجنسية العربية السورية ما يشير إلى وجوب عدم تمتع أي سوري سوى بالجنسية العربية السورية ، ويأذن المرسوم نفسه بالحق في امتلاك جنسية أخرى غير السورية

يقول د. قدري جميل : ” هناك دول تسمح بجنسية ثانية وثالثة وأخرى تسمح بثنائية فقط لكن إن كان مواطنها سيذهب إلى موقع تشريعي أو تنفيذي فهو ملزم بالتخلي عن جنسيته الثانية والتي تحد في هذه الحالة من حقوقه المدنية وهذا مشروع وصحيح في آن ، ذلك أن المسؤول على أي مستوى وخاصة الدرجة الأولى لا يمكن أن يقسم الولاء لدولتين في الوقت ذاته ، فالسوري الحاصل على الجنسية الأميركية مضطر لأن يقسم الولاء لدولة الولايات المتحدة ، وحكومتها ، والدفاع عنها في حالة الحرب ، وهذا لا ينسجم مع الخصوصية السورية في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني ، لذلك يكون من غير المفهوم أن يسمح المشرع السوري لمزدوجي الجنسية أن يتسلموا مناصباً تشريعية أو تنفيذية على مستوى أعضاء مجلس شعب أو وزراء ” .

هذا يدفع إبراهيم لوزي النائب السابق في مجلس الشعب السوري لأن يقول : ” إن أي مواطن سوري له جنسية ثانية يقسم اليمين لخدمة البلد المانح للجنسية ، وهذا يجعل من كون خدمة المسؤولين السوريين المجنسين في هذه الحالة مزدوجة فيها قسم ولاء للوطن وقسم ولاء للجنسية الأجنبية . هذا خطير على مستقبل البلاد ونجد أنه في كثير من دول العالم يقوم أعضاء المجلس النيابي بإلغاء جنسيتهم الثانية لما لهذا من تأثير على اتخاذ القرار والقضايا الوطنية ” .

وظاهرة تمتع عدد من أصحاب المناصب السوريين بجنسية ثانية بدأت تلحظ منذ منتصف الثمانينات . يقول لوزي : ” لقد ناقشت هذا الموضوع في مجلس الشعب حينها ولم تكن ثمة أية معالجة ” .

الأرجح أن نمو الانتهازية الفردية بدا ملحوظاً قبل هذا التاريخ ، والتبرؤ من حاجات الشعب كان قائماً بذات الطريقة ، أي أن تناسل الوطنية لم يكن وارداً أو محسوساً . كان الشعب يركل إلى أسفل ، وتؤسس النخبة في الأعلى زمنها الخاص ، وقوانينها الخاصة .

يستطيع د. قدري جميل أن يقول : ” أن يتمتع المسؤولون السوريون بجنسيتهم السورية هذا ليس له علاقة بالسيادة الوطنية . بل هو مرتبط بالأمن الوطني ، وقد يقول قائل : إن البعض يسعى من وراء الحصول على جنسيات أخرى غير السورية إلى التمتع بميزات تنقل بين البلدان جراء التميز السلبي تجاه جواز السفر السوري . هذا يبدو مبرراً ومفهوماً بالنسبة لرجل أعمال ، وغير مفهوم بالنسبة لعضو مجلس شعب أو وزير ، ويجب على القوانين السورية أخذ هذا بعين الاعتبار ” . د. محمد حبش عضو في مجلس الشعب يعلم جيداً أن عدداً من أعضاء المجلس الحالي يحملون أكثر من جنسية في آن ، لكن لديه موقف يبدو مغايراً لما طرحه كل من إبراهيم لوزي ، ود. قدري جميل ، يقول حبش : ” أعلم أن عدداً من أعضاء مجلس الشعب لديهم أكثر من جنسية .لكني شخصياً لست من الذين يعوّلون كثيراً على الولاء للجنسية ، أو ربط الانتماء بها ، خاصة أن القانون السوري يجيزها ، وبالطبع هناك عرف سائد مفاده أن يكون الأشخاص في مراكز القرار جنسية بلدنا فقط . غير أن هذا العرف ليس محسوماً بلغة القانون ، وأنا لست مع هذا العرف ، ولا مع فحص وطنية المواطن عبر وثيقة الهوية أو الجنسية التي يحملها. فنجد أن أشخاصاً يحملون الجنسية السورية فقط ولا يتمتعون بالحس الوطني الكافي ، وآخرون يحملون جنسية ثانية غير السورية ولديهم حس وطني عال ” لكن نظرياً يسمح القانون الأميركي للمواطن بازدواج الجنسية كما يسمح له بالاحتفاظ بجنسية بلده الأصل . لكنه يسعى خلال إجراءات التجنيس إلى الدفع باتجاه التخلي عن جنسية البلد الأصلي . إنه على الأرجح لا يؤمن بولاء ثنائي . لذلك نجد أنه لا يحق لمن حصل على الجنسية الأميركية ولم يولد على أراضيها الترشح لمنصب الرئيس أو نائبه مثلاً.

حجة رجال الأعمال .

لم تؤسس فتوى د. محمد رمضان البوطي المتعلقة بعدم جواز التجنس حجة مقنعة للراغبين بذلك ، لقد حملت على وجه الخصوص مجازاً اغترابياً واضحاً نصها : ” لا يجوز التجنس إلا في حالة الضرورة القصوى إذ أن التجنس هو خضوع لولاية غير المسلمين على المتجنس المسلم . وقد نهى الله عن خضوع المسلم لهذه الولاية بنصوص قاطعة ، ولك في الإقامة ما يغني عن التجنس ” .

د.حبش لايتفق مع نص الفتوى ، بل يذهب أبعد من ذلك إذ يقول : ” هنالك 7 ملايين مسلم في أميركيا ، ولا أعتقد أنه من المفيد بقاء المسلمين في الولايات المتحدة معزولين عن سواهم من مواطنين إميريكيين وأتمنى عليهم أن يشاركوا بفاعلية عالية في الحياة العامة بما فيها حق الانتخاب ، وأنا إطلعت على نص القسم الخاص بالحصول على الجنسية الأميركية ولم أجد فيه ما يتناقض مع الإسلام فلا يوجد فيه ما يشير إلى وجوب مقاتلة المسلمين مثلاً ” .

اليوم تحصي وزارة المغتربين نحو 19 مليون سوري خارج الوطن ( هذا الرقم يماثل عدد سكان سوريا حسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء عام 2007 ) .

وفي الستينات يمكن التقاط مثال مغاير فيه صورة بليغة لأهمية الجنسية السورية على نقيض ما آلت إليه لاحقاً .

يقول أبو الهدى اللحام عضو غرفة تجارة دمشق : ” حينها كان السعوديون يعرضون جنسية بلدهم على السوريين وكان كثيرون منهم يرفضونها . وقتها كانت السعودية في بداية نهضتها وعدد سكانها قليل . كانت الحاجة إلى رجال أعمال ومستثمرين سوريين وسواهم ، وأتذكر أن أكرم بقاعي كان من كبار المتعهدين السوريين رفض الجنسية السعودية – كانت الجنسية السورية أفضل وأجدى – أما الآن فقد اختلفت المقاييس كلياً ، وصار رجل الأعمال السوري أو التاجر بحاجة إلى جنسية أخرى غير السورية لتسهيل عمله وسفره ، وأعلم أن عدداً كبيراً منهم يملك الجنسيات الأميركية أو الكندية أو السويدية أو الفرنسية أو الألمانية ” .

بدء التفكير بالحصول على جنسية أخرى غير السورية يرجعه نزار قباني عضو غرفة تجارة دمشق إلى زمن التأميم يقول : ” في ذلك الوقت توجه الكثير من الصناعيين ورجال الأعمال السوريين لاستحصال جنسيات أخرى نتيجة الظرف الاستثنائي الذي أفرزه التأميم . أرادوا جنسية أخرى لتسهيل الحركة والانتقال . وأيضاً لإعطاء الطمأنينة . لقد قصدوا بداية دولاً مجاورة . وعدد منهم حصل على الجنسية اللبنانية لتمكينه من التملك هناك ” .

غير أن الوقت الذي بدل ملامحنا ، تبدلت ملامحه هو الآخر ، لم تعد الهجرة متاحة للجميع كما كانت قبل قرن أو نصف قرن . صارت الآن حكراً على المسؤولين السوريين أو رجال الأعمال والتجار .

أما المواطنين العاديين المولودين من طوابير طويلة للفقر والجوع والاغتراب فأغلبهم محكوم بالنفي داخل الوطن .

ثمة إذاً ما يغري في الحصول على جنسية أخرى ، يقول اللحام : ” هناك اتجاه للزواج من أجنبيات كأحد الطرق للحصول على جنسية أجنبية أو الولادة في الخارج لذات السبب . في كندا مثلاً العلاج والتعليم مجانيين وهذان سببان كافيان لأن يفكر المقتدرون مالياً في سوريا بالحصول على الجنسية الكندية ” .

قباني يعتبر أيضاً أن هذا اغتراب جديد يؤول إلى كندا أو الولايات المتحدة ، وأن الحصول على جنسية إحدى هاتين الدولتين يفيد كثيراً ويوضح : ” هناك ميزات تمنحها الجنسية خاصة الكندية كالضمان الاجتماعي والصحي والتعليم المجاني ومنح أجور للعاطلين عن العمل ، ورواتب للشيخوخة ، وهذا كله غير موجود هنا ” .

د. محمد حبش يسبغ على هذه الظاهرة صفة المشكلة ، ويقول : ” هي مشكلة في طريقها إلى التفاقم ، وبعد عشر سنوات سنتفاجأ بأن الحاصلين على جنسية ثانية بالإضافة إلى الجنسية السورية قد بلغوا رقماً كبيراً ، ويجب قبل كل شيء فهم الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة

في حين أن إبراهيم لوزي يقول : ” هذه الظاهرة تدفع إلى الإحساس بالمرارة وينبغي معالجة كل ما يدفع أ ياً منا للتفكير بالهجرة وامتلاك جنسية ثانية من خلال حل مشاكل البطالة والسكن والصحة والتعليم ” .

النخبة مرة ثانية

عام 1913 وصل عدد المغتربين السوريين في الولايات المتحدة إلى عشرة آلاف . كان قبل أن تحدد الولايات المتحدة بنظام ( الكوتا ) سقف الهجرة السنوية بـ925 شخصاً . حدث هذا عقب الحرب العالمية الأولى تحديداً عام 1924 .

قبل هذا التاريخ كان ينبغي على جريدة نيويورك ديلي تريبيون أن تصف الجالية السورية المهاجرة إلى نيويورك عام 1892 بأنها تقطن مستعمرة زاهية بمخازن السلع السورية وفيها باعة جملة ، وباعة جوالين ومقاه ومطاعم وجمعيات وصحيفة تصدر بالعربية ( كوكب أميركية ) التي أسسها نجيب بن يوسف عربيلي الدمشقي .

وعام 1908 قدرت مجلة ” الهلال ” المصرية عدد السوريين في الولايات المتحدة بين 100- 150 ألفاً .

أما في كندا فبلغ عدد المهاجرين العرب عقب حرب الخليج الأولى نحو نصف مليون أغلبهم من السوريين واللبنانيين وكذلك في المكسيك . حتى أن السوريين وطئوا جزر البحر الكاريبي في الدومينيكان وهندوراس وهاييتي وبنا .

غير أن طلائع الهجرة إلى أميركيا الجنوبية جاءت عقب الهجرة إلى أميركيا الشمالية بعقدين من الزمن . تحديداً منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر .

لقد كان أوائل المغتربين إلى الأرجنتين من منطقة القلمون في سوريا . حدث هذا منذ عام 1882 . وفي البرازيل هناك النادي الرياضي السوري المؤسس عام 1914 في مدينة سان باولو ، إضافة إلى النادي الحمصي ، والنادي الحلبي .

اليوم اختلف هذا اليقين وتبدل ، وصارت الهجرة إلى كندا تكلف مابين ربع مليون إلى نصف مليون ليرة سورية ، ويتطلب الحصول على الجنسية الأميركية بغير طريقتي الولادة والزواج من أمريكية نفقات بعد الحصول على ” الغرين كارد ” نحو 3 – 4 مليون ليرة سورية خلال ثلاث سنوات إضافة إلى تقرير الموافقة الخاص الذي صار لازماً بعد أحداث 11 أيلول وليمنحه مكتب التحقيقات الفيدرالية ( FBI ) .

لذلك صار السوريون نوعان ، نصفهم خارج الوطن والآخر يتوجع في هذا الداخل الذي تغيب عن آفاقه سبل رفاهية العيش المأمولة

عن كلنا شركاء/ 13/02/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى