صفحات مختارةعمار ديوب

الثأر من حقبة الخمسينيات

عمار ديوب
يرصد المتابع للصفحات الفكرية في أكثر الصحف شهرة، وفي الأقل منها شأناً، تياراً فكرياً «ليبرالياً» يصفي حساباته مع حقبة الخمسينيات. تنطلق من تحميل تلك الحقبة مسؤولية ما نعيشه من مشكلات، فيتم التشنيع بالتيار القومي والماركسي، والأنظمة التي سمّت نفسها حينذاك بالتقدمية.
بالمقابل يتم، الإشادة بالليبرالية من دون العلمانية، مع توليفة فكرية استشراقية، تقول إن مجتمعاتنا كانت طائفية ولا تزال كذلك، وبالتالي ليس من الممكن تجاهل دور الدين كخصوصية استثنائية بين شعوب العالم، وكل نظام سياسي لا بد أن يراعي هذه الطائفيات، وأن يكون النظام السياسي، نظام أكثريات تحكم وأقليات تطالب بحقوقها! و لا يفوت هذا التيار إغماض العين عن الدول الرجعية، بل ويسميها بدول الاعتدال والعقلانية. فيا لبؤس الليبرالية العربية هذه!
هذا الفكر، يعفي نفسه من النزول من سطح المشكلات إلى عمقها، فلا تفكير فعلياً بما كان يمثله التيار القومي، ولماذا برز أصلاً كتيار مهيمن، ولا تفكير جاداً بما كانت تمثله الأحزاب الشيوعية، ولذلك يأخذ التشنيع صفة الإطلاق، ويأخذ التحبيذ لليبرالية أيضاً نفس الصفة.
نحن نرى، أن نقد حقبة تاريخية سابقة لفهم مرحلة لاحقة أمر سليم تماماً، فتلك التيارات كانت بالفعل تملأ العالم العربي، وصار القومي منها بالسلطة، وتستحق منّا النقد والبحث، ولكن النقد ليس ثأراً أو تشنيعاً بطريقة التفكير الديني الإطلاقي، فما قدمته – سلبيات وإيجابيات – لا يمكن تجاهله… ولكن أيضاً لا يمكن تجاهل ضرورة الأحزاب القومية أو الماركسية كقوى امتلكت رؤية هامة لفهم مشكلات عالمنا وتمتلك حلولاً معينة لها. الهام معرفياً في حالة التشتت الفكري السائد الذي يشار إليه وكأنّه تجديد للفكر العربي، نقاش تخلّف البنية الاجتماعية العربية، ولماذا لم يتم تجاوزها في البلدان التي خضعت للـ«ثورية» وفي البلدان التي استمرت على ما هي عليه، كالسعودية والمغرب مثلاً؟. التدقيق هنا، يُظهر أن الحملة على حقبة الخمسينيات، تستخدم ذات المنهجية التي كانت تعمل بها تيارات تلك الحقبة، أي تخطئة الآخرين وتسطيح كل شيء والوقوف عند عتبة الباب من دون الدخول إلى باحة المشكلات، والتخطئة الكليّة للأولين، وبالتالي لا يمتلك التيار الليبرالي نقداً أو تجاوزاً ذا معنى لحقبة الخمسينيات.
يمكن أن تكون سطوة واستبدادية الأنظمة التي نتجت عن تلك الحقبة هي السبب عن هذا النمط الصوري من التفكير، ويمكن أن يكون الاندماج العاطفي باللبرلة هو السبب، ويمكن أن يكون الفكر الاعتقادي السائد عربياً هو الركيزة المتسربة إلى التيار الليبرالي، والتي تجعله تياراً تصفوياً مع حقبة الخمسينيات. هنا لن أناقش مفهوم العولمة وأنّها تجاوز للقومية، فهذه الفكرة، أثبتت فشلها كليّة؛ فمع العولمة يُثمر العالم ثورة دينية محافظة، وطائفية مشتعلة، وانقسامات قومية، وإثنية وحروباً على الهوية بكل أشكالها. وبالتالي لم تخلق العولمة مواطنة عالمية وأنتجت بالمقابل كل أشكال الهويات التي مرّ بها البشر. الثأر العدمي في هذه الشروط يدعم فقط هذه التمظهرات القاتلة.
الليبرالية فلسفة تمجد حرية الفرد في السوق، ما دام مالكاً، والديموقراطية مدعومة بالعلمانية والمواطنة تسمح لكل التيارات المجتمعية بالمشاركة السياسية بالتعبير على قدم المساواة، وهو ما تمّ عبر التاريخ بالتدريج، ووفق قوّة الفئات المتصارعة المطالبة بحقوقها.
الليبرالية هذه، هي التي عملت على الإعلاء من شأن القومية وإنشاء الدولة الأمة، وهي عبر الديموقراطية أتاحت المجال لبروز الماركسية، والتي جاءت بسببٍ من فشلها في احتواء الكليّة المجتمعية الحرّة، فعملت على إنصاف بقية أفراد المجتمع، وإشراكهم في المواطنة العامة، وطبعاً تلك الفئات الأكثر فقراً في المجتمع، وكلامنا هنا لا علاقة له بالتجربة الشيوعية وكوارثها. الماركسية بما هي رؤية ومنهجية وفلسفة ليست من خارج مشروع الحداثة، بل هي تعدّ أحد الورثة الشرعيين لليبرالية، بما تتيحه لكل أفراد المجتمع بأن يكونوا مواطنين، بغض النظر عن الجنس والعرق والمكان والدين، ومتضمنة تصفية الاستغلال.
إذن خلق تعارض مطلق بين الليبرالية من جهة والماركسية والحركة القومية من جهة ثانية، وشن الثأر على حقبة الخمسينيات، ليس هو الحل، و المستفيد الفعلي من عقائدية كهذه هي فقط التيارات الدينية الأصولية (وتحقيق مصالح المافيات العولمية)، التي ورغم التمايز بينها – فبعضها لديه وجه وطني وآخرون وجههم ظلامي بالكامل- فإنّها في المطاف الأخير، تيارات طائفية، لا تعمل سوى على إنتاج التأخر تخلفاً، وإعادة المجتمع إلى عقلية القرون الوسطى. هذا النقد لا يعني تجاهل دورها «الوطني»، ولكننا نحدده، بما لا يتعارض مع مفاهيم المواطنة والعلمانية والديموقراطية. وبالتالي دور الدين- إن كان هناك من دور سياسي ما – لا يجوز أن يتعارض مع الحداثة، وكل تعارض هو بالتأكيد مؤشر خطير على اجتثاث مستقبلي لأي تطورات يمكن أن تساهم في تحدّيث المجتمع.
ولنعد لنسأل بشكل عقلاني: هل الليبرالية هي الحل لمشكلات العالم العربي، وهي التي لم تسمح للمغرب – مثلا – بتجاوز التطور في سوريا؟ ليست هي الحل! فأين هو الحل إذن؟ طبعاً لا يمكن سوى لمغامرٍ القول بتملكه حلاً معيناً ومحدداً، ولكن ومن جهة أخرى، فإن العالم الرأسمالي يشهد أزمات تطال كل بنيته، وبالتالي أصبحت البشرية بحاجة إلى نظام يتجاوز هذه المرحلة، وبالتأكيد لن يسقط هذا النظام غداً، ولكنه سيستمر فقط بإدارة الأزمات الفاعلة فيه، وبسبب غياب مشروع بديل فيه.
منهجيتنا في تحليل ذلك التيار الليبرالي، لا تتجاهل أهمية الليبرالية، ولكنها لا تفترضها كحل، ويمكن الاستفادة منها ضمن رؤية تنويرية مستمدّة من مشروع الحداثة، ككلية مفاهيمية، مع نقد أصيل للمشروع الرأسمالي والاشتراكي المحقّق، وليس كما يتم التراجع عنها في الدول المتقدمة وهدر قيمة التنوير وآثار الثورة الفرنسية وما تمّ من تطور عقلاني بعدهما.

([) كاتب من سوريا
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى