صفحات مختارةميشيل كيلو

هل قال ماركس: الدين أفيون الشعوب؟

ميشيل كيلو
في خمسينيات القرن الماضي، شاع مصطلح «الدولة اليهودية» في الوسطين السياسي والثقافي. كان يقال آنذاك: إن هرتزل، الصحافي اليهودي النمساوي، هو أول من رسم صورة تفصيلية للدولة التي تريدها الحركة الصهيونية في فلسطين، وإنه كتب كتابا عنوانه «الدولة اليهودية» ما لبث مؤتمر بال عام 1897 أن وافق على مضمونه وتبني فكرته. بعد هزيمة حزيران، كتب الأستاذ فائز الصايغ في مجلة الدراسات الفلسطينية مقالة عرج فيها على الكتاب، وقال إن عنوانه ليس «الدولة اليهودية» بل «دولة اليهود» (بالألمانية يودنشتات judenstaat)، وشرح لماذا كانت ترجمة الكتاب مجافية للعلم، فالعقل الأوروبي الحديث يرفض أن ينسب صفة دينية إلى دولة خاض هو نفسه نضالا فكريا وسياسيا امتد لقرون من أجل فصل الدين عنها، دولة يمكن لمواطنيها أن يكونوا مسيحيين أو مسلمين أو يهودا، دون أن تكون هي نفسها مسيحية أو مسلمة أو يهودية.
قبل فترة قرأت حوارا مع صديق عزيز يعد علما من أعلام الماركسية والتجديد الفكري في وطننا العربي، كما قرأت مقالة في جريدة «السفير» للأستاذ صقر أبو فخر، وهو من هو في عالم التوثيق وسعة المعرفة والاطلاع، فوجدت الأستاذين الكريمين يستشهدان بجملة لماركس تقول «الدين أفيون الشعوب». وكنت قد أخبرت قبل أيام صديقا يعمل أستاذا للفلسفة في إحدى الجامعات العربية بأن صديقا مشتركا لنا قال على لسان ماركس إن الدين أفيون الشعوب، فإذا بالصديق يتساءل باستغراب: وأين الخطأ في هذا ؟. أخيرا، قيل لي إن الصديق العزيز هاشم صالح كرر القول ذاته .
هنا، نحن أمام خطأ شائع يشبه خطأ «الدولة اليهودية»، الذي ما زلنا نجده بين حين وآخر في كتابات بعض متابعي تاريخ القضية الفلسطينية. والحقيقة ان ماركس لم يقل يوما «الدين أفيون الشعوب»، بل قال: «الدين أفيون الشعب». والفارق نوعي بين الشعوب، التي يشكل مجموعها ما نسميه البشرية، وبين الشعب، الذي كان الأب سييس قد أسهم في اكتشافه وتحديد معناه من خلال كتاب وضعه قبل الثورة الفرنسية بقليل، جعل عنوانه «ما هي الطبقة الثالثة؟». الشعب عند ماركس هو هذه الطبقة الثالثة، التي هي عند سييس الشعب، وتضم العمال والفلاحين والحرفيين والبرجوازيين الصغار وبعض فئات الرأسماليين، ولا يخرج منها أساسا غير الإقطاعيين وأمراء الكنيسة. كان ماركس يدرس الطبقات في فرنسا، ويتابع علاقات الكنيسة مع الفلاحين، حين رأى رسما في إحدى الصحف يصور فلاحا هزيلا وفقيرا يتضور جوعا وراهبا سمينا تكاد تقتله التخمة، وقد كتب الرسام تحته: كلما كان الدير أقرب، كان الفقر والجوع أشد. في ما بعد، كتب ماركس نصا عن الدين قال فيه: «الدين أفيون الشعب»، أي العامة، وهو يفعل فيهم فعل الأفيون، لأنه، التعبير عن استلابه الدنيوي، الذي يجعل منه «النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية ومنطقه في صيغته الشعبية، والتحقق الخيالي لكينونة الإنسان لأن كينونته لم تتحقق في الواقع »، فـ«الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي و… احتجاج عليه… الدين زفرة الإنسان المقموع، قلب عالم لا قلب له، وهو روح شروط اجتماعية لا روح فيها … إنه أفيون الشعب» (نقلا عن مقالة الأستاذ صقر أبو فخر في جريدة السفير يوم 2 أيلول بعنوان: التقليد أفيون العرب).
لم يكن ماركس يتحدث عن الشعوب، أو عن الدين والشعوب، بل كان يراقب أحوال الكنيسة وعلاقاتها مع الشعب، الطبقة الثالثة. وفي هذه الواقعة المحددة مع الفلاحين، فقال كلاما يصف حالة واقعية بلغة فلسفية تأملية تلخص نظرته إلى التحرر الإنساني باعتباره تحرر الإنسان المشخص، كاسم نوع مجرد وكمواطن مشخص، في واقعه الملموس، الدنيوي، ومنه حالته في الريف الفرنسي، الذي كان يدرسه .هذا ما قاله ماركس. الدين أفيون الشعب : (Religion ist opium des volkes).
يؤكد كتاب ومفكرون كثيرون موقف ماركس والماركسية من الدين عندما يستشهدون بعبارة «الدين أفيون الشعوب»، التي تقلب الشعب بالمعنى الذي بلوره سييس إلى الشعوب، وتعمم حالة محددة بان تضفي عليها صفة مجردة ومطلقة، فلا هي تعبر عن موقف ماركس، الذي لو كان مؤمنا بأن الدين أفيون الشعوب لقال ذلك دون مراوغة، وهو الذي لم يتردد في قول ما كان يراه، وقال ما هو أشد وأكثر راديكالية من هذه الجملة، ولا هي تخدم النقاش حول الماركسية ـ أو الفلسفة عموما ـ والدين، الذي قد يكون فقد بعض أهميته في أوروبا، لكنه يبقى جزءا تكوينيا ورئيسيا من حواراتنا ومكونات فكرنا، نحن الذين يحوم عقلنا منذ زمن طويل حول الفكر الديني، أي قراءات هذه الجهة أو تلك للدين، ونتفادى في مواقفنا مبدأ وضعه ماركس يقول: «نقد الدين هو رأس كل نقد»، ولم ننجح بعد في بلورة موقف من الدين ومسائله تشاطرنا إياه قطاعات واسعة من مجتمعنا، ونفتقر إلى نظرة تستعيد الإنسان من عالم الغيب إلى عالم الواقع، وتحرر إنسانيته من استلاباتها المتنوعة والمركبة، فتعينه على تحرير نفسه بيده، وتحوله إلى حامل مشروع تحرر ذاتي لا ينوب عنه فيه أحد، دولة كان أم حزبا أم جماعة؛ نظرة ترى الدين بدلالة الإنسان، وتقوم على رؤية معرفية/ فلسفية للعالم يمكن ترجمتها إلى مواقف عملية تغطي حقول الدولة والمجتمع والمواطن/ الفرد، باعتبارها حقولا للإنسان وللحرية، وللإيمان بالإنسان وبالحرية .
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى