صفحات الحوار

برهان غليون:نموذج الإسلام الإيراني تراجع لمصلحة النموذج التركي والنظام العربي لن يتطور ما لم تتطور المعارضة

null
حاوره: صلاح الدين الجورشي*
“برهان غليون” مثقف سوري، يعيش في المهجر، حيث يدرّس كأستاذ محاضر منذ سنوات في جامعة “السوربون” في باريس. وهو أحد الكتاب العرب القلائل الذين يشاركون بكثافة منذ سنوات، في إثراء الجدل الفكري الدائر حول كبريات المسائل والتحديات التي تواجه المنطقة. كما أنه عرف بدفاعه عن حق الحركات الإسلامية في المشاركة السياسية، رغم كونه غير إسلامي. في هذا اللقاء، وبعد تجارب عديدة خاضتها هذه الحركات، مثيرة جدلاً واسعاً حولها، يحاول غليون أن يقيّم أداء الإسلاميين، ويبشر باحتمال تأثير النموذج التركي على الساحة العربية إذا توفرت بعض الشروط.
– عُرف برهان غليون بمحاولاته إقناع النخب العربية، بضرورة التزام الفهم الموضوعي لدور حركات الإسلام السياسي، وإدراك طبيعة العلاقة القائمة بين الديني والسياسي في العالم العربي بالخصوص. الآن، بعد سلسلة من التجارب التي خاضتها هذه الحركات في أكثر من بلد، هل ما تزالون تحملون القناعة نفسها، أم أنكم أصبحتم أكثر حذراً؟
غليون: لا، أنا مازلت أعتقد أن هذا الرهان سليم. إنما يجب النظر اليوم إلى الإسلاميين كقوى متعددة، فهم ليسوا طرفاً واحداً متجانساً. فالإسلاميون في سورية على سبيل المثال ليسوا فقط حركة “الإخوان المسلمين”، ولا يجوز اختزالهم في الأحزاب والجماعات أو الأفراد المنظمين ضمن جمعيات. بل هناك رأي عام “إسلاموي” قوي جداً في العالم العربي، ولا يمكن لأي مشروع تغيير ألا يأخذ ذلك بعين الاعتبار، أو أن يسقط من حسابه ما تمتلكه الفكرة الإسلامية من إمكانيات سياسية كامنة لدى الجمهور الإسلامي. لو أخذنا سورية كمثال، ألاحظ أن الإسلاميين وغيرهم من الأطراف والقوى يعانون من ضعف ملحوظ في مجال الخبرات السياسية. وأنا أفسر تحالف المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، السيد علي صدر الدين البيانوني، مع نائب رئيس الجمهورية السابق عبدالحليم خدام، بعدم امتلاكه الخبرة السياسية الكافية، أو ضياع التقاليد السابقة بعد أكثر من أربعين عاماً من الحكم الدكتاتوري المطلق. فسلوك الإخوان في هذا السياق لا يعبّر عن تراجع نظري أو تخلي عن مواقف سبق وعبّروا عنها في وثائقهم المرجعية، ونأمل أن يستمروا في مسعاهم للاقتراب من الفكر الديمقراطي. وأنا أعتقد أن البيان الذي أصدرته حركة الإخوان في سورية حول المسألة الديمقراطية، ربما يشكل الوثيقة الأكثر تقدماً في أوساط الحركات الإسلامية العربية. كما أن في سورية هناك حركات إسلامية عديدة متأثرة بالتيار التركي، وهي تتمثل أكثر فأكثر هذه التجربة وتحاول أن تبني عليها.
– يعني أنت لا توافق الذين يرددون أن بعض الحركات الإسلامية تراجعت أو التفت على الشعرات الديمقراطية التي رفعتها من قبل، وخاصة خلال السنوات القليلة الماضية؟
غليون: لا أعتقد أن الإسلاميين تراجعوا، أو أن الواجب عدم الرهان عليهم أو الثقة بهم من أجل إنجاز تحول ديمقراطي وسلمي، سواء في سورية أو في غيرها. إنما أعتقد بأن انقسامهم من جهة، وضعف الخبرة السياسية من جهة ثانية أضعف مردودية العمل معهم. وهي حالة يشتركون فيها مع بقية الحركات السياسية الأخرى كما سبق وأشرت.
-أشرت في حديثك إلى النموذج التركي، فهل تتوقع أن تؤثر هذه التجربة مستقبلاً في مسارات الحركات الإسلامية العربية؟
غليون: إن أفق الدولة الإسلامية كما تصوره الإسلاميون في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وحتى مطلع الألفية الثالثة، بدأ يواجه صعوبات ويدخل في مأزق وينحسر رغم أن هناك من مايزال يدافع عنه. كما أن نموذج الإسلام الإيراني أخذ بدوره يتراجع ويفقد بريقه السابق لصالح نموذج الإسلام التركي. وأنا أعتقد أن هناك فرصا كبيرة لأن تتطور الحركات الإسلامية العربية في هذا الاتجاه. فالنموذج الذي أصبح أكثر إغراء وجاذبية للشباب الإسلامي، الذي تمثل الإخفاقات السابقة لحركة الإخوان المسلمين وغيرها في بقية البلاد العربية، في الجزائر وتونس وغيرها، هو بالتأكيد النموذج التركي. وأنا أسمع كثيراً في تنقلاتي وحواراتي داخل سورية وخارجها مع شباب الإسلاميين، كثير منهم ينتقلون حاليا من النموذج الإيراني إلى النموذج التركي.
-هل هناك مؤشرات فكرية من شأنها أن تدعم هذا الاحتمال الهام؟ لأن ما حصل في تركيا كان نتيجة تراكم تاريخي وسياق سياسي واجتماعي مغايرين لما هو قائم حالياً في دول العالم العربي. يضاف إلى ذلك التحول الاستراتيجي الذي حصل في رؤية شق من الحركة الإسلامية التركية لطبيعة المشروع الإصلاحي في تركيا.
غليون: لعل السؤال من وجهة نظري تكون صياغته على النحو التالي: هل هناك أمل في أن يتحول التيار الرئيسي للحركة الإسلامية العربية نحو موقف قريب من الإسلام التركي؟ هذا السؤال تصعب الإجابة عليه في الوقت الراهن، لكن من المؤكد أن هناك أطرافاً على هامش هذا التيار الرئيسي قد بدأت تتأثر بالحالة التركية. النقاشات الدائرة هنا وهناك تدل على ذلك. مثلاً “حركة العدالة والتنمية” السورية التي أخذت نفس التسمية، تؤكد ذلك وتعلن صراحة بأنها متأثرة بالنموذج التركي. لكن فيما يبدو لي أن هؤلاء الإسلاميين المتأثرين حالياً بما حصل في تركيا، يعود موقفهم ذلك إلى النجاحات التي حققها حزب العدالة والتنمية التركي، لكنهم
ما يزالون يجهلون الأسس الفكرية والسياسية التي قامت عليها هذه التجربة. وأهم هذه الأسس هي أن حزب العدالة والتنمية التركي هو حزب ليبرالي يستند على الخلفية الإسلامية، وليس حزباً إسلامياً يتبنى الليبرالية. وكان طبيعياً أن يتصرف كحزب ليبرالي، وأن يتبنى سياسة اجتماعية متأثرة باقتصاد السوق، وأن تكون له علاقة قوية بالطبقات الاجتماعية التي تؤكد توجهاته الإسلامية.
– هل تعتقد أن المرحلة الراهنة تتوافر على شروط من شأنها إيجاد فرصة التأثر بالتجربة التركية؟أقصد بذلك الشروط السياسية والفكرية.
غليون: أعتقد أن من غير السهل تحوّل الجزء الأكبر من الإسلاميين باتجاه الاقتراب من النموذج التركي إذا لم يحصل انفتاح داخل النظم السياسية العربية، لأنه في ظل نظم مستبدة ومحتكرة للحياة السياسية والثقافية، سيبقى الجسم الرئيسي للحركات الإسلامية العربية متمسكاً بمواقفه وتوجهاته الكلاسيكية، ومحكوماً بنزعات المواجهة والتصدي والتطرف أحياناً، لأنهم يواجهون أيضاً أنظمة متطرفة. ولهذا أعتقد أن أسس قيام تجارب على نمط ما يجري في تركيا ماتزال ضعيفة في المنطقة العربية. أي أن فرص تحول الإسلاميين إلى الليبرالية أو قبولهم بتوجهات ذات طابع ليبرالي في مشروعهم السياسي ماتزال بعيدة، نظراً لأزمة النظم السياسية الراهنة في المنطقة.
– إذاً، أنت تعتقد أن احتمال تأثير التجربة التركية على الحالة الإسلامية العربية قوي، لكنك تعتبر أن الطبيعة الاستبدادية للأنظمة تحد من فرص تحقيق ذلك؟
غليون: نعم، الاحتمال قوي، لكننا لا نطمع بأن تكون لدينا ظروف مشابهة للتجربة الديمقراطية التركية، فهذا كثير حالياً. كل ما نرغب به أن يتوفر للإسلاميين وغيرهم أفق يُكسبهم شيئاً من الأمل في أن يكونوا مشاركين في تقرير حياة مجتمعاتهم، وألا يبقوا مهمّشين ومطاردين ومستبعدين. لقد كانت أنظمة عدد من الدول العربية في مرحلة سابقة، تسعى لاستئصال الحركات الإسلامية، ثم انتقلنا إلى مرحلة الإقصاء والضغط. وأعتقد أنه لا يمكن توقع أن يتطور الطرف الآخر، ما لم نتطور نحن. فلا يمكن أن يتطور النظام ما لم تتطور المعارضة. وإذا لم تتطور المعارضة، وتطرح مقولات جديدة تكون على درجة من المرونة، سيكون من الصعب دفع النظم القائمة إلى تغيير سلوكها أو خلق إصلاحات داخلها. إن جوهر الأزمة في العالم العربي هو أننا مانزال نعيش حالة مواجهة حقيقية بين تيارات الاحتجاج والمعارضة الإسلامية وغير الإسلامية، لكن بالدرجة الأولى الإسلامية منها، وبين النظم القائمة. ولم ننجح في إقامة أي حوار جدي، وبالتالي الانتقال من موقف المواجهة إلى حالة البحث عن إمكانية إقامة علاقات جديدة ومغايرة بين الطرفين. نحن في حاجة أكيدة لفسحة نراجع فيها أنفسنا، كي نتوصل إلى مجالات ولو صغيرة للانفتاح والأمل في إمكانية تحقيق تغيير، من دون عنف، فطالما بقينا في مناخ التصعيد المتبادل، فإننا سنظل محكومين بمناخ العنف والحرب الكامنة.

*
كاتب تونسي

2008/06/14 –  الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى