صفحات الناس

خلف الجربوع، تقوده أحلامه من السجن… إلى السجن!

null
أسعد العيدان
قاد حلم العدالة الاجتماعية خلف محمد الجربوع إلى الانتماء للحزب الشيوعي السوري في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. دخل خلف هذا الحزب شاباً يغادر سن المراهقة، وكان حزبه، بدوره، يمر في فترة قلقة من تاريخه وتاريخ سورية على حد سواء؛ فترة تحول ومراجعة وفرز. ففيما كانت الأحزاب القومية واليسارية تجتمع في خطاباتها على قاعدة مشتركة واحدة: التحويل الاشتراكي للمجتمع، كانت البنية الفعلية للسلطة تشهد تحولاً نحو المزيد من الاستئثار الفردي بالقرار السياسي والتشكل لفئة مستفيدة من أهل الحكم بدأت تتحلف بالاستبداد الفردي المُعاد انتاجه سورياً وتستفيد من المال العام والمساعدات العربية المتدفقة على سورية بعد حرب 1973 في خلق ثروات طائلة. بدا أن حلم العدالة الاجتماعية وهماً يتآكل بفعل جشع طبقة ناشئة لا تشبع من النهب.
في المقابل، وبعد فشل الوحدة مع مصر1961 وهزيمة 1967، بدا ضرورياً، منذ بداية السبعينيات، أن تراجع الأحزاب الشيوعية مواقفها السياسية وبنيتها الفكرية والتنظيمية. فعدَّل الجزء من الحزب الشيوعي الذي عُرف لاحقاً باسم “المكتب السياسي”- نظراً لانحياز معظم أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي إلى خياراته- تجاه مسائل الدين والقومية والقضية الفلسطينية إضافة إلى مراجعة طبيعة علاقة الأحزاب الشيوعية مع الاتحاد السوفياتي السابق نحو تغليب مسائل الاستقلالية وصنع القرار على أسس وطنية.
وعلى هذا الأساس، بين عوامل أخرى، ومع عمل السلطات الأمنية على تفتيت القوى السياسية على الساحة السورية، بدأت الساحة اليسارية تشهد فرزاً في المواقف بين شيوعيين في السلطة وشيوعيين معارضين، كذلك صار الناصريون جزئين، معارض وموالي، وحتى “البعث” أصبح بعثين على الأقل.
بمنظور استعادي، تبدو هذه المرحلة القلقة فترة بحث عن هوية خاصة، صناعة هوية مميزة للأحزاب وأعضاءها؛ محاولة للإمساك بواقع السياسة والمجتمع والاقتصاد بأدوات ومفاهيم وآليات جديدة. إلا أن هذه المحاولة الخديجة ستقطعها أعمال العنف والعنف المضاد بين أجهزة السلطة الحزبية والعسكرية والأمنية وتنظيم الطليعة المقاتلة في “جماعة الأخوان المسلمين”. ولم يكد عقد الثمانينيات يبدأ حتى كان العمل أو الانتماء السياسيين مصدراً للخوف والتخفي والسجن والعذاب وربما الموت. فذريعة العنف الأخواني، مكّنتْ النظام من البدء بعملية سحق ممنهج لكل الأطراف السياسية المعارضة. وهذه العملية طالت خلف بين من خطفتهم روح الانتقام من استقلالية وحياد حزبه إزاء الصراع الدموي والعنف المنفلت.
اكتشف خلف ورفاقه، حسب منطق تجربتهم، المقدمة المنطقية لحلم العدالة الاجتماعية، اكتشفوا قيمة الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية. وكان لابد من دفع ثمن هذا التحول، هذا الاكتشاف. فدخل خلف ومعظم الناشطين السياسيين المعارضين وقتها السجون والمعتقلات من دون إجراءات قانونية ومن دون حماية من دستور ومن دون إجراءات مقاضاة سليمة، فحالة الطوارئ المعلنة منذ العام 1963 تكفلت بكل ما يلزم.
فبدءاً بالعام 1980، فتحت السجون أبوابها لعشرات آلاف السوريين، وجاء دور خلف في العام 1985، ليمضي ست سنوات، حتى العام 1991، في سجن حلب المركزي. وفي تلك السنوات قطع أهله آلاف الكيلومترات ذهاباً إلى حلب وإياباً منها. وتحملوا الكثير من المعاناة والقلق والابتزاز والإذلال ليحصلوا على زيارة أو يُوصلوا طبخة مشتهاة أو خرجية أو خبراً عن وفاة أو زواج أو سفر أو مولود جديد مما يلبي حاجات المحابيس للشعور بأنهم ينتمون إلى الحياة، الحياة وحسب.
خرج خلف من محبسه في العام 1991، وبدأ يستكشف المواضع التي انتهت إليها الحياة في غيابه. ويستأنف ما يمكن استئنافه منها، وإن لم يجد ما يعوضه عن سنوات السجن بآلامها وحرمانها وعزلتها. تزوج بعد فترة من خروجه، وأنجب على مدار سنوات زواجه أربعة أطفال، بنت وثلاث بنين. لكن روح الانتقام لم تكن شبعتْ بعد. فلم يحصل على تعويض عن سنوات سجنه، رغم خروجه منه من دون محاكمة وكم دون حكم. ولم ولن يحصل على فرصة عمل ثابت،  فعمل عاملاً مياوماً تقتضي وظيفته مراقبة توزيع مياه الري في أحد مشاريع الري الحكومية في الريف القريب من مدينة الرقة؛ براتب شهري لا يتجاوز 6500 ليرة سورية، أي حوالي 130 دولار، لا تكفي أسرته حاجات أسبوع واحد، لتتكفل مساعدات أهله في إنقاذ باقي متطلبات الشهر.
خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من كل شهر، خلف محمد الجربوع هو آخر رجل يقطع الرقة- مدينته – من غربها، حيث منزله، إلى شرقها، حيث منزل أهله، سائراً على قدميه؛ بقامته الطويلة وجسده الناحل وخطواته الواسعة العجلى. وهو من القلة التي كانت لم تزل تعرف قيمة قطعة “الليرتين” النقدية، ما دامت كافية لركوب باصات النقل الداخلي، الترف الذي يتمتع به لأسبوع واحد من كل شهر.
لم تثنه الأحوال هذه عن ارتكاب حلم جديد، بل ربما حفزت روحه لتستعيد قدرتها على ترجي الأمل. فانخرط في العمل السلمي الديمقراطي مجدداً بعد العام 2000 ونهضة “ربيع دمشق” القصيرة. فشارك في المنتديات وكتب وجادل وخالف وانتقد، وبدا أن الرجل ينجح رفقة الآلاف من مجايليه عمراً وتجربة في طرح حلول ومخارج، بدا أن ثمن ثمرة الديمقراطية المشتهاة قد دُفع سلفاً؛ وأن مشروعاً وطنياً جامعاً ما يمكن أن يفتح أمام الجميع، بمَنْ فيهم الجلاد، فرصة التخلص من أعباء الماضي المرهقة.
بتاريخ 27-10-2009 كان خلف متوجهاً إلى لبنان عندما اُعتقل على الحدود وأُعيد إلى السجن مرة أخرى. ولم يُحل إلى القضاء إلا بعد مرور شهرين على اعتقاله. في 29-9-2010 كان يُفترض أن تُعقد الجلسة الثانية في محاكمة خلف الجربوع على أحلامه؛ جلسة مطالعة النيابة وتوجيه التهم. هذه المرة يُحاكم خلف- هو على الأقل يُحاكم هذه المرة- بتهم “النيل من هيبة الدولة” و”الاشتراك في جمعية تقصد تغيير كيان الدولة”. ها هي آراء خلف المكتوبة في مقالات والمعلنة على الملأ شفاهاً في المنتديات وتأييده لتوجهات “إعلان دمشق في التغيير الوطني” السلمي المتدرج نحو الديمقراطية تتحولاً تهماً تستوجب لحاملها عقوبة.
لكن هذه الجلسة أُجلتْ إلى 27-10-2010، وأُجلتْ معها أحلام زوجة وأبناء خلف في البدء بعدٍّ عكسي لأيام طويلة ومريرة تنقضي قبل أن يروه عائداً من رحلة يسدد فيها ثمن أحلامه؛ من أجلهم هذه المرة.
سكايز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى