صبحي حديديصفحات العالم

ذكرى ‘مسيرة المليون’: أمّة الإسلام أم الحكمة الماسونية؟

صبحي حديدي
قبل أيام، في 16 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، مرّت الذكرى الـ 15 لـ’مسيرة المليون’، التي شهدتها العاصمة الأمريكية واشنطن بدعوة من لويس عبد الفرقان زعيم منظمة ‘أمّة الإسلام’، واستقطبت بين 800 ألف ومليون مشارك أفرو ـ أمريكي.
المسيرة ضمّت النساء والرجال والشيوخ والأطفال، وانطوى برنامجها على دفع السود إلى رصّ صفوفهم، وتنظيم قواهم، وتحسين أشكال مشاركتهم في الحياة العامة. آنذاك، كانت الأجواء في صفوف الحزب الجمهوري تميل إلى اعتماد سياسات أكثر محافظة وتشدداً، في العقيدة والنظرية السياسية والعلاقات الدولية، كما في السياسات الدخلية للتأمين الصحي والإجتماعي والتعليم والضرائب، ضمن ما أطلق عليه نوت غنغرش، المنظّر البارز في الحزب الجمهوري الرئيس الأسبق للكونغرس، تسمية ‘العقد مع أمريكا’. وكاد التجاذب العقائدي الحادّ أن يفرز أمريكا إلى صفّين: فقراء سود غالباً، وطبقة متوسطة موسرة أو ثرية أو فاحشة الثراء في صفوف البيض غالباً.
وإذا كانت الذكرى الـ15 تقترن بحدث هائل وفاصل في حياة الأفرو ـ أمريكيين، هو انتخاب باراك أوباما، أوّل رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة؛ فإنّ الذكرى العاشرة، سنة 2005، ما كان لها أن تمرّ في توقيت أكثر ‘ملاءمة’: ما بعد إعصار كاترينا و’الإهمال الإجرامي الذي تعرّض له السود في نيو أورلينز’، كما قال عبد الفرقان في خطبته المطوّلة (75 دقيقة). ومن جانب آخر، لم يكن زعيم ‘أمّة الإسلام’ يأمل في توقيت أفضل لكي يعلن إطلاق ‘حركة المزيد من الملايين’، لاستئناف الماضي، أو وضع الحاضر في أصوله الماضية المتصلة. ولأنّ فرقان قارىء ذكيّ للأعاصير السياسية أيضاً، فقد سارع إلى توسيع القاعدة التي يمكن ان تتجاوب مع خطابه الناقد بشدّة للبيت الأبيض، فأدان غزو العراق ومواقف الرئيس الأمريكي جورج بوش من الإسلام والمسلمين، كما طالب بالوحدة مع أفريقيا، وتعويض المتضررين من نظام الرقّ، وتحسين شروط معاملة المهاجرين، واعتذار الحكومة الأمريكية من الهنود الحمر.
لهذا، ولأسباب أخرى تخصّ واقع الإسلام الأمريكي ضمن حركة السود العريضة، ومدى ما يمكن أن يفرزه من تضامن مع القضايا العربية، فضلاً عن الكثير من سوء الفهم أو الجهل أو التجهيل الذي يكتنف ذلك الواقع وتلك الحركة، ليس من الصائب أن تمرّ هذه الذكرى دون وقفة عند منظِّميها، ‘أمّة الإسلام’، وعند زعيمها عبد الفرقان بصفة خاصة. ذلك لأنّ إحصائية بسيطة مستمدة من خطبته الشهيرة أمام ‘مسيرة المليون’، تكفي لرسم القسمات العقائدية لما اعتمده ويعتمده من استراتيجيات عمل: لقد لجأ إلى اقتباس الحكمة الماسونية، ثم الأسفار التوراتية (30 مرّة)، فالآيات القرآنية (خمس مرات)، وبذلك كان حظّ الإسلام هو الأقلّ في خطبة تبدأ من الأنبياء موسى وداود وسليمان، وتمرّ بنبوخذ نصّر ويسوع ومتّى الرسول. والراعي البارع يعرف أن نسبة المسلمين السود هي الأقلّ، وصفوف من لبّوا دعوته تضم السود البروتستانت، ربما للمرّة الأولى في تاريخ مسيراته التبشيرية، الأمر الذي شكّل اختراقاً نوعياً لأسيجة ‘العداء للسامية’ التي يتهمه بها خصومه، والتي نادراً ما توجّه إلى بروتستانتي طهوري ينتمي إلى الطبعة الأمريكية ـ دون سواها، للإيضاح المفيد ـ من أفكار مبشّر القرون الوسطى الأشهر مارتن لوثر.
وتلك إحصائية كانت تشير إلى السياسة قبل العقيدة، ولهذا فإنّ الخطيب (المفوّه تماماً، للإنصاف) أعاد تركيب خطابه الكلاسيكي بتمهل، وحذر بالغ أيضاً. كان، هذه المرّة، ينوي تشكيل التحالف الذي لن تجد فلسفات ‘البراءة الأمريكية’ مناصاً من التعايش معه، ومتابعته، ووضعه في الحساب الأدقّ لمعادلات الحياة اليومية. وليس بغير معنى خاص أن لسانه الذرب أخذ يضرب ذات اليمين وذات الشمال، واختلط في روعه رجل الأعمال اليهودي الذي استنزف السود في الأربعينيات والخمسينيات، برجل الأعمال العربي ورجل الأعمال الفلسطيني، اسوة برجل الأعمال الفييتنامي أو الكوري. وكان ثمة دلالة كبرى في أنه خاطب السود قائلاً: ‘أنتم العبرانيون الحقيقيون، اليهود الحقيقيون! موسى كان أفريقياً، ويسوع كان أفريقياً’! هذا خطاب يطوي، إذاً، صفحة بلال الحبشي والرمز البلالي في إسلام انعتاقي وعتقي مثّله مؤذّن الرسول الأسود، وتَمثّله مالكولم إكس ذات يوم، وشاركه فيه شاب متحمس مغمور يدعى لويس أوجين ولكوت، سليل أسرة كاريبية، سوف يهتدي إلى الإسلام، ويسمّي نفسه لويس إكس، ثمّ لويس عبد الفرقان (وليس ‘فرخان’ كما يصرّ البعض في وسائل الإعلام العربية).
وهذه سياسة جديدة تدرج معادلات جديدة في العالم بأسره، ثمّ في الشطر الغربي من العالم ما بعد الحرب الباردة، وفي أمريكا… ما بعد الحداثة، وما بعد محاكمة أو. جي. سمبسون، وما بعد مايكل جاكسون، وما بعد غزو العراق، وما بعد إعصار كاترينا، و… ما بعد أوباما. عدد أعضاء ‘أمّة الإسلام’ لا يتجاوز المائة ألف، من أصل 37,6 مليون أمريكي أسود. ولكنّ عبد الفرقان يستطيع المجاهرة ببدائل سوسيولوجية وسياسية لا تنوب بالضرورة عن سياسات الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول مستقبل النصف الثاني من ‘المعجزة الأمريكية’، بقدر ما تفضح عجز تلك السياسات عن تأمين الحقوق الدنيا لهذه الملايين.
وهو يدعو إلى نظافة العقل والبدن، وإلى إحياءٍ ثقافي مضادّ يلقّن الأبيض أبلغ الدروس حول حضارة سوداء بدأت منها الإنسانية، ولا مفرّ من أن تنتهي إليها. وهو حامل لواء نظرية منطقية (صحيحة، في الواقع) تقول إنّ ‘السياسة بلا اقتصاد هي رمز بلا محتوى’، ولهذا فهو يمتلك ويدير مؤسسات اقتصادية ليست محدودة، تندرج في إطار عريض يطلق عليه اسم ‘تنظيم الشعب من أجل العمل للإحياء الاقتصادي’، أو POWER اختصاراً، و’القوّة’ في ترجمة الإختصار.
وفي عام 1983 كان عبد الفرقان مرافق القسّ جيسي جاكسون إلى سورية للتوسط في إطلاق سراح الطيار الأمريكي (الأسود) الأسير روبرت غودمان، وبدأت سماؤه تتلبد بالغيوم حين روّجت أوساط اللوبي اليهودي في أمريكا صورته إلى جانب جاكسون وهو يصافح تجسيد الإرهاب والشرّ آنذاك: ياسر عرفات. بعد أشهر معدودات سيكمل مساره السياسي بالمشاركة النشطة في حملة جاكسون الإنتخابية، كأوّل مرشح أسود يخامره حلم الوصول إلى البيت الأبيض.
وستبدأ أولى العواصف حول تصريحاته ضدّ اليهود، مما اضطرّ جاكسون إلى اتخاذ مسافة عنه وعن خطبه اللاهبة، دون أن يذهب خطوة أبعد في إدانة مواقفه وتصريحاته.
ولم يكن هذا الإجراء كافياً في عرف المنظمات اليهودية، إذ لم تمض أيام حتى كشفت صحيفة ‘واشنطن بوست’، بقلم الصحافي الأسود ملتون كولمان، أنّ جاكسون استخدم أقذع الألفاظ في وصف اليهود أثناء جلسة خاصة مع مساعده عبد الفرقان. وطوى المرشح الرئاسيّ أوراقه وحظوظه، لكنّ عبد الفرقان ردّ بهجوم مضادّ عنيف، وقال في خطبة علنية: ‘ليعرف الزعماء اليهود أنهم إذا أصابوا الأخ جاكسون بالأذى، فإنني أقسم بالله أنه سيكون آخر مَنْ ستُتاح لهم فرصة تعريضه للأذى’!
على صعيد آخر، لم يجد زعيم ‘أمّة الإسلام’ حرجاً في الإتصال بالجنرال المتقاعد كولن باول، ودعوته إلى المشاركة في مسيرة المليون، لأنّ الأخير، بدلالة لون بشرته على الأقلّ، منتسب طبيعي إلى الرسالة السياسية ـ الاجتماعية في تلك المسيرة؛ ولأنه، من جانب آخر، مرشح محتمل لرئاسة الولايات المتحدة. باول تحايل على الدعوة، وتذرّع بوجوده خارج واشنطن، وتحدث ‘بنبرة ودّية دافئة’ حسب رواية عبد الفرقان. ولكنه في اليوم التالي برر تغيبه بعدم رغبته في ‘شرعنة’ زعامة عبد الفرقان، فردّ الأخير بالقول: ‘من الذي يشرعن الآخر؟ أنا شرعي بدلالة المليون، فماذا عن شرعيته هو في صفوف البيض’؟ وكان جلياً أنه على حقّ، فمَن الذي يشرعن مَن؟
والحال أنّ خطاب القوّة هذا ينبثق مباشرة من عذابات ملايين السود، أو مئات الآلاف ممّن انضموا إلى مسيرته لا بسبب تأييدهم لمواقفه العقائدية والدينية الإنعزالية، بل بسبب إحساسهم بأن ضرورة القائد الأسود باتت مسألة ملحة مطروحة على جدول الأعمال، في كل يوم، ومع كل واقعة قاتمة باعثة على مزيد من اليأس وأحاسيس النقص والإنتقاص. هاهنا قصة مدينتين، حيث خطّ البؤس المريع الذي يفصل حدود المدينة البيضاء عن المدينة السوداء. وها هي الإحصائيات تنطق على نحو أبلغ ممّا نطقت حكاية ضرب رودني كنغ، أو احتمال تلفيق الأدلة ضد أو. جي. سمبسون: بين كلّ ثلاثة سود في العشرينات من أعمارهم، يوجد واحد زار السجن لهذا السبب أو ذاك؛ وفي واشنطن تبلغ النسبة 50’، دع جانباً البطالة والمخدرات والبغاء والجريمة. وأن تَعِد الأسود بنظافة البدن والعقل والروح، وبثقافة إنسانية كونية رائدة وخصبة، وبعيش شبه كريم بحدّ أدنى من الكرامة… فإن هذه أكبر من محض وعود انتخابية دعاوية، لأنها ببساطة تتجاوز العداء للسامية، أو الترهيب من الأبيض، أو التبشير بالنزوعات الإنفصالية؛ وتتجاوزها لأنها سياسة خام، بسيطة وبليغة وقاعدية وفاعلة.
والمرء أمام لويس عبد الفرقان في الذكرى الـ15 لـ’مسيرة المليون’، على نأي كبير عن لويس إكس في الستينيات، صاحب الأغنية الشهيرة ‘نعيم الإنسان الأبيض هو جحيم الإنسان الأسود’. آنذاك بدأ الشاب اهتداءه في المناخات الروحانية الصرفة (وغريبة الأطوار، بين حين وآخر) للإمام الأسود أليجا محمد، ووصلت أطوار تماهيه مع فلسفة الحركة إلى حدّ تأثيم قدوته وهاديه وصديقه مالكولم إكس، والمطالبة بقتله لأنّ الأخير تجرأ على انتقاد مغامرات أليجا النسائية التي لا يقرّها الشرع الإسلامي. ثمّ اختلف مع وريث الحركة ولي الدين محمد، نجل أليجا، والفتى المستنير الذي أراد إعادة الحركة إلى تيّار الإسلام العالمي الطبيعي، ووجد الدعم كل الدعم في قرض ثمين بمبلغ خمسة ملايين دولار قدّمه الزعيم الليبي معمر القذافي في أواخر الثمانينيات.
فيما بعد سوف يعثر عبد الفرقان على المعادلة الحاسمة التي ستجعله يجبل البؤس بالطهورية اليانكية، ثمّ هذه بالحكمة الماسونية، قبل أن يرشق المزيج بأسره على شجرة ميلاد أفريقية ـ مصرية يرسمها لموسى وليسوع. الخطوة التالية هي تصدير هذا ‘المركّب’ إلى المسلمين في صيغة غائمة لم تعد تنتسب حتى إلى بلال الحبشي، وإنْ ظلّت تفترض الحقّ في انتقاد رجال الأعمال الفلسطينيين والعرب، اسوة برجال الأعمال اليهود.
وأمّا حكايته مع العداء للسامية فإنها أكثر تعقيداً من مجرّد اتفاق أو اختلاف حول لون بشرة موسى أو المسيح، وهي في الآن ذاته ليست بعيدة عن تلك العقلية التبشيرية التي جعلت جورج بوش يتخيّل أنّ الربّ حثّه على غزو العراق. ذلك لأنّ عبد الفرقان، واليوم أكثر من ذي قبل، كابوس له قسماته الخاصة، الضاغطة بقوة على صدوع أمريكا ومرآتها المقعرة؛ والضاغطة بقوّة أكثر لأن أمريكا بحاجة ماسّة إلى تعريف نفسها بمصطلح العدوّ… العدوّ ‘الآخر’ الذي ينتهي وفق هذه الكيمياء أو تلك إلى أمّة الإسلام.
الأمّة الفعلية، في عبارة أخرى، وليس أمّة الراعي الأسود، المسربل بأناقته السوداء!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى