صفحات مختارة

التاريخ الجوفي

خيري منصور
للتاريخ مجراه الجوفي شأن كل الظواهر الكونية، فليس المرئي بالعين المجردة هو الموجود فقط، لهذا كانت تسمية علم الأركيولوجيا أو الحفريات دقيقة قدر تعلقها بالثقافة وأحداث التاريخ، بحيث لم تعد حكراً على التراب والصخور .
المجرى الجوفي للتاريخ، هو تلك المساحات المسكوت عنها لأسباب عديدة، لكن ما يجري سراً وفي الباطن قد يندلع ذات يوم ليكون الطوفان لأن التناسي والتجاهل يدفعان المؤجل إلى أن يتفاقم وأخيراً ينفجر .
إن ما كتب حتى الآن عن إمبراطوريات بدءاً من نشوئها إلى انهيارها ينتمي معظمه إلى السرد والتوصيف، وإن كان هناك أي تحليل فهو هامشي .
لهذا فإن ما قيل عن أسباب انهيار الامبراطورية الرومانية يتجدد في كل مرحلة، وتبعاً لتطور مناهج البحث وما يسمى الحفريات التي لا ترضى بأقل من معاينة جذور الظواهر .
ذات يوم قال مؤرخ لو أن البنسلين اكتشف أو اخترع في خريف الرومان لما زالوا وتركوا لنا كل هذه الأعمدة التي قضمتها عوامل التعرية وهذه الأطلال التي تبدو صامتة، لكن كل حجر فيها يثرثر عن زمان ولى .
إن التاريخ بهذا المعنى هو تواريخ وليس واحداً، ما دام تأويل الوقائع يخضع لمستويات متباينة من القراءة والوعي، وقد نفاجأ بعد عشرين أو ثلاثين عاماً بأن هناك من سيعثرون على الحلقات المفقودة في حروب تبدو لنا الآن غامضة .
فالحرب العالمية الثانية لاتزال منجماً للكتابة والكشوفات، وإذا كانت قد وضعت أوزارها فإن مؤرخيها لم يلقوا أقلامهم جانباً، وهذا ما يفسر لنا تعدد وجهات النظر حول زعماء وقادة، فثمة من يعاد إليهم الاعتبار بعد أن أصبحوا رميماً في القبور، وهناك من تنتزع منهم الصولجانات والأوسمة بعد اكتشاف قرائن أو أحداث تفتضح سيرهم الحقيقية ودوافع أفعالهم .
لكن ليس معنى ذلك أن يكون قدرنا انتظار عقود كي نفهم ما يجري في أيامنا، فليست الحروب كلها ملتبسة، خصوصاً إذا كانت معلنة الأهداف .
قبل أعوام اكتشف مؤرخ يهودي من مدرسة ما يسمى “المؤرخون الجدد” مذبحة كبرى في قرية الطنطورة الفلسطينية، وقبل هذا الاكتشاف الحفري كانت المذبحة مجهولة ولا ندري كم من المذابح الأخرى بانتظار حفارين جدد كي يفتضحوا مدبريها ويعيدوا الاعتبار إلى ضحاياها . ورغم مرور أكثر من ربع قرن على مجزرة صبرا وشاتيلا لا يزال السجال دائراً حول الفاعل والنوايا والأهداف، ومن تحالف مع من ضد بشر عزل .
والفارق بين التاريخ الجوفي والتاريخ المعلن والمدون هو أن التاريخ الجاري في باطن العالم وبعيداً عن الرؤية يبقى بلا مصب بعكس التاريخ المعلن الذي يشبه أنهاراً تندفع بقوة من المنابع إلى المصبات، حتى لو كانت هذه المصبات وهمية، وقد تكون خرافة نهاية التاريخ تعبيراً آخر عن هذه المصبات، والتي تجسدت في أطروحة فوكوياما الشهيرة في النظام الرأسمالي، وهو في ذروة توحشه وهيجانه .
وثمة فارق جوهري بين نوعين من المؤرخين، النوع الأول يسميه غرونباوم مؤرخاً غنائياً أو أفقياً، لأنه يروي فقط، وقد ينفعل بما يروي فيضيف أو يحذف، لكن النوع الثاني، وهو الحفار الذي يتجه عميقاً إلى جذور الأحداث، هو من ينتظر منه الكشف عن المستور، وافتضاح جرائم عوملت على أنها كاملة وطويت ملفاتها وسجل القتلة في خانة المجهول، بينما هي قابلة لإعادة النظر وإعادة الأحكام .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى