ثورة مصر

النهر العظيم

احمد بزون
إنه الشارع، لا الدوائر الحزبية، ولا المثقفون والنخب، ولا أمراء الطوائف والملل، ولا الفلاسفة والمنظّرون. إنه الشارع أو ثورة الشارع، بكل ما للكلمة من بساطة. من دون تدبير أو موعد أو اجتماعات ومؤتمرات،ثم من دون مرجعيات تاريخية أو دروس مسبقة في الثورة… هكذا هي إذاً ثورة الشارع، بكل ما فيها من عواصف تغيير طالما بدت مستحيلة من قبل.
إنه الشارع المصري هذه المرة، قلب العالم العربي، يهدر بكل صرخات الفقراء والمظلومين والمقهورين والمنتهكة كرامتهم وتطلعاتهم وطموحاتهم وحقوقهم.
لكن ما هو مؤسف أن بعض المثقفين مثل جابر عصفور قَبِلَ أن يكون وزيراً للثقافة من خلف ظهر المتظاهرين، وبعض الفنانين مثل عادل إمام، امتدح بخفة تعيين عمر سليمان وأحمد شفيق وانتظر أن يكون في ذلك خلاص مصر. لا تهمنا حسابات إمام وتقلبات مزاجه ومواقفه المتشظية المنطلقة دائماً من مصلحة ضيقة، ما يهمنا أن نبدي دهشتنا لقبول مثقف كبير وذكي ومحنك، مثل جابر عصفور، أن يكون كبش فداء للرئيس مبارك، الذي يبحث عمّن يعوّم له نظامه. بل كيف يقبل أن يتسلل، وسط كل هذا الغضب على النظام، إلى القصر الرئاسي، المهدد بالإطاحة، بهذه الخفة والوصولية والرغبة الغبية في بلوغ ضوءٍ سوف يحرقه ويحرق صفحات تاريخه في أواخر سني العمر؟ كيف استطاع خيانة الملايين من المصريين، في سبيل أن يعلق اسمه على الشاشات، أو يبرز رتبة المعالي الجديدة على حائط قد يكون أكثر خجلاً منه؟ أو يحلف يميناً أمام ذلك المسؤول عن قتل مئات المصريين حتى الآن؟ لماذا اختار أن يكون رمزاً لحقبة سوداء بائدة، لا العكس؟
أسئلة تتدفق ممهورة بالأسف على وعي أو ثقافة تختار أهدافاً خاطئة، بل على مثقف رمى نفسه في دائرة الجريمة بحق الإنسانية، ونَحَرَ بسيل لعابه على التوزير مستقبل أجيال.
في أي حال، الأنهار البشرية التي بدأت تحفر مجرى التاريخ الجديد لمصر سوف تستمر، ولن تلتفت كثيراً إلى الوراء. في أتعس أحوالها سوف تحدث تغييراً مهماً لصالح مصر والمصريين، ولصالح الحريات، ولن تكون في قبضة نظام بائد.
إنه الشارع الذي أكسبه شبابُهُ اليوم معنى جديداً. لم تعد السوقية أو البلطجة أو العصبيات من عناوينه. الشارع لبس معنى الثورة الساحرة، التي لم يتحدث عنها ماركس، ولم يصورها لنا لينين في كتبه، ولا احترف ماوتسي تونغ وصفها. إنه الشارع بكل قواه، لا الذي قارب ابن خلدون الكلام عليه، وهو الكتلة الشعبية الهائلة التي ابتكرت مفاهيم مختلفة عن تلك التي تضمنتها نظرية «الكتلة التاريخية»، التي نظّر لها المفكر الراحل محمد عابد الجابري في الثمانينيات.
إنه الشارع الذي تخطى كل الفلسفات والنظريات، ولن يدعي أحد حق التنبؤ بمجرياته، أو حقوق تأليفه وطبعه، أو ادعاء قيادته والتخطيط لمواعيده. إنه، نعم، بكل بساطة، النهر العظيم الذي لا بد من أن يستمر بالتدفق إلى أن يصل إلى مصبه وهدفه.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى