صفحات مختارةنصر حسن

الحرية بين الخاص والعام (طيبة فولتير وخبث السيطرة)!.

null
نصر حسن
معروف أن كل الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان تحاول تحرير نفسها من الشروط السيئة والعلاقات المضرة، بواسطة أشكال مختلفة من السلوك الذي يطلق عليه الفعل المنعكس والمرتبط بنزعة البقاء، وأصبح شبه خاصة فيزيولوجية وراثية لدى الإنسان مثل الأكل والشرب والعمليات الأخرى الضرورية للحياة، وهذا ما يعرف باستمرار غريزة البحث عن الحرية، ففي مسيرة التطور كان البحث عن الحرية هو شاغل الإنسان والشعوب والدول، الحرية بما هي مفهوم قيمة تأخذ شكلها المعياري بين الأفراد والمجموعات، هدفها الأساسي هو التخلص من السيطرة والهيمنة الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية وكل أشكال الهيمنة الأخرى، وتأخذ صوراً شتى ومستويات متعددة حسب محتواها وضرورتها، وأبعاداً مركبة في حالة العبودية والاستلاب والنظم الشمولية الديكتاتورية.
فصفات الإنسان الطبيعية تترافق مع الكفاح من أجل الحرية، من هنا نشأ أدب الحرية ورموزه عبر التاريخ، فوصف فولتير حريته: ” تتوفر الحرية بالنسبة لي حين أستطيع أن أفعل ما أشاء “،وهي تعني ملك الإرادة التامة والخيار الحر وغياب السيطرة والتعسفية منها تحديداً، أو تصف حالة الفرد وسلوكه في ظل تحكم تربوي غير قمعي، أو حسب تعبير ستيوارت ” الحرية هي أن يعمل الفرد ما يشاء ” وبنفس الفكرة والمحتوى تجمع جهد كل دعاة الحرية وفلاسفتها وأدباؤها، وعملت جميعاً على اشتقاق وسائل وطرق متعددة لتحقيق الحرية، والتخلص من السيطرة وتجاوز العبودية بشتى أشكالها والحفاظ على البعد الإنساني في العلاقات بين الأفراد والشعوب والدول.
والحال كذلك فإن عمق الحرية هو الفرد وخلاصه من جملة العوامل المسيطرة والمتحكمة بسلوكه الخاص والعام،وهي تماماً على نقيض مفهوم السيطرة الايجابية ( التعليمية، الفكرية، السياسية ) حتى في جانبها المنظم،وموجهة بالدرجة الأولى ضد نظم التحكم والنمط العبودي على وجه التحديد الذي يسلب الفرد حريته وكرامته،وهكذا يمكن فهم مواقف دعاة الحرية ضد منظومات قائمة على سلب الآخر حريته كأنظمة الحكم مثلاً، وكرد عليها تلجأ الأفراد والشعوب إلى سلوك أنواع من التصدي لها ورفضها، وتنظيم مظاهر الاحتجاج والإضراب وحتى تبني شعارات استبدال الحكومات المتسلطة، هنا تبرز ضرورات الحرية ومعززاتها على مستوى الفرد والمجتمع ومعنى الدفاع عنها.
كان (جان جاك روسو) من أعظم أدباء الحرية، وعمق إبداعه هو التركيز على قوة التعزيز الإيجابي، ففي كتابه ” إميل ” ينصح المربين والعاملين في الحقل التعليمي الأساسي بترك الطفل في الروضة والمدرسة يعتقد أنه هو المتحكم في الأمور دائماً وحتى في الحصة الدراسية (مع وجود مسيطر مطلق هو المدرس)، وهذا النوع من السلوك ينمي شعور الاستقلالية والمبادرة وبدوره يحفظ مظهر الحرية، فالسيطرة المطلقة هي تقييد مطلق للشعور والإحساس والعقل والمعرفة أي إلغاء مطلق للفرد، وبالتالي أسر الإرادة وتغييب مقدمات الحرية وسبيلها، فالطفل المقموع تتعطل لديه إمكانية المعرفة الصحيحة والتفاعل السليم مع المحيط، وهو لن يتعلم شيئاً مفيداً ولا يحفزه شيئاً ولا يستطيع فعل شيئ، كان (روسو ) طيباً في فهمه للحرية!وأكثر من ذلك اعتمد على طيبة المربين من الأهل والمؤسسات الاجتماعية الأخرى!،وهو بهذا الشكل ضمناً أسس لقبول السيطرة الإيجابية، لكن مع تعقيدات صور العلاقة بين الأفراد والرغبات والغرائز المتناقضة وغير المنضبطة في معظم الأحيان وما أفرزته الطيبة وحسن النية في دوائر التعليم والتربية والتأهيل من نتائج تعكس أن الواقع العملي له مع الطيبة متطلبات أخرى، وبين ذلك أن الطيبة وحدها ليست ضمانة لتجنب إساءة الآخرين والحصول على الحرية، خاصة في المفهوم العام الذي تحدده العلاقة – فرد – فرد، فرد – أفراد، شعب – سلطة، دولة – دولة، حيث تتعقد وتتداخل فيها المصالح والرغبات بشكل كبير!.
على العكس من ذلك اتخذ بعض أدباء الحرية الآخرين ( البيوريتانيون أو المتطهرون ) موقفاً حازماً ومضاداً ونافياً لكل مظاهر التحكم، ويرونها كلها خاطئة لأنها تفضي بهذا الشكل أو ذاك إلى التسلط البغيض، التسلط السيئ في الطبيعة والمنشأ والفعل والنتائج، وعليه يجب تجنب كل أنماط التحكم والتسلط على مستوى العلاقات الخاصة والعامة بين الأفراد، وذهب الكثير من أدباء الحرية ومدارسها إلى أكثر من ذلك وأقروا أن كل مظاهر التحكم وحتى الإيجابي منها هو خاطئاً ومضراً في صميم قيمة الفرد وحريته، ويرون أن الطيبة الفطرية القادرة على فعل الخير فقط، هي غير جديرة بالانتباه إذا لم تكن قادره على فعل الشر أيضاً، وأن قيمة الإصلاح ومعه الفلاح تكمن في تجاوز الشر وليس الضعف أو العجز في الإرادة ( الطيبة ) أو ( الدروشة ) وفي أعلى مراتبها ( الصوفية) وهي التي تمثل الصلاح والخير شبه المطلقين!، أي أن خلاصة الحرية وجوهرها مشروط ويكمن في فعل الخير في حالة القدرة على فعل الشر، وهو مقدمة الحرية وكنهها لأنها مبنية على قوة إرادية معاكسة لقوة الغريزة غيرالمنضبطة.
وببعدها الفلسفي تكون الحرية مجاورة لوسائل كبحها وتقل وتزيد حسب هذا القانون، فالشخص يكون أقل حرية وكرامة حينما يكون مهدداً بصيغ العقاب، وعليه كل صيغ الدولة هي من الجيش والشرطة والأمن تشكل كوابح للحرية الفردية، وهي الوسائل المباشرة المنظمة والمحمية بقوة قانون العبودية والسيطرة والتي تحاصر الحرية وتمنع أو تقنن حاجتها حسب مصلحتها السياسية في استمرارها على السيطرة على القوى المادية التي تضطهد بها المجموع، والحال كذلك توصل بعض دعاة الحرية إلى أن مصدرها هو الفعل العبودي ومايقابله من نزعة مضادة له، وعليه إن المعصوم من الخطأ هو العاجز عن الفعل، وفعل الشر الذي يستطيع أن يمنعه ويلغيه، هو ما يسمى بوسيلة السيطرة الغريزية لدى الفرد والتي توصف بالضمير،وهو الوسيلة الفعالة الأساسية للحصول على الحرية الفردية واحترامها لدى الطرف الآخر، أي أن الفرد الحر هو الذي يسلك سلوكاً جيداً وباستطاعته أن يسلك سلوكاً سيئاً بنفس الوقت، هنا يبرز معنى الحرية وبعدها الإنساني وجدليتها بمعنى ارتباط حرية الفرد بحرية الأفراد في الواقع الاجتماعي.
فمن نافل القول أننا نستطيع تغطية العيوب الوراثية بنكرانها أو تغطيتها أو خداع النفس بطلائها، وصعوبة الأمر هو أن طريق الحرية يكمن في عمق غابة الشعور لدى الفرد نفسه ظالماً أومظلوماً، فالمخطئ التائب هو قمة الفعل الإرادي والنزوع العاقل نحو الحرية، والتائب هذا يمكن تشبيهه مجازياً بملاك أو قديس فطري، وعليه حينما نستطيع أن نشتق آلية ما لتخفيف وسائل السيطرة الذاتية العقلية والعاطفية،نجعل العالم أقل عقاباً ونعلم الناس كيف ينتظمون إرادياً ويتحاشون العقاب الطبيعي، عندها أيضاً نجعل العالم أكثر حرية ً وأكثر أمناً…وعلى الجانب الآخر كلما تضخمت وسائل الردع والعقاب ( الجيوش، والقوانين المقيدة، الاحتكار، التمييز، أسلحة الدمار الشامل ) كلما زادت وتعددت صيغ العقاب و عندها يصبح العالم أقل أمناً واستقراراً وأكثر فوضى وانتهاكاً للحرية، وبالتالي دخول البشرية عهد العبودية الجديدة وهي مدججة بوسائل خطيرة للسيطرة مثل التكنولوجيا الحديثة والاحتكار وأسلحة الدمار الشامل، هنا تصبح الحرية في خبر التطرف والعنف والتدهور الإنساني.
هنا بالضبط تكمن أزمة الحرية في العالم الحديث، أرادوها الحرية المشروطة بإجبار الآخر على تقبلها بالنمط التي تحدده القوة الخشنة وليس قوة احترام القانون والقيم والعلاقات الإنسانية، وعودة إلىالسيطرة المشروطة في مفاهيم ( فولتير ) للحرية وضرورة معززاتها الإيجابية،حيث يرى ومعه أدب الحرية، أنه حتى في حالة السيطرة الايجابية التي تحدد السلوك الإنساني، من الأفضل للفرد أن يشعر أنه حر أو أن يعتقد أنه كذلك عملاً بمقولة ” أن تكون عبداً واعياً لعبوديته،أفضل من أن تكون عبداً جاهلاً سعيداً ” وبالرغم من حمولة كلمة عبد لشحنة بغيضة وكريهة ومحطة بقيمة الإنسان، لكن تطور الحياة البشرية هو في صراعها مع العبودية بكل أشكالها ومستوياتها. و أدب الحرية في طريقه للبحث عنها ” فشل في إنقاذ العبد الجاهل السعيد “!.
فهل عتلات الحداثة الجديدة الحالية قادرة على اشتقاق مفهوم الحرية الإنساني الجديد؟! أم أنه ترسب واهن في أحواض العولمة الجافة حيث بالضرورة يتحول الجميع إلى بؤساء المشهد الإنساني الحالي،مع اختلاف المكان والشكل والمستوى والمضمون؟!.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى