الدور التركي في المنطقةصفحات العالمميشيل كيلو

تركيا وفنزويلا: قراءة في انتصارين انتخابيين!

ميشيل كيلو
عايشنا مؤخرا حدثين انتخابيين على قدر كبير من الأهمية، فصلت بينهما أيام قليلة، وقع أولهما في تركيا، وثانيهما في فنزويلا.
ـ أما الحدث التركي فهو انعطافي وتحولي بما للكلمة من معنى، ذلك أنه شكل لحظة فاصلة بين زمنين: سيطر الجيش على الأول منهما، الذي يبدو أنه انصرم مع التصويت المؤيد لتعديلات الدستور.
بينما بدأ الثاني من موقع قوة، وبإرادة شعبية لا شك فيها، وافقت على قصقصة أجنحة المؤسسة الأتاتوركية في الجيش والقضاء والتعليم، وأفقدتها بعض أهم وسائل سيطرتها، ومنحت قوى السياسة المدنية أرضية واسعة للمناورة، وهامشا طويلا من الوقت، يرجح أن يعزز ويكمل التطور الديمقراطي، الذي بدأت تركيا تاريخا جديدا معه، وأن يضع حدا لسيطرة عسكرية سلطوية حملت اسم مؤسسها كمال أتاتورك، دأب الجيش على حمايتها مرارا وتكرارا عبر قوة عارية ضبط من خلالها المجال السياسي وفرض قواعد حدت من قدرة قواه وأحزابه ومؤسساته على تنظيم أوضاعه وحل مشكلاته عبر اللعبة البرلمانية والنظام التمثيلي.
مع نتائج التصويت، بدا وكأن زمن التدخل العسكري قد ولى، وأن زمنا جديدا يفرض نفسه: تحت قيادة مدنية اتخذت القيم الإسلامية موجها لها، وعرفت كيف تربطها بمهارات سياسية / عملية حديثة، عززت قدرة الحركة الشعبية الجديدة على إصلاح الدولة، فلا عجب إن حظيت بتأييد أغلبية مجتمعية وازنة، منحت 58 ‘ من أصواتها لبرنامجها الإصلاحي، وتدفق 77’ من الناخبين على صناديق الاقتراع، التي يبدو أن استمرار نجاحها سيدخل منطقتنا وجوارها في طور مختلف، يرجح أن تصل آثاره الإيجابية إلى كل مكان منها، وأن تلعب دورا في فتح دروب جديدة أمامها، تمكنها من تنويع خياراتها، والخروج من الاحتجاز الذي ترزح تحته منذ نيف ونصف قرن.
ـ كانت انتخابات فنزويلا حدثا مهما بدوره، فقد أظهر تحولات ميزان القوى داخل البلاد، والتبدل الذي أصاب مواقف الشعب من هذا الطرف أو ذاك، وقدم صورة أولية عن احتمالات التطور في المستقبل القريب، مع أنه ثبت حزب الرئيس شافيز ‘الاشتراكي الموحد’ في الحكم، ومنحه أغلبية نيابية واضحة، تتيحها له المقاعد الـ 95 التي نالها من أصل 165 مقعدا، وملايين الأصوات، التي جاوزت الخمسة ملايين ونيفا وأربعمئة ألف صوت، في حين فازت المعارضة بعدد من الأصوات يربو على خمسة ملايين وثلاثمئة صوت، عادت عليها بعدد قليل نسبيا من مقاعد المجلس النيابي بلغت 64 مقعدا. رغم الفارق بين عدد نواب الحزبين وتقارب أعداد ناخبيهما، فإن أحدا لم يعترض أو يحتج على نتائج الانتخابات، التي وصفت بالنزيهة والعادلة، وسعدت جميع أطرافها بنتائجها ومجرياتها، فأعلن شافيز فوز حزبه، بينما قالت المعارضة أن عدد نوابها يحرم الحكومة من أغلبية الثلثين البرلمانية، الضرورية لتمرير مشاريع القوانين الاشتراكية، التي تفكر بإقرارها.
لا تقل انتخابات فنزويلا أهمية عن انتخابات تركيا، وليس جديدها أقل دلالة من الجديد التركي. وإن اختلفت عنها من حيث الرهان، الذي دارت حوله، وهو: هل يمكن أن تتقدم الدولة نحو النظام الاشتراكي بإرادة شعبية حرة؟ وهل يحمي الشعب تحولا اشتراكيا: إنتخابيا وسلميا؟ وهل ستكون الديمقراطية من الآن فصاعدا أداة تتحدى نظم تحررية وذات توجهات اشتراكية خصومها من خلالها، وتصارعهم بنجاح، بعد ان فشلت اشتراكية الدولة في البقاء؟ وإلى أي مدى سيعتمد من الآن فصاعدا تعريف لينين ـ كتاب: ‘الدولة والثورة’ـ، الذي يقول: ‘الاشتراكية هي الديمقراطية مدفوعة إلى حدها الأقصى’؟ وهل نتعلم نحن العرب من تجربة قارة مجاورة للولايات المتحدة، اعتبرت تقليديا ‘حديقة واشنطن الخلفية’، هي قارة أمريكا اللاتينية، التي ما أن فشلت ثوراتها المسلحة ضد السيطرة الأمريكية والنظام الرأسمالي المحلي الفاسد، حتى اعتمدت الخيار الديمقراطي وسيلة لتحقيق ما عجز السلاح عنه، وها هي تبلغ الكثير من أهدافها بصندوق الانتخاب والنضال الديمقراطي: السلمي والمفتوح، الذي لا يستبعد أحدا أو يقمع معارضة، ويحتكم في كل خطوة إلى الشارع، وإلى ما كان روسو يسميه ‘الإرادة العامة’، بينما تبدو واشنطن حائرة لا تدري ما تفعله، بانتظار تراكم أخطاء قادة بلدان القارة الديمقراطيين إلى الحد الذي يتسبب في تقويض تجربة اشتراكية الخطاب عدالية التوجهات، تتم عبر الديمقراطية وبوسائلها، لتؤكد عندئذ ما قالته الرأسمالية دوما، وهو أن الديمقراطية لا تصلح سلاحا ضدها أو بيد الطبقات الفقيرة والمضطهدة، وأن اشتراكية أمريكا اللاتينية، شأنها شأن الستالينية، تناهض الديمقراطية وتتعارض معها، وتعجز عن بناء نفسها في حاضنتها فتتخلى عنها بقدر ما يتقدم بناؤها، المعادي بالضرورة للحرية، حجر أساس النظام الديمقراطي.
تقف أمريكا عاجزة أمام إرادة ديمقراطية عامة تبديها شعوب أميركا اللاتينية، وقد أصيبت بالحيرة بعد انقلاب الديموقراطية إلى سلاح ضدها بيد خصومها، وزاد من حيرتها ان الحرية لم تفض إلى تراجع تأييد الشعوب لحكوماتها المنتخبة ديمقراطيا، وأن خصوم هذه الحكومات هم الذين ينقلبون على إرادة مواطنيهم، ويدبرون الانقلابات العسكرية ويثيرون الفتن والقلاقل الاجتماعية، ويستخدمون عصابات القتل والجريمة المنظمة لكبح التطور الديمقراطي.
يحدث هذا هناك. أما هنا، في وطن العرب التعيس، فتعلن الحكومات بصوت واحد أن الديمقراطية سلاح امريكي/ صهيوني، وأن من يطالبون بتطبيقها عملاء للخارج، وتستشهد على صحة ما تقول بما جرى في العراق، فإذا وجدوا أن قولهم لا يقنع أحدا، لتعارض الغزو الامريكي مع أي مبدأ ديمقراطي أو ممارسة حرة، استنجدوا بالصهيونية، التي تفقد عندئذ صفاتها العنصرية والاستعمارية وتصير فجأة حركة ديموقراطية تطبق سياسات يمليها نظامها الديمقراطي، يطلق جيشها النار على الفلسطينيين لا ليقتلهم، بل لكي يجعلهم ديمقراطيين، أو ليضع حدا لعدائهم للديمقراطية!. يقال هذه في دول عربية تعلن إعجابها غير المحدود بتجربة ‘ثورة اجتماعية امريكية لاتينية تتم بواسطة الديمقراطية والإرادة الشعبية الحرة’، تتهم، كالبلدان المعادية للثورة، من يطالبون بما يشبهها أو يماثلها في ديار العرب بالعمالة للإمبريالية والصهيونية!.
ثمة تجربة ديمقراطية / انتخابية تحدث قربنا، في تركيا، وعلى بعد منا، في أمريكا اللاتينية، لا بد أن تثير قدرا كبيرا من اهتمامنا وتعاطفنا، نحن الديمقراطيين العرب، وأن نجد فيها خيارا لا بد من دراسته بعمق، لما في الأخذ به من عون لأمتنا، التي خذلتها نظمها الفاشلة، ومن ربط يبدو ناجحا بين السياسي والاجتماعي، المجتمعي والدولوي، في زمن يبحث مستضعفوه عن بديل لتبعيتهم وبؤسهم، ويريدون الخروج من أسر رأسمالية خارجية وداخلية،لا يرون منها غير الاستغلال النهب والقمع، بينما توفق الديمقراطية في أمريكا اللاتينية بين التعبير الحر عن إرادة الشعب وبين مطلب العدالة الاجتماعية، وتقدم لنا، بحديها هذين، أرضية ملائمة لتحرر امتنا ولجمع شملها، بعد طول تجزئة وضعف.
هل يرتكب قادة الثورة السلمية والديموقراطية، التي تعيشها أمريكا اللاتينية، الأخطاء التي تنتظرها واشنطن، وتؤدي إلى تقويض الثورة؟ هذا هو اليوم الخطر الرئيسي على ما يتحقق من تحرر وتقدم في أمريكا اللاتينية. أما الحلقة المركزية في هذا الخطر فتكم في ارتداد هذا النظم أو بعضها عن الديمقراطية أو في العمل على تقييدها. ومن يراقب سياسات أمريكا، يجد أنها تركز على دفع أنصار الثورة، وخاصة منهم الرئيس الفنزويلي شافيز، إلى تقويض الطابع الديمقراطي للثورة، التي تنجز بإرادة الشعب وعبر صناديق الاقتراع والانتخاب. تستغل واشنطن أي خطأ يقع فيه هؤلاء، لتجعل نجاحهم أصعب. وهي تعمل على إثارة التناقضات بين الوجه السياسي والوجه الاجتماعي للثورة، لاعتقادها أن أي انحياز إلى وجه منهما على حساب الآخر سيعني بداية سقوط الثورة ونهايتها.
بعد انهيار التجربة السوفييتية، وانتشار الاقتناع بأن الاشتراكية لم تعد تحديا راهنا أو مستقبليا، تقدمت قطاعات واسعة من قارة بكاملها هي أمريكا اللاتينية، إلى ساحة الصراع، وأعلنت إيمانها بعدالة اجتماعية (يسمونها هناك اشتراكية) تتحقق بإرادة مواطنيها الأحرار، والتزامها بترابط العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية، واستعدادها للتخلي عن الحكم، إن سحب الشعب ثقته منها.
في الماضي، كان الاشتراكيون يعتقدون أن الاشتراكية مقدمة لقيام ونجاح الديمقراطية، واليوم، يعتقد اشتراكيو أمريكا اللاتينية أن الديمقراطية هي المدخل إلى الاستقلال الوطني، والثورة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. بعد الآن، لن يقول العقل التقدمي: من الاشتراكية إلى الديمقراطية، بل سيقول: من الديمقراطية إلى الاشتراكية.
إنها صفحة جديدة في تاريخ المسعى البشري إلى العدالة والمساواة، ستبقى وستستمر ما بقيت خيارا إنسانيا: ديم قراطيا وحرا.

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى