صبحي حديديصفحات ثقافية

تطبيع قسري

null
صبحي حديدي
السلطة السياسية الفرنسية، ممثّلة في وزارة الخارجية، ركبت رأسها ـ كما يتوجّب القول، بالمعنى الحرفي ـ وأجبرت السلطات الثقافية، ممثّلة في إدارة ‘المركز الفرنسي للتعاون والثقافة’ في العاصمة المصرية القاهرة، على إعادة برمجة الشريط التسجيلي ‘شبه طبيعي’، للمخرجة الإسرائيلية كيرين بن رفائيل، في مهرجان ‘ملتقيات الصورة’ الذي ينظّمه المركز. وكما بات معروفاً الآن، كان المركز قد برمج الشريط في البدء؛ ثمّ اضطرّ إلى سحبه من البرنامج بعد احتجاجات مصرية على إشراك مخرجة سبق لها العمل لدى الجيش الإسرائيلي؛ فتدخّلت الخارجية الفرنسية، وحرص الناطق الرسمي باسم الوزارة، برنار فاليرو، أن يتولى بنفسه إعلان الإبقاء على الشريط.
تتمة الواقعة كانت انسحاب ثلاثة من أعضاء لجنة التحكيم المصريين (أحمد عاطف وكاملة أبو ذكرى وآسر ياسين)، وقيام ‘المركز القومي للسينما’ بسحب الأفلام المصرية المشاركة (40 شريطاً)، وصدور بيان وقّعه عدد من كبار السينمائيين والكتّاب والمثقفين المصريين، وآخر عن ‘المعهد العالي للسينما’، وثالث عن نقابة السينمائيين، فضلاً عن وقفة إحتجاجية أمام المركز عشية الموعد المقرّر لعرض الشريط. كادت الواقعة أن تسفر عن أزمة دبلوماسية بين البلدين، وكان طبيعياً أن ترتدي صبغة سياسية صريحة، بصرف النظر عن إلحاح السفارة الفرنسية على حسن النوايا خلف قرار إشراك الشريط، والتباكي على الدور الفرنسي في التوسّط الثقافي بين الشعوب.
والحال أنّ الواقعة نجمت، في يقيني، عن واحد من احتمالين، لعلّهما اختلطا عند نقطة ما في تطوّر هذه الحكاية، فتبادلا التأثير والتأثير المضادّ. الاحتمال الأوّل هو أنّ مبرمجي المهرجان ارتكبوا حماقة مهنية حين أدرجوا شريط هذه السينمائية الإسرائيلية بالذات، لأنّ في رأس واجبات هذا الطراز من المراكز الثقافية أن تمدّ جسور الصداقة مع الثقافة المضيفة، لا أن تستفزّها وتنتهك ثوابتها الوطنية. ويصعب على المرء أن يصدّق أنّ المسؤولين في السفارة الفرنسية والمركز الثقافي لا يدركون حجم المناهضة المصرية للتطبيع مع الدولة العبرية، سواء على الصعيد الشعبي، أو الثقافي، أو حتى في مستوى بعض السياسات شبه الرسمية.
الاحتمال الثاني، الذي أرجّحه شخصياً، أنّ الشريط تمّت برمجته من باب سياسة العلاج عن طريق الصدمة القسرية، أو فرض التطبيع الثقافي بوسيلة اتخاذ خطوات إلزامية مثل قرار إدراج شريط مجنّدة إسرائيلية سابقة، ضمن مهرجان يجري في قلب العاصمة المصرية. وثمة، في وزارة الخارجية الفرنسية خصوصاً، ومثلها وزارة التعاون، سياسة ثقافية تقتفي هذه القاعدة: نحن نتطوّع للتوسّط بين الثقـــــافة العربية والإسرائيلية، شئتم أم أبيتم، لأننا أفضل منكم في تقدير ثمار ذلك التوسط، ولأنه استئناف معاصر لـ’المهمّة التمدينية’ Miion civilisatrice التي مارسناها عليكم خلال عقود طويلة من الاستعمار القديم…
وهي في واقع الأمر جزء من فلسفة فرنسية راهنة، أشاعها وسوّغها عدد من أشباه فلاسفة فرنسا وبعض ساستها، مثل وزير الخارجية الحالي برنار كوشنر، تقول بمبدأ التدخّل الإنساني القسري، وإسقاط مبدأ السيادة الوطنية لصالح الإغاثة والعون والنجدة. وصورة كوشنر المفضّلة في الكاريكاتور السياسي الفرنسي هي شخصية حامل كيس الرزّ على الكتف، كناية عن المساعدات الإنسانية، وحامل القِيَم الغربية والاشتراطات السياسية في اليد. وهذا يفسّر تخبّط القرارات، بين إدراج الفيلم ثمّ سحبه ثمّ إعادة إدراجه، لأنّ الضغط جاء من علٍ كما تقول الأخبار هنا في باريس، ليس من الوزارة وكوشنر شخصياً فحسب، بل من قصر الإليزيه أيضاً وقبلئذ.
ولقد كان لافتاً أن تتصدّى وسائل الإعلام الفرنسية لهذا الحدث الجلل، أي إلغاء برمجة الشريط، وأن تُستخدم في تغطيته لغة تحريضية عالية الشحن، توحي بأنّ سلطات السفارة والمركز الثقافي تخاذلت أمام ضغط الشارع المصري، وتنازلت، وتخلّت عن واجب مقدّس. صحيفة ‘ليبيراسيون’، التي تمثّل يسار الوسط (وكانت، للإيضاح، أشرس الصحف في معارضة ترشيح وزير الثقافة المصري، فاروق حسني، لمنصب المدير العام لليونسكو)، نشرت مادّة ذات عنوان دراماتيكي تماماً: ‘عداء للسامية سينمائي في القاهرة’! صحيفة نهار الأحد الرئيسية نشرت مادّة بعنوان ‘القاهرة مصابة بمرض الحساسية تجاه السينما الإسرائيلية’؛ وتناولت صحيفتا الـ’موند’ والـ’فيغارو’ الواقعة على نحو أقلّ حدّة من حيث العناوين، وإنْ لم يكن أخفّ تحريضاً من حيث اللغة. وبالطبع، لم يكن خافياً على أحد أنّ مجموعات الضغط الصهيونية كانت وراء ذلك التصعيد المبكّر، ومارست في تنفيذه كلّ الضغوط.
ويبقى أنّ فرسان هذه الحملة تناسوا أنّ المثقف المصري ذاته، الذي احتجّ على عرض شريط كيرين بن رفائيل، كان قد تفهّم عرض شريط ‘الجدار’، للمخرجة الفرنسية ـ الإسرائيلية سيمون بيتون، قبل أربع سنوات، في المهرجان ذاته. كذلك تناسوا أنّ شريط بيتون ‘راشيل’، الذي يتناول مقتل الناشطة الأمريكية راشيل كوري تحت بلدوزر إسرائيلي، حُورب بشراسة في مهرجان الفيلم اليهودي في سان فرانسيسكو، على يد مجموعات ضغط… يهودية! لم ترتفع عقيرة كوشنر بأي احتجاج آنذاك، مثلما بُحّ صوته ثمّ اختفى نهائياً بصدد انتهاكات حقوق الإنسان في طول العالم العربي وعرضه.
ولكن، أليست هذه أولى قواعد الكيل بمكيال تارة، ومكيال آخر طوراً، ومكاييل لا عدّ لها ولا حصر، هنا وهناك؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى