صفحات سوريةمازن كم الماز

رؤية في وعي الواقع

null
مازن كم الماز
لا ريب أن الأنظمة الحاكمة و النخب السائدة و الفئات المثقفة التي تمثلها مصابة بفصام حقيقي فيما يتعلق بالواقع , رغم أنها هي عادة من يستخدم هذه التهمة ضد خصومها , و خاصة ضد الجماهير . “الواقع” الذي تتحدث عنه و الذي ترى أن الجماهير “متخلفة عن وعيه” هو “واقع” هيمنة القوى السائدة عالميا و إقليميا . إنها لا تكترث أساسا للواقع الفعلي الذي تعيشه هذه الجماهير , لا تعرفه , أو تعرفه بدرجة سطحية جدا تناسب اهتمامها به , دون أن تحدد درجة مأساويته أو كابوسيته وعي الأنظمة و النخب بمأساوية الواقع , إن حالة الجماهير لم تكن أبدا في يوم من الأيام جزءا من الواقع الذي يهم الأنظمة و النخب إلا بالدرجة التي تسمح لها بإعادة إنتاج سلطتها على هذه الجماهير . يتألف واقع الأنظمة و النخب و وعيها به من حقيقتين رئيستين : حقيقة أنها قادرة على فرض إرادتها على الجماهير , و واقع أن هناك قوى أخرى فوقها قادرة على فرض إرادتها عليها هي بالذات , أي “واقع” صراعاتها الخاصة فيم بينها و تلك الخفية مع الجماهير . إن القضايا التي تتحكم بالحراك الذي ترسم الأنظمة و النخب هي خطواته بحرص و الصخب الذي يرافق “معاركها” هو شيء لا يعني الناس الذين في الأسفل , الذين يعيشون واقعا مختلف تماما رغم أنهم يفعلون ذلك بصمت مقابل صخب إعلام الأنظمة و النخب . لذلك فإن وسائل الإعلام الجماهيرية التابعة لهذه الأنظمة و النخب تعمل على رفع حرارة هذا الصخب , بما في ذلك اللجوء إلى أسلحة المقدس و الاتهامات من كل صنف و لون . لكن حتى أكثر المتفائلين بقضايا تلك الأنظمة و النخب يعترف بوجود لا مبالاة في الشارع تجاه كل هذا التسخين , إن هذا يعكس حالة الركود الحقيقية في مجمل الوضع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و حقيقة أن كل ذلك الحراك السلطوي و النخبوي إنما يدور في فنجان . إن هذا الفصام السياسي و الفكري و الإعلامي هو تعبير عن فصام اجتماعي كامل بين الطبقات السائدة و تلك المهمشة في واقعنا . لا يوجد مسؤول عربي , إلى جانب القسم الأكبر من المثقفين أيضا , يفقه ما يقول و هو يتحدث عن خط الفقر و البشر الذين يعيشون تحته أو عن معنى كلمة البطالة و حياة ملايين الشباب العاطل عن العمل , ناهيك عن أن يكترث أصلا لهؤلاء . و لذلك فإن الصخب المرتفع “للمعارك السياسية” لا يثير إلا النخب و جزء محدود جدا من المجتمع المرتبط بها مباشرة . بالنسبة لمن هم تحت خط الفقر هذا تبدو القضايا التي تتصدر هذا الصخب السلطوي و النخبوي , مثل المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري مثلا , أو تشكيل الحكومة العراقية العتيدة , و حتى الخلاف حول صحابة الرسول ( ص ) أنفسهم , كقصص عن عالم آخر , قد يكون عالما “مثيرا” بالفعل أن تقرأ عنه أو تسمع المناقشات الحامية عنه , لكنه يبقى عالم لا يضطر فيه البشر للكفاح كل ساعة و كل يوم من أجل لقمة خبزهم . الشيء الوحيد الذي يسمح باستمرار الوضع هكذا , هو منظومة التدجين و الاستلاب السائدة بمؤسساتها المتعددة التي تنتج هذا الصمت حيال واقع البشر الفعلي و مشاكلهم الحقيقية و أسبابها الفعلية . لا توجد فئة مكروهة اليوم على مستوى الشارع كما هو حال السياسيين المحترفين اليوم , خاصة من هم في السلطة , ليس فقط في مجتمعاتنا بل على مستوى العالم , و ربما في المجتمعات الرأسمالية المتطورة أكثر من أي مكان آخر . يشبه موقف انعدام الثقة هذا و حتى الكراهية و ربما الخوف من قبل الشارع تجاه من في السلطة و السياسيين المحترفين موقف الشارع الأوروبي من طبقة الإكليروس في أواخر القرون الوسطى . كانت طبقة الإكليروس تتمتع بسيطرة استثنائية على الحياة الروحية و الاقتصادية و الاجتماعية للناس و كانت توجههم في معارك “مقدسة” واحدة تلو أخرى , مرة ضد الخارج الإسلامي و أخرى ضد الداخل الهرطقي , لكن نتائج سيطرتها المأساوية على حياة الناس ولدت , ببطء و تردد , موقف الكراهية هذا الذي سينفجر لاحقا ضدها و ضد الملكيات المطلقة , الشيء الذي كان يبدو مستحيلا ذات يوم . لا يمكن تحطيم منظومة التدجين و الاستلاب الفعالة بضربة واحدة , إنها تعيد إنتاج نفسها باستمرار لتكون أكثر إقناعا و لذلك فإن عملية تحطيمها هي عملية بعيدة المدى , عملية لا تجري وسط النخب المتنافسة العاجزة تماما عن رؤية الواقع الفعلي في الأسفل , بل هناك في الشارع , هناك حيث يتطور تدريجيا وعي آخر , بواقع آخر , لا نقرأ عنه في أمهات الصحف…………

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى