راتب شعبوصفحات ثقافية

حديث اللبن

null
راتب شعبو
شيطاني قوي، هذا ما أستطيع أن أؤكده بعد تلك الواقعة التي ما كان لها أن تقع لولا القدرة الرشيقة لشيطاني. القصة كما يأتي: شاء صديقي أحمد أن يشكرني على وقوفي إلى جانبه (وإن يكن من دون جدوى) في محنة الشك التي أنهكت روحه في السجن. فأرسل اليَّ، بعد خروجه من السجن، سطلاً من اللبن مع زوّاري. تسلّم عناصر شرطة جناح الأمن السياسي سطل اللبن من أهلي في الزيارة، لكنهم رفضوا تسليمي إياه بعد الزيارة. هذه أشياء تحدث وهي طبيعية ومعتادة، ولكن لأن شيطاني قوي فقد راجعتُ مفرزة الشرطة واستفسرت عن السبب فقال أحد العناصر إن إدخال اللبن من الزيارة ممنوع بأمر من سيادة الملازم أول (رئيس المفرزة). لسوء حظي كانت تجمع هذا العنصر، عصبية مناطقية مع الملازم أول، وهذا ما جعل للحدث دينامية أقوى مما كان يمكن أن تكون عليه لولاها. أمام جواب الشرطي هذا، ما كان من شيطاني إلا أن تكلم على لساني قائلاً: لماذا تسلمتموه من الأهل إذاً، أم أنها مصيدة!؟ (هكذا يفعل شيطان المرء غالباً، يتقدم في لحظة يختارها جيداً، ويزيح كل ما يتسلح به المرء من حذر و”وعي”، ثم يضرب ضربته ويتراجع تاركاً المرء لعواقب فعلته!). كان يمكنني أن أقول كلاماً آخر ذا حواف كليلة. كان يمكنني مثلاً أن أقول كلاماً ليّناً ومؤثراً: “تعبت أمي في إحضار سطل اللبن وأرجو أن يسمح سيادة الملازم أول بإدخاله!”. كان يمكنني أن أقبل بصمت، قرار سيادة الملازم أول وأعود إلى مهجعي بغنيمة الإياب. الاحتمالات الآمنة أمامي كانت كثيرة لولا هذا الاقتحام “الشيطاني” الذي افقدني زمام لساني لثوان معدودة كانت كافية لإحداث ما حدث. كانت كلمة “المصيدة” بمثابة الصاعق الذي يفجر، وقد نجح شيطاني في اختيارها للزج بي في مواجهة مع سيادة الملازم أول، رئيس المفرزة الذي لا يفرّق بالطبع بين المرء وشيطانه.
[هذا الشيطان لا علاج له! حتى وأنا أكتب الآن مجريات ما حدث، يطل برأسه بكل ثقة ويوبّخني ويتهمني بالجبن ويبيّن لي مفارقة أن أخشى من مواجهة رئيس مفرزة في شأن سطل لبن في حين أني أزعم مواجهة دولة في شأن قضايا كبرى. ويعتبر أنني عالة عليه وليس العكس. فهو يفعل ما يفعل ولا يبدي أيّ قدر من التردد أو الندم. وها هو يختم إطلالته هذه ساخراً مني بالقول: أنا الغريق ولكني أخشى من البلل!]
بعد فترة وجيزة من مطالبتي بسطل اللبن، طلبني رئيس المفرزة وأسمعني من خلف مكتبه أولاً، ثم وهو يدور حولي، كلاماً وافراً عن وفرة اللبن لديه، وعن أنه يغمرني ويغمر كل عائلتي باللبن. ثم زاد غضب الملازم أول فخرج من بين شفتيه كلام متقطع وعالي النبرة عن أننا (السجناء السياسيون) أناس عاقّون ولا يعجبنا العجب وأن السجن قليل علينا. وقفتُ ساكتاً آملاً بتخامد انفعاله. ولكن ما حصل هو العكس تماماً. راح كلامه يستفزّه أكثر وأكثر، فدنا مني ووجّه إلى وجهي صفعة مشفوعة بشتيمة مناسبة، ثم قرر خاضعاً لقانون كرة الثلج، وإثباتاً لغناه عن اللبن، أن يسكب سطل اللبن في التواليت أمام عيني.
وجّه رئيس المفرزة الأمر إلى العنصر الذي كان يقف على باب مكتبه شاهداً على بهدلتي، ومنتظراً الأوامر. وكان هذا العنصر (هو غير العنصر القصير البدين الذي واجهني حين طالبتُ، أقصد حين طالب شيطاني، بسطل اللبن) طويلاً نحيلاً برأس صغير، ويوحي بصحة المثل الشعبي الشائع عن الطويل. اندفع العنصر لتنفيذ الأمر وأمسك بسطل اللبن واتجه متحمساً إلى التواليت (التنفيذ هو جوهر الخدمة في الفروع الأمنية، لا يلتفت العنصر إلى معقولية الأمر أو لا معقوليته، الأمر معقول وفي محله طالما أنه صادر عمن يرأسه، ويكون هذا الأمر ملحوظاً أكثر كلما نزلت أكثر في سلّم الرتب، واضح أنه ليس لدى عناصر الشرطة شياطين من نوع شيطاني أو أن شياطينهم هذه ضعيفة للغاية!). أما أنا فوقفت أتفرج من دون كلمة أو حركة، ويخالط دهشتي من هذا الأمر شعور بالطرافة. لعل الملازم أول شعر بخسارة سطل اللبن وساءه برود ردّ فعلي على غليانه المتصاعد، فأصدر أمراً جديداً نسخ ما قبله، حيث طلب من العنصر الطويل أن يسكب سطل اللبن ليس في التواليت بل… على رأسي!
لم أصدّق أن العنصر يمكن أن يسكب اللبن على رأسي كما لو أنه يسكبه في التواليت من دون تردد، أو أن الملازم أول سوف يثبت على قراره المستجد من دون تعديل. كنت مطمئناً إلى أن تغييراً ما لا بد أن يحدث لدى عنصرَي الفعل (الملازم أول والشرطي) بشكل يحول دون تحقق هذه الغرابة.
[كان عليَّ أن أتذكر أن عنصرَي الفعل هذين سبق لهما أن قادا مواجهة منطقية مقنعة ضدنا عندما اعترضنا على كميات الطعام المقدمة الينا، وبرهنا معاً أن كمية اللبنة التي يقدّمونها في وجبة الفطور على الطاولة المخصصة لثمانية أشخاص كافية لإفطار أكثر من 8 أشخاص. كان طعام الفطور موزعاً على الطاولات في المطعم المخصص لسجناء الجناح السياسي في سجن عدرا (دمشق)، وكنا قد امتنعنا عن الدخول احتجاجاً على قلة كميات الطعام. عندذاك أصرّ الملازم أول على دحض افتراءاتنا بقلة كمية الطعام، فأرسل الشرطي الطويل إياه برفقة سجينين ليبرهن أن الطعام المقدَّم على الطاولات أكثر من كافٍ. فرش الشرطي ثماني خبزات على الطاولة ووزع عليها كمية اللبنة التي لا يتجاوز حجمها حجم البيضة ثم لفّها على أنها 8 سندويشات لبنة، قائلاً إنه مع ذلك لم يمسح الصحن كما يجب! وعاد إلى الملازم أول وهو يحمل السندويشات الثمانية ليبرهن صحة كلام “المعلم”. وحين قال له أحد السجينين المرافقين إنه على هذا النحو يمكن صناعة 20 سندويشة لبنة من الكمية نفسها، قال الشرطي الطويل: لو طلب مني سيادته أن أصنع منها 100 سندويشة لفعلت].
حتى اللحظة الأخيرة، حين رفع الشرطي السطل مقترباً مني، اعتقدت أنه إنما يفعل ذلك لمجرد الإيحاء. لكنه سكبه بالفعل كما لو أنه طالما قام بذلك. في اللحظة الأخيرة انطفأ اطمئناني وأيقنت بجدية الأمر وتنحّيت جانباً. فكان أن نجوت برأسي من اللبن الذي اندلق على جاكيتتي وطرش على الأرض وعلى ملابسي وملابس الشرطي. كان الملازم أول قد دخل إلى مكتبه، فيما راح العنصر يبربر كلاماً مفاده أننا نحن من نجبرهم على القيام بمثل هذه الأشياء ¶
(سوريا)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى