صفحات مختارةميشيل كيلو

يا ابو خالد سامحني !

ميشيل كيلو
إلى روح المناضل المغربي والعربي الكبير محمد البصري، صديق عبد الإله بلقزيز وصديقي.

كثيرة هي الأفكار والمشاعر التي تحضر المرء كلما تذكرت جمال عبد الناصر، أحد أكثر الناس حضورا في تاريخ العرب. سيمزج هذا النص بعض التحليل والتأمل ببعض القصص الشخصية، إظهارا لمكانة عبد الناصر كشخص، وتلمسا لدوره كزعيم، وللمهم الباقي من تجربته الغنية.
وسأجعل مدخلي فكرة ردّدها على الدوام أستاذي وصديقي إلياس مرقص، أيدها بحرارة أستاذي وصديقي ياسين الحافظ، تقول باختصار: بعد كل شيء، تكمن أهمية جمال عبد الناصر في مسائل ثلاث:
ـ كان أول من رأى، ربما بعد سيدنا محمد (ص)، في الناس المنسيين، وإذن العاديين، أفراداً وجماعات، مواطنين وأمة، الجهة التي يجب أن تحمل مشروع تحررها الذاتي: الخاص والفردي، والعام: المجتمعي والأموي، لأن أحداً لا يستطيع تحريرها بالنيابة عنها، أو في غيابها.
ـ أول من قدّم للناس العاديين، ربما بعد سيدي ومولاي محمد ابن عبد الله، أفكاراً من شأنها أن تعيد البشر إلى التاريخ والتاريخ إلى البشر، ليصير تاريخاً لهم ومن صنعهم.
ـ أول من قاد وأنجز ثورة زراعية/ صناعية واسعة الأبعاد متشعبة النتائج، بهدف تعزيز استقلالية ودور الوطنية المصرية والقومية العربية، وأول من استخدم التعليم والمعرفة لبناء قوة بشرية خبيرة وقادرة على تحقيق هذه المهام الثلاث، وغيّر بصورة مؤثرة مواقع وعلاقات الطبقات، وطابع وبنية الحياة العامة، لتتمكن مصر من أن تنجز، وهي تغير وتطور بنيتها المتأخرة، ما أنجزته البلدان المتقدمة ببنيتها المتطورة، وتتمكن من ردم الهوة بين المتقدمين وبينها، ومن اللحاق بالعصر والعالم، بما هي دولة قوية ومجتمع حديث.
هذا الرهان الاستراتيجي ذو الأبعاد والنتائج العملية، كان رهاناً صائباً وممكن التحقيق، ولم يكن رهاناً وقتياً: جزئياً أو محدوداً، لأنه كان منفتحاً، في مقاصده الأخيرة، على التحرر الإنساني كهدف يتجاوز التحرر السياسي ويتخطى حقله ووسائله. أما ترجمته الملموسة في واقع مصر، التي اخترقت الدولة والمجتمع وعلاقاتهما، فقد شابتها أخطاء جسيمة لا شك فيها، وإن كانت لا تلغي أهمية الرهان أو تجعله ماضياً لا يقبل الاستعادة. وقع الافتراق بين الرهان وترجمته وتحول إلى فجوة اتسعت بمرور الوقت، لأسباب كثيرة، عبرت عن نفسها في أولويات خاطئة أملاها ظرف تاريخي واجه الثورة بتحديات خارجية (أميركية/ إسرائيلية)، وداخلية (المجتمع المتأخر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ومعرفياً، المنضوي في هيئات متناحرة)، فضلا عن تحدٍ طرحته خصوصية مصر والعرب، هو تحدي البحث عن طريق خاص يعزز استقلال البلاد ويساعدها على انتهاج مسار يضمن تحقيق رهانها في صعيدي الدولة والبناء المجتمعي، لتتمكن من تخطي تحديات متشابكة/ معقدة، تجعل من المحال فصل الداخلي عن الخارجي وبالعكس.
بسبب هذه المشكلات المعقدة، والافتقار إلى أدوات مجتمعية قادرة، اقتنع عبد الناصر بأولوية ومركزية دور السلطة (مفهومة كدولة) في التغيير، وجعله يرى المجتمع بدلالتها عوض أن يراها بدلالته، ويحصر عمله في وسائل السلطة السياسية وأدواتها، بدلاً من أن يعمل لإنتاج السياسة وعالمها انطلاقا من أولوية الإنسان ومصالحه. بهذه النظرة، غلبت ضرورات السياسة على أي شيء عداها، وتعزز تدريجياً دور السلطة بوصفها المجال السياسي. حدث هذا، لأن جمال عبد الناصر قبل، بتأثير التجربة السوفييتية وتلك التي عاشتها البلدان الرأسمالية المتقدمة، مخططاً جعل تحديث السلطة (مفهومة كدولة) شرط تحديث المجتمع، الذي مر بتاريخ مديد من تأخر شامل ومركب، لا بديل للسلطة خلال تحديثه، الذي سيكون سريعا وسيحرق المراحل ما دام يتم بوسائل وقوى مركزية ومؤهلة لتنفيذ ما تتلقاه من أوامر. هذا المسعى التحديثي على مرحلتين، توقف نجاحه على تحديث السلطة (الدولة)، الذي توقف بدوره على اكتسابها طابعاً مجتمعياً تستطيع أن تحقق بمعونته تحديثا مستمرا يطاول مختلف جوانب وجوده وأنشطته. أعتقد أنه لم يتم الانتباه إلى حقيقة مهمة، هي أن غياب هذا الطابع المجتمعي عن طور تحديث السلطة سيزيد الفجوة القائمة بينها وبين المجتمع المتأخر، وسيؤدي شيئاً فشيئاً إلى انفصالهما، مع ما يحمله ذلك من أخطار عليهما معاً، ومن تهديد لقدرة المجتمع على تحقيق استقلالية نسبية عن المجال السياسي، ومن حريات خاصة وعامة، تعينه على ممارسة رقابة شعبية ومؤسسية على السلطة التنفيذية، وتوازن بينها وبين السلطتين التشريعية والقضائية، بما يقيد ميلها الطبيعي إلى التحكم والاستبداد.
… بفشل تحديث السلطة (مفهومة خطأ كدولة)، تأكدت استحالة أي تحديث سياسي فوقي لا يلازمه أو يسبقه تحديث مجتمعي تحتي. أخفق مشروع تحديث الدولة، رغم التغيير الواضح في المجتمع، الذي قاوم في السنوات الأولى على قدم وساق، ثم كبحه واحتجزه تحديث السلطة المشوّه، فوجد عبد الناصر نفسه أمام صعوبة مزدوجة: تباعد رهان الثورة عن واقعها، وابتعاد السلطة عن وظيفتها الثورية، وتحولها إلى ميدان صراع بدّل طبيعتها، ووضعها أكثر فأكثر فوق المجتمع وفي مواجهته ـ برز هذا بعد هزيمة عام 1967ـ.
حدث هذا، رغم إنجاز عملي مهمّ حققه عبد الناصر، جسّده نجاحه تلمّس طرق إلى المستقبل يسهل اتباعها انزلاق مصر إلى الحداثة، انطلاقا من واقعها الخاص وبالإفادة من حاضنة دولية، بدا أنها تشهد تراجع الرأسمالية وتقدم الاشتراكية. تلمس عبد الناصر هذا الطريق عبر تجربته من جهة، ونقد النظامين السوفييتي والرأسمالي من جهة أخرى، فكان سباقا إلى جديد لطالما قال السوفييت باستحالته، بتأكيدهم على أن الاشتراكية إما أن تأتي عبر ثورة تقودها الطبقة العاملة أو أنها لن تأتي أبدا، في حين زعم الطرف الرأسمالي شيئا مشابها، بقوله: إن أية تنمية ستكون مستحيلة دون طبقة برجوازية. قام عبد الناصر بتجربة ليست عمالية أو برجوازية، نفذتها دولة تحدث نفسها ضمن توجه لاح أنه سيأخذها إلى الاشتراكية، لم يعرف مجتمعها ثورة زراعية/ صناعية وتشكل طبقات حديثة، وغلبت على بنيته الطبقات والفئات البينية . فيما بعد، تبين أن مستقبل التجربة لم يكن محكوما بخيار وحيد هو الاشتراكية، وأنها حملت في أحشائها احتمالات أخرى، جديدة بدورها، منها احتمال شبه رأسمالي، أو رأسمالي ناقص، فرض نفسه دون طبقة عاملة وبرجوازية: بقوة السلطة التي تحولت إلى رافعة وحيدة للشأن العام ورئيسة للحياة الاقتصادية والاجتماعية، أحكمت قبضتها عليهما، وأفلتت من أي رقابة، وأخذت البلد، في غياب طبقتي المجتمع الحديث الثوريتين: العمال والبرجوازية، إلى نظام ليس عماليا وليس برجوازيا، بينما كان عبد الناصر يصارعه، ولكن بمعزل عن المجتمع، ويحاول رفع قبضته الحديدية قدر الإمكان عن عنق المجتمع، ويهدده في خطبة ألقاها عام 1968بأنه سيقوم بانقلاب ضده. بعد غياب الزعيم وانقلاب السادات، حسم الوضع بسرعة لمصلحة التيار السلطوي، الذين كشف عن وجهه كجهة معادية للمجتمع وللثورة، ما لبثت أن أقامت نظام نهب مفتوح تحميه القوة.
هذا التطور غيب رهان الثورة حتى نسيه قسم كبير من أنصارها. وقد تخلى خلفاء عبد الناصر عنه بل وانقلبوا عليه، فهو اليوم رهان حقبة مقبلة ستراهن على المجتمع والإنسان، ستحدث وعيهما وستجعلهما خارج الحقل السياسي القائم وضده، ليكونا حاملي مشروع تحررهما. لم ينجح مشروع عبد الناصر، لكن قدم رؤية مهمة وضاربة لسبل خروج العرب من واقعهم الراهن، ووضع علامات مضيئة على درب مستقبلهم، حتى أن طريق العرب إلى المستقبل لن تكون مفتوحة إذا لم تستعد رهانات تجربته، وتستعيدها هي نفسها على صعيد يحررها من عيوب ترتبت، بين أشياء أخرى، على أولويات وحسابات حكمت حركتها وممارساتها.
في التجربة المقبلة، لن يكون هناك تحديث على مرحلتين، ولن تتم رؤية المجتمع بدلالة السلطة (مفهومة خطأ كدولة)، وإنما ستتم رؤية السلطة بدلالته، ولن تكون فوق أية رقابة ديموقراطية: مجتمعية ومؤسسية، ولن تقوم بنيتها على احتجاز وإحباط رهانات الشعب والأمة.
شق عبد الناصر طريقه عبر الخطأ والصواب. هذا ما عابه عليه خصوم شيوعيون وقوميون وليبراليون وإسلاميون رفضوا محاورته، أو كانوا أدنى مستوى منه، فوجد نفسه مجبراً على تلمس دربه بالتجربة المباشرة: خطوة بعد أخرى. بالمقارنة مع الصين، تحالف الحزب الشيوعي هناك مع حزب الكومنتانغ القومي، وفق حسبة سياسية تقول: عندنا الفكر الثوري وعنده الجماهير، فلا بد أن نتفاعل معها في إطاره وأن ننتزعها منه، إن رفض تطوير نفسه وتبني أهدافنا. عندما فهم تشان كاي شيك هذا الرهان، وحاول إخراج الشيوعيين من الحزب القومي، تمسك هؤلاء بتحالفهم معه، ولم يتركوه إلا لأنه أخرجهم منه بحرب أهلية (نشبت عام 1927)، غير أنهم عادوا إلى التحالف معه عام 1936 ضد الغزو الياباني.
عندنا، بدأ الشيوعيون يتهمون عبد الناصر بالعمالة للأميركيين منذ أوائل الثورة، لأن سياسة الحياد كانت تدعو إلى مسافة واحدة من السوفييت والأميركيين، ولأن تجربة عبد الناصر أتت مغايرة لأفكارهم حول استحالة الثورة والتغيير دون الطبقة العاملة أو تحت قيادتها (الحزب الشيوعي). فيما بعد انضمت جوقات قومية متنوعة إلى هذا الموقف، خاصة بعد أن نقل عبد الناصر معاركه إلى المجال القومي وتبنى الوحدة العربية وعمل لها. لم يجد الرجل أحدا يحاوره ، فتلمس طريقه وسط ظلام التجني وجلبة المعارك، بما أن الجماهير كانت معه، بينما كان خصومه في الحقيقة بلا أفكار، فإنه تقدم ببطء وتعثر نحو ما أراد، في حين بقوا هم بلا جماهير ـ إلى اليوم ـ، وتحوّلوا تدريجياً إلى سلطويين، رهانهم الوحيد الكرسي ثم الكرسي ثم الكرسي، وانحطوا بالسياسة من زمن «بغداد تكفيني» إلى زمن «كرسي يكفيني»!

وين عبد الناصر؟
م ك
ـ غاب عبد الناصر قبل أربعين عاما. ذات يوم ، زار الصديق سمير ذكرى، المخرج السينمائي المعروف، موسكو، ليبحث إمكانية أفلمة رواية «أرض الميعاد»، التي كتبها سوفييتي اسمه يوري كالسينيكوف وترجمها إلى العربية سعيد أحمد. اكتشف سمير في موسكو أن المؤلف يهودي وجنرال رفيع الشأن في المخابرات العسكرية السوفييتية، وانه اخترق مكتب رئيس وزراء إسرائيل دافيد بن غوريون بين عامي 1954 و1956، وعمل فيه كمهاجر مزعوم من روسيا، لمصلحة المخابرات السوفييتية. خلال اللقاء، الذي أراده الجنرال في غابة قريبة من موسكو، بدأ الرجل حملة سباب مقذعة ضد الأحزاب الشيوعية العربية، ما لبث أن وسعها لتشمل العرب. كان يتحدّث بعصبية ويكرر جملة واحدة: لقد ضيعتم، أيها الأوغاد، فرصة تاريخية يصعب أن تتكرر. منذ عام 1954،كان الإسرائيليون يركزون في اجتماعاتهم على أمر واحد: كيف يقضون على عبد الناصر، في حين كانت أحزابكم الشيوعية تتهمه بالعمالة لأميركا. اللعنة عليكم وعلى أحزابكم. كان فرصة نادرة ضيّعها غباؤكم وجهلكم وعجزكم عن قراءة الجديد. في النهاية، بلغ الرجل درجة من الغضب رفض معها تحويل روايته إلى فيلم .
ـ ذات يوم من عام 1986 توفى الله والدي حنا كيلو، بمرض السرطان. خلال أيامه الأخيرة، كان يفقد وعيه لأيام، ثم يستفيق من غيبوبته مطالباً بأشياء عاشها في شبابه. ذات مرة، استيقظ ونظر إلى حافة نافذة تتوسّط بيتنا في اللاذقية علقت فيها صورة لعبد الناصر خلال الوحدة، لكن أبي أمر والدتي بـ«إلقائها في الزبالة» بعد نجاح الانقلاب الانفصالي. منذ ذلك الحين، ظل ينتقد ويشتم عبد الناصر ويتهمه بكره الأقليات عامة والمسيحيين خاصة. سأل الوالد العائد إلى وعيه والدتي: غالية، وين صورة الرئيس؟ استفسرت: أي رئيس. رد بغضب: وين صورة عبد الناصر؟ قالت الوالدة بصوت هامس: يا شحاري منين بدي جبله صورة عبد الناصر؟ تعالى صراخه، فتذكرت أنها وضعتها فوق الحمام، طبتها على وجهها ووضعتها هناك عام 1961، فأتت بها وأعادتها إلى حيث كانت. نظر أبي رحمه الله إلى الصورة وقال مخاطباً عبد الناصر: يا أبو خالد سامحني، أنا ظلمتك كتير، والله بعدك ما شفنا الخير. بعد أيام من وداع أبي خالد أمضاها في غيبوبة، فارق الحياة.
عبد الناصر غاب؟ إنه الحاضر الأكبر في وعي ووجدان العرب، وسيكون معهم دوماً في نهوضهم!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى