صفحات الناسياسين الحاج صالح

توضيح من الكاتب ياسين الحاج صالح

null
تحية طيبة
نشر موقعكم مادة مترجمة للصحفي في مجلة “در شبيغل” إريك فولات، عنوانها: “كيف يقود الأسد بلاده بعيدا عن العزلة؟”، ينسب لي فيه أفعالا وأقوالا لا تطابق الحقيقة في شيء.
كان السيد فولات زار دمشق في أواخر شهر آب أو مطلع أيلول، إن لم تخني الذاكرة. وكرر الاتصال طالبا لقائي بصفتي كاتبا سوريا معارضا وبصفته صحفيا ألمانيا من مجلة شبيغل الشهيرة، يعد تحقيقا عن سورية.
بعد إلحاح منه، وافقت على لقائه لمدة ساعة، وفي بيتي. وهذا ما تم فعلا. تكلمنا باللغة الانكليزية عن جوانب من سيرتي كسجين سياسي سابق، وكان لدى السيد فولات معلومات أولية في هذا الخصوص.
وفي أواخر شهر أيلول وصلني، نقلا عن موقع لبناني، نص تحقيق السيد فولات مترجما إلى العربية.
ينسب إلي السيد فولات أني أسير كل صباح في شوارع دمشق، متطلعا إلى أسطح المنازل ومتشمما رائحة الهال، محاولا الاحتفاط في ذاكرتي بهذه الخبرات، لأني كنت معتقلا لوقت طويل في سورية. لا شيء من هذه العبارات التي تبدو مستخرجة من رواية ورد على لساني. الواقع أني قلما أسير في الشوارع صباحا، وقلما أصحو باكرا أصلا. فوق أن سلوكا كهذا ربما يقدم عليه سجين خرج لتوه من السجن، وليس بعد انقضاء نحو 12 عاما.
ويشرح الصحفي الألماني لقرائه سبب اعتقالي بـ”خطب شيوعية متحمسة” يُفترض أني ألقيتها أيام كنت طالبا في الجامعة. لا أعرف كيف أعلق على هذا الكلام المخترع؟ لم ألق خطبا شيوعية في حياتي. لقد كنت وقت اعتقالي عضوا في حزب قليل الشيوعية، معتدل الحماسة، معدوم الخطب، كثير النقد. ولا يسرني أن ينسب لي ما شاء فولات نسبته لي، لا لأنه مخالف لحقيقة فقط، ولكن كذلك لأن صورة الخطيب المتحمس تثير نفوري أيضا.
ويمضي السيد فولات إلى القول إني كنت أتعرض لاستدعاءات أمنية شهرية بسبب مقالات كنت أكتبها في صحيفة لبنانية. الرجل هنا أيضا وفي لمبدئه في عدم الأمانة. بلى، لقد تكلمت على استدعاءات أمنية…، لكن إيقاعها الشهري من مخيلته هو. لقد استدعيت أو “أخذت موجودا” إلى جهات أمنية عدة مرات (ذكرت عددها) بين خريف 2001 ومطلع 2005. وقد قلت للسيد فولات إني لم استدع أبدا بعدها. ولسبب ما لم يشأ أن يذكر ذلك.

لكن “الأمانة” الصحفية لصحفي در شبيغل تبلغ ذروتها حين يورد أني قلت بعبارة ابتغي منها “التحريض والاستفزاز” (هذا تعبيره): “نحن رهائن عند عائلة الأسد”. ترى، هل أحرض السوريين على النظام في صحيفة ألمانية، تحدثت إليها بالانكليزية؟! أما كنت أستطيع القيام بذلك باللغة العربية وفي صحف ومنابر أكتب فيها أسبوعيا؟
لقد استخدمت تعبير رهينة (وليس رهائن) فعلا. قلت إني صرت أشعر بأني رهينة بعد أن منعت من مغادرة البلد منذ سنوات. أما عبارة “عائلة الأسد” فلم تجر على لساني. النبرة العالية والكلام الحاد والتحريضي لا يناسب ذوقي وأسلوبي. ولست على كل حال عنترة ابن شداد لأقول كلاما كهذا، ولا أحب تمثيل دوره.
ويختم فولات عمله الصحفي ببضعة سطور يُفترض أني علقت بها على التحولات الاقتصادية في سورية. ومضمونها كلام سطحي و”سياسوي”، لا يخلو بدوره من نبرة تحريضية.
فور اطلاعي على “تحقيق” الهر فولات كتبت إلى العنوان الإلكتروني المثبت على البطاقة التعريفية التي تركها لي، على دأب الصحفيين الأجانب، رسالة تتضمن ما قلته فوق، وتضيف إني أعتبر الصورة التي قدمني بها مهينة وغير مقبولة، وتطلب منه ومن مجلته اعتذارا. وقد بلغ السيد الصحفي من الشجاعة الأدبية والمهنية حد أنه امتنع عن الرد!
لكن ما الذي يدفع شخصا لا تجمعني به معرفة سابقة لأن يلفق أشياء مبتذلة وينسبها لي، بينما كان يسعه أن يورد صورة واقعية أكثر صدقية، وحتى أكثر جاذبية للقراء؟ لاحظت أثناء زيارته لي أن السيد فولات لم يكد يدون شيئا مما قلت، وقد دار معظمه كما ذكرت على سيرتي كسجين سابق. لعله معتاد على التعويض عن نقص المعلومات المسجلة بالخيال النشط. وربما تعلم أثناء تأهيله المهني أن من المرغوب للصحفي أن يضفي صورة حية على تحقيقاته والأشخاص الذين يقابلهم، فلا يبقون مجرد “محللين سياسيين” أو “ناشطين” أو “كتابا”… ولعله من هذا الباب اخترع مشاويري الصباحية والأسقف ورائحة الهال و”خطبي الشيوعية المتحمسة”… ولأن في ذهنه صورة للناشط المعارض قد تكون مستمدة من أفلام سينمائية شاهدها.. فقد افترض أن إغلاظ القول بحق النظام هو ما يتعين علي أن أقوله حتى لو لم أقله. فالصحفي الألماني مؤهل لتمثيلي وتمثيل سورية أكثر مما أستطيع أنا أو غيري من السوريين فعله.
كان يمكن ألا اشغل بالي بكل ذلك، وان أعتبر إساءة نقل ما قلت أو من أكون حادثا يحصل أن يقع (وقد سبق أن وقع مثله مرة أو مرتين سابقا)، خصوصا وأن الرد سيثير مزيدا من الاهتمام بتحقيق رديء لا يستحق غير الإهمال. غير أن تعليقات سمعتها من أصدقاء أظهرت لي أن هذا ليس خيارا سليما. أدرك أن الصحفي الألماني لم يترك لي من خيار غير السيئ أو الأسوأ، لكني أبادر إلى ما آمل أنه السيئ فحسب، من باب تحمل المسؤولية عن استخدامي على هذا النحو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى