صفحات ثقافية

ســيـجـــارة بــول شــــاوول

null
عبد الوهاب الملوح
“على غير توقع” يباغت بالحضور من دون أن ينزع عنه معطف الغياب. من دون أن يزيح عن وجهه ستائر دخان يتكثَّف ولا يكف عن التجدد. لا يزال بول شاوول يتعقَّب خلاله سيرة – تراجيدية – درامية – كوميدية لـ”وجه يسقط ولا يصل”. يقلِّب صفحات دفتره كما لو أنه ليس هنا تماما. مع هذا ما كان له أن يقف بهذه الحيادية إزاء ما يتخطاه بلا إذن ولا قاعدة. وليس ثمة من قاعدة في الحقيقة غير الاستثناء.
في عبارة أوضح: هذا شاعر لا يستعجل الشعر ويفتح أكثر من جبهة ليقتنصه ويحياه. يحيا الشعر وتهجس به تفاصيله من أجل أن يتحول عنده إلى إدراك ووعي. يتحوّل عنده قوّة فعالة. خلاَّقة. يُعدُّ من الصمت مشروعا ينهض على الاحتفال الكرنفالي بالعابر العرضي. يُعليه. يكبره في لقطة زوم تمجِّد الأشياء البسيطة وتكشف المسافة المأسوية التي تفصلنا عنها بما تتوافر عليه من عناصر لامرئية هي الوقود الحقيقي لتشكيل هوية الذات وهي تصارع من أجل تحقيق كينونة تعمل قوى عدة على اغتصابها ومصادرتها لتفصيلها وفق مقاساتها. لن يعني هذا إطلاقا أن الشعر مقاربة ميتافيزيقية ولن يكون كذلك أبدا بما انه لا يأتي من الشعر فقط أو الادراك الغيبي. ومن يقرأ بول شاوول في جميع أعماله سيتأكد من حقيقة في منتهى البساطة. حقيقة أن الشعر يأتي من الحياة وتفاصيلها الدقيقة وأشيائها المتناثرة هنا وهناك ومشاغلها اليومية، التي وإن بدت بسيطة تظل هي جوهر الوجود، والأدب هو ما يلتقط هذه البساطة ويعلِّيها أو كما قال ميرلو بونتي ذات يوم: “كيف يتسنَّى لنا أن نفهم هذه اللحظة اللغوية الخصبة التي يتحول فيها العرضي إلى ضروري”، بحيث تدشّن الكتابة لحظة النص الذي يفتح بتجلياته فعل الحياة في أبسط صوره من خلال تفاصيل الأشياء التي تبلى من دون أن تفقد جوهرها وسرَّها، من خلال الاحتفال بنثريات الحياة وتوقير بساطتها وإعلاء مقامها وقد تم إهمالها في زحمة اليومي كما لو أنها تتأكل بالنسيان. كشف حرارتها ونضارتها لا تبلى. إنها كتابة اللحظة وهي تتجلى في توقها الكوني من خلال رصدها لأدقِّ التفاصيل وأشدها التصاقا بالمرء وهو يباشر شؤونه. كتابتها بلغة متقشفة زاهدة في الفخامة المنبرية. متخففة من المحسنات البلاغية متصالحة مع جمالها العمومي من دون أن تفقد نضارتها البرية وعمقها الدلالي وإيحاءها المشحون المكثف. قاموس طري يتشكل من لغة اليومي المتداول. لغة الشارع المعتادة يتلقفها الكاتب بكل حنو وعشق يمسح عنها صدأ التأكل وقد أعاد اليها ألقها من خلال أسلوب انسيابي يتّسم طورا بتوهج شعري على شكل تفجرات إشراقية تلتمع من خلال صور شعرية يتقن الكاتب تفخيخ نصه بها من دون الوقوع في إغراءات جماليتها والاكثار منها وما قد يحدثه تكرار هذه الجماليات من تجريد ينسف بنية النص ككل وهو ما يجعل الأسلوب حينا آخر يتوفر على توتر سردي لا يكاد يتشكل فيتقوَّض لصالح بنية أخرى ليس من الضرورة أن تتشكل وفق توجه سردي. نظام الشذرات والحكايات المتشظية يعزّز هذا التلون في الاسلوب ويمنح الكاتب هامش حرية فسيحا يستطيع من خلاله التحكم في الايقاع الذي، وإن بدا خفيا بل ومهملا تماما فإنه صاخب متدفق من الداخل، هادئ وخافت على السطح، وهو ما يضفي على النص جمالية مغايرة لما هو معتاد. تشكيل الإيقاع وفق هذه الصيغة إنما هو مرقى جمالي لطالما عمل الشعراء والكتاب عموما على بلوغه وذلك في محاولة للإفلات من الانضباط لقوانين الإيقاع الفنية في النص الإبداعي بما ان الإيقاع ضرورة فنية فكيف يمكن تحقيقها من دون الانحناء لشروط هذه الضرورة وهو سؤال الكتابة الفنية منذ الأزل؟
لقد استطاع بول شاوول أن يصنع ايقاعا دافئا حميميا يستمد طاقته من تورط القارئ في النص وجرّه للتفاعل معه إبان قراءته.
مرةً تساءل روسو في دفاتره: “كيف يمكن ان تكون شاعرا في النثر؟”. لقد أجاب بول شاوول عن هذا السؤال بامتياز.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى