صفحات العالمميشيل كيلو

محن تستنزف العرب

ميشيل كيلو
بعد فلسطين، لعبت أزمة لبنان، المستمرة منذ نيف وخمسة وثلاثين عاماً، دوراً هائلاً في استنزاف العرب: حكومات وشعوباً وأفراداً . إذا كانت المسألة الفلسطينية قد استخدمت لاحتواء التطور العربي، ولضبط حركة وقدرات الدول العربية ومنعها من تخطي سقف معين في مجالات التقدم المختلفة، بما يحقق تنمية العرب ووحدتهم كذات فاعلة ومستقلة، فإن الحدث اللبناني استخدم لاستنزاف المجال الداخلي والقومي، ولإنهاك البلدان العربية وإبقاء سياساتها محكومة بالصراع في ما بينها، وبتغيير أولوياتها، بحيث تحل صراعاتها الداخلية محل صراعاتها الخارجية، وتطوى صفحة الصراع مع “إسرائيل” لصالح صفحات متجددة من صراعات تغطي الفسحة القومية وتقسم الأمة إلى معسكرات متنازعة، تتغذى خلافاتها من تناقضات متجددة متجذرة، نلمس النتائج المأساوية التي ترتبت عليها .
بعد فلسطين، التي انتزعت بالقوة من الجسم العربي، ووضع ضياعها حدوداً لتقدم العرب السياسي والاقتصادي والعلمي . . . الخ، كان من الضروري بلورة أنماط من الصراعات، تقوض قدرات هذا الجسم وتسلبه مناعته الذاتية، بدفع أعضائه إلى صراع بلا نهاية، يضعه في مواجهة بعضه، فتساعد الأوضاع العربية الكيان الصهيوني في تحقيق استراتيجية تنصب على إبقاء التفكك والتأخر العربي وتعميقهما، وعلى الحيلولة بين العرب وبين ردم هوة تقدم تفصل العالم عنهم، يزيدهم توسيعها غربة عنه ويحول دون تمركزهم على ذاتهم، وإقامة شروط تقدم تراكمية وحديثة .
بقدر ما تعاظمت صعوبات الدور “الإسرائيلي”، تزايدت أهمية ومركزية ما سميته “الحدث اللبناني”، الذي استند إلى وجود الأول، وتطور في ظل قدرات رادعة يملكها، قيدت أيدي الدول العربية وأعجزتها عن إنهائه أو إيجاد حل نهائي له . في الأعوام الثلاثين الأخيرة، أخذ دور “إسرائيل” ودور الحدث اللبناني طابعاً تكاملياً  تفاعلياً، فبدا كقدر لا يمكن رده، وأدى إلى مزيد من الشقاق العربي، وتعمق متجاوزاً محاولات كبحه، وغدا موضوع خلاف دائم داخل المجتمع اللبناني والمجتمعات العربية، حتى ليثير استمراره العجب ويطرح سؤالاً محيراً: لماذا فشل العرب في وقف استنزاف مخيف يدمر واحداً من أكثر مجتمعاتهم تقدماً، ويضعفهم ويثير الفرقة والعداء بينهم، مع أنهم يعترفون أنه لا مصلحة لهم فيه، ويعلنون رفض استمراره، ويقولون إن انتشاره إلى خارج لبنان خطر ماثل، سيكون كارثة وخيمة النتائج .
فتح الحدث اللبناني صفحة جديدة في تاريخ العرب الراهن، الحافل بالصراع والتمزق . وأضفى الشرعية على ما كانت لغة السياسة الحكومية ترفضه: اقتتال أخوة هم أبناء شعب واحد، بدلالة حسابات وارتباطات تلغي مشتركاتهم وتقوضها، وتحول عوامل الوصل والتفاعل بينهم إلى عوامل فصل وتطهير متبادل، فلم يعد ما يفعلونه بأنفسهم وببلدهم انتحاراً يجب وقفه بأي ثمن، وينقلب القتل إلى مشهد يومي مألوف في صراع أبدي بين الحق والباطل، ويصير من المحتم تأييد الحق وشد أزر أنصاره ومقاتلة الباطل والقضاء على أتباعه، وبالتالي الانخراط في الصراع والقتال، بدل وقفه .
انضم العراق بعد عام 2003 إلى هذه الحالة . وتحول إلى مكان تتم فيه عملية استنزاف واسعة تنهك العرب وتتخطاهم إلى الإقليم، يراد منها استنزاف إمكاناتهم وإمكاناته، ترشحها مواصفاتها للعب دور أشد خطورة بكثير من دور الحدث اللبناني، نظراً لاختلاف إمكانات أطرافه وقدم خلافاتهم وحدّتها، وانخراطهم المديد في نزاعات غالباً ما تحولت إلى قتل مسلح، وأهمية موقع العراق وضخامة ثرواته، ورمزية دوره في تاريخ العرب والمسلمين، والمخاطر التي ستترتب على دوره السلبي الجديد، المناقض لطابعه التاريخي المعروف: الإيجابي والبناء . وأخيراً قدراته التي تمكنه من استنزاف جواره إلى أمد طويل . . . الخ . والغريب، أنه بعد وقوع الحدث اللبناني وما نجم عنه من آثار مدمرة، يتبلور اليوم “حدث عراقي” يقوم على الأسس التي ضمنت ديمومة الاقتتال اللبناني  اللبناني، ورعت تناقضات اللبنانيين وأبقتها على نار حامية تجعلها مرشحة للانفجار في أي وقت، رغم استراحات متقطعة لم ترتق يوما إلى مستوى سلام أهلي أو حتى هدنة تلزم أطرافها .
مثلما دخلت خلافات عربية كثيرة في قنوات الصراع اللبناني  اللبناني، فغذتها وتغذت منها، كذلك تدخل اليوم صراعات المجال العربي الواسع إلى قنوات الصراع العراقي  العراقي، بينما تجد تركيا وإيران، أمريكا وروسيا وأوروبا وشرق آسيا، لنفسها أدواراً متفاوتة داخله، فلا تبقى بعيدة عنه وعن نتائجه وآثاره، لأسباب أهمها أنه يراد له أن ينقلب إلى صراع واسع إلى أبعد مدى، سيسير من الآن فصاعداً في خط يبطل الصراع العربي  الإسرائيلي، القومي الهوية، واللبناني  اللبناني، الداخلي المقومات، العربي  الدولي الأبعاد والموارد . مع الحدث العراقي، سينفتح طريق صراع شامل يجب أن تنخرط فيه دول منطقتنا جميعها، وسيحمل أي تطور مستقبلي نعيشه سماته وسيسهم فيه بصورة من الصور . وإذا كانت جهود متنوعة قد تصدت بالأمس القريب للاحتلال الأمريكي في أرض الرافدين، فإن الأولوية ستكون بعد “الانسحاب الأمريكي المزعوم” للخصم الداخلي: للآخر الذي لن يكون بعد ذلك شريكاً في وطن، وسيصير عدواً تمتد جذوره وأذرعه إلى خارج بلد .
إذا كان أحد لم يستطع وضع حد للحدث اللبناني، رغم الاتفاقيات الداخلية والعربية والدولية، فمن سيضع حداً لحدث عراقي الغرض منه إفراغ منطقة كاملة، تنتمي إلى العالم العربي وما يسمى الشرق الأوسط، من القدرة على الاستقلال والإرادة الحرة، ومن الثروة وربما القسم الأكبر من السكان، وإحداث فوضى على نطاق غير مسبوق، تداني نتائجها في حجمها ما عرفته مناطق مختلفة من العالم خلال حروب دامت عقوداً عديدة، كالحرب الأهلية الصينية، التي فاق عدد ضحاياها ضحايا الحرب العالمية الثانية، مع ملاحظة أن الحرب انتهت في الصين إلى حكم جديد، قوي ومنظم، بينما يراد للفوضى أن تقضي عندنا على فكرة وإمكانية الحكم، وأن تأخذنا إلى خراب ينجب المزيد من الفوضى .
مثل الحدث اللبناني اختباراً لقدرة العرب على الإمساك بأعنة مشكلاتهم وحلها، ولقدرة الآخرين على الإفادة من أزمات الأمة وخلافات دولهم . وبصراحة، فإن استمرار الحدث أكد فشل حكوماتنا في التخلص من “خرّاج” لبنان، الذي أنهك العرب وقوض عافيتهم وامتص جزءاً كبيراً من طاقاتهم، وعمق تناقضاتهم إلى درجة امتنعوا معها عن تبادل الكلام خلال لقاءاتهم على أعلى المستويات . لا حاجة إلى القول: إن الحدث العراقي يمثل تحدياً تفوق خطورته خطورة أي حدث عرفه العرب خلال الحقبة التالية لعام 1948 . تختبر المحن عود الأمم . بعد محنة فلسطين، ثم لبنان، ها نحن في مواجهة أعظم محنة يمكن تخيلها: محنة العراق . لقد قصمت المحن ظهر أمتنا بدل أن تصلبها وتقويها، والمصيبة أنه ليس لديها من خيار غير أن تصحو من موت شتوي مديد، دون الخروج منه مصاعب لا حصر لها، أو أن تذهب إلى موت لا رجعة منه، تتوفر سائر مقدماته في واقعها .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى