صالح ديابصفحات ثقافية

و أنا أيضا أريد أن أكون لبنانيا: متى يتصالح أدونيس مع سوريته

null
صالح دياب
‘يكتب منذر مصري مقالا عن مهرجان ‘ أصوات حية من متوسط إلى آخر’ في ملحق ‘ نوافذ’ يخصص أكثر من نصفه للحديث عن أدونيس وعدم رغبته في الانتماء إلى سورية، رابطا ذلك بجائزة نوبل، وذلك قبل صدور نتيجتها.
ما يطرحه منذر مصري في تساؤلاته عن انتماء الشاعر أمر يطرحه ليس بعض المبدعين السوريين فحسب بل الشعراء العرب والمثال على ذلك هو النقاش الذي ينقله منذر مصري عن الشعراء العرب المشاركين في مهرجان ‘ سيت’، حول أدونيس وانتمائه، لا بل بعض الشعراء الفرنسيين المعروفين، وكلها أحاديث غير مكتوبة،عن الأسباب التي تدفع بأدونيس إلى الانتماء رسميا إلى لبنان وليس إلى بلده سورية.
والحال ان مقال المصري بقدر ما يتضمن الكثير من العتب والمرارة وعدم الفهم يحمل الكثير من المحبة للشاعر والتقدير لنتاجه ولشخصه أيضا.
كيف يمكن لشاعر ولد في سورية وعاش في لبنان، فترة من الزمن، ثم عاد إلى سورية، ثم إلى لبنان، ثم ذهب إلى فرنسا، أن يتنصل من الانتماء إلى بلده الأم سورية.
منذر مصري الذي يعيش على مقربة من مسقط رأس الشاعر والتقى أو يعرف بعض أقربائه، يصدمه هذا الإصرار من قبل الشاعر على جحد سوريته، رغم أنه ولد وترعرع فيها، مع أنه عاش شطرا من حياته في لبنان، منذ زمن طويل، لا بل يبدو الأمر محيرا لمنذر، أيحتاج الشاعر إلى أن يلعب على هذا الوتر خصوصا رغم علو قامته الشعرية والفكرية عربيا وعالميا؟
أدونيس ينقز دائما من سوريته. هو غير متصالح معها. لا يريد أن تذكر إلا بوصفها مكانا للولادة. إذ يأتي سريعا في سيرته اسم لبنان. وأنا هنا أتحدث عن أدونيس المترجم خصوصا. لكن كل من التقى الشاعر يرى أنه يتكلم بلكنة تحيل على منطقته. وليس بلهجة لبنان الذي يحب أن ينتمي إليه، رغم طيلة فترة عيشه فيه.
استضاف مهرجان لوديف أدونيس قبل سنوات. في تلك السنة، لم يشأ أدونيس أن يحدد بلده، في البرنامج المطبوع. لم يرغب أدونيس في تلك الدورة أن ينتمي إلا إليه، إذ لم يتم تحديد أي بلد له.
لكن لكل مهرجان برنامج والشعراء موزعون بحسب دولهم. وعلى المشاركين تحديد بلدانهم. في الدورة الأولى من مهرجان ‘ أصوات حية من متوسط إلى آخر’، طرح الأمر من جديد على الشاعر: في أي بلد تريد أن تصنف ؟ فاختار لبنان، وشارك بوصفه شاعرا لبنانيا. لكنه أصر على أن يكون أصله سورياً. أمر الولادة لا يمكن أن يتنصل منه شخص في العالم.
في إحدى الندوات المخصصة لأدونيس في المهرجان طرح عليه محاوره سؤالا يتعلق بانتمائه إلى لبنان أو سورية فأجاب: ‘ لا انتماء للشاعر، الشاعر ينتمي إلى العالم كله، ولا بلد له’. بالطبع لم يتحدث أدونيس عن الانتماء الرسمي، في البرنامج المطبوع، وكان هذا القصد من السؤال.
قد لا يشعر أدونيس بأنه سوري. فالشاعر حقق حضوره الأدبي كله في لبنان، وتشكلت شخصيته الأدبية في لبنان. وتنشق الحرية في لبنان، وهو يشعر بأن عواطفه وجوارحه تعود إلى لبنان، لا إلى سورية. لم لا؟
علينا كسوريين أن نقبل ذلك، وألا نعتب عليه لأنه لم يوقع على عريضة، أو نتهمه بأن لا مواقف واضحة له من النظام في سورية، إلى سائر الانتقادات الموجهة له من قبل بعض السوريين. بكل بساطة هو يعلن نفسه شاعرا ينتمي إلى بلد آخر، وعلينا احترام قناعته في الانتماء. وعلى الجميع وأن يفهم هذا الأمر، ولا يطلب من الشاعر أن يكون ما ليس هو عليه. علينا ألا نقحمه في سوريتنا.
لينتم أدونيس إلى البلد الأقرب إلى قلبه. ولا ضير في ذلك. فالانتماء إلى بلد معين هو انتماء روحي داخلي ولا علاقة له لا بالميلاد ولا بالأوراق الرسمية، ولا حتى بالفترة الزمنية التي نقضيها فيه. ولا حتى بمكان الولادة. علينا ألا نحمل الرجل ما نحمله على السوريين الآخرين، وأن نعفيه من مشاكلنا السورية، فهو لا يشعر أنه واحد منا. وكفى المؤمنين شر القتال.
قد لا يسعى أدونيس إلى أي تحقيق حضور له باستخدامه الانتماء اللبناني. فالرجل كان يصرح بأنه لبناني قبل مجيئه إلى فرنسا. ويكفي أن نرى أغلفة كتبه المطبوعة باكرا، فهي مذيلة بجملة ‘ استعاد جنسيته اللبنانية’، حتى وإن بدت كلمة ‘ استعاد ‘ غامضة وغير قابلة للفهم، لكل من يقرأها.
ولكن هل قبل اللبنانيون أدونيس بوصفه واحدا منهم، أو على الأقل الأدباء منهم؟
بقيت في لبنان، سنوات عديدة، وقد كنت ألتقي بأغلب الأصدقاء الشعراء اللبنانيين. ما أذكره جيدا أنه لم يتكلم أحد عن أدونيس إلا بوصفه سورياً في لبنان.
كتب أدونيس مقالا عن بيروت، فردّ عليه سائر الشعراء اللبنانيين. كانت ردودا عليه، رمزيا، بوصفه سورياً. كتاب لبنانيون كتبوا وما زالوا يكتبون مقالات أشد قسوة وانتقادا لكل شيء في لبنان. مع ذلك، لا تجد مقالاتهم ذلك الصدى العنيف والسريع الذي لاقته مقالة أدونيس عن بيروت. أدونيس كسوري غير مسموح له أن ينتقد بيروت التي احتضنته كما تم التصريح بذلك. أيضا يتم الغمز منه ‘ كسوري’ بأنه انتحل أمر تأسيس مجلة ‘ شعر’ وهو يسوق نفسه، على انه مَنْ أسّس المجلة، من سوري آخر هو أشد لبنانية منه. فالمجلة رغم أنها في ذمة التاريخ هي شأن لبناني يخص المسيحيين أبا عن جد فحسب، وليس المسيحيين من أصل إسلامي.. حتى وإن كان أدونيس دينامو المجلة : ترجمة ونقدا ومتابعة، فضلا عن وجود سوريين آخرين في المجلة، وأنه يستخدم اسم لبنان للوصول إلى نوبل والغرب، وهذا ما أشار إليه أيضا مقال المصري.
لو كان أدونيس لبنانيا حقا ومقبولا من قبل اللبنانيين بوصفه واحدا منهم، لما لاقته مقالته ما لاقت من شجب ونقد تم أحيانا تجريحه وليس الغمز من سوريته فحسب، بل من تحدره من الطائفة التي تمسك بمقاليد الحكم في سورية. لكن رغم كل ذلك يصر أدونيس على أن يكون لبنانيا.
بعض الكتاب والشعراء والفنانين السوريين عاشوا أكثر من أدونيس في لبنان وحصلوا على الجنسية اللبنانية مع ذلك لم يصرحوا بأنهم لبنانيون، لا بل إن البعض ولد في لبنان. القضية رغبة شخصية داخلية.
لا يحمل أدونيس جواز سفر سورياً بل لبنانيا وفرنسيا. ربما يحق له رسميا أن يقول أنه لبناني. فهو لا يتنقل بجواز سوري، ولكن هل الانتماء إلى بلد معين يمر عبر جواز السفر فقط ؟
أدونيس تلقى نكرانا تاريخيا، كبيرا من قبل سورية مسقط رأسه ولا يحمل جواز سفرها. هو ينقز دائما من سوريته، لا بل لا يريدها أن تذكر إلا بوصفها مكانا للولادة. لكن ما حصل لأدونيس من نكران سوري حصل ويحصل لسائر المبدعين السوريين. هذه هي الحياة وضريبة العيش والولادة في هذا المكان من العالم.
عربيا لم تؤخذ على محمل الجد جنسية أدونيس اللبنانية، إذ لا يقدمه بمن فيهم الشعراء اللبنانيون في حواراتهم بوصفه شاعرا لبنانيا، أو إضافة اسم الشاعر اللبناني قبل اسمه. يكفي أن نجرب مثلا أن نضع كلمات ‘ الشاعر اللبناني أدونيس’ في محرك البحث غوغل، وسنرى أنه يرد اسم ‘ الشاعر السوري اللبناني أدونيس’ فقط في أخبار نادرة مأخوذة عن وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب. بالعربية لا يرد إلا بوصفه شاعرا سورياً. والعكس غير صحيح لو كتبنا بالفرنسية الشاعر اللبناني أدونيس، فلن يعطينا المحرك أدونيس بالفرنسية إلا بوصفه شاعرا لبنانيا.
أدونيس ‘ الشاعر اللبناني’ كما يحب أن يكون، يفاجىء الجميع ويوقع على عريضة الـ 99 الشهيرة، التي تطالب النظام السوري بالتغيير. كما يرسل تحية إلى أنطوان مقدسي، وميشيل كيلو وفايز سارة، وأيضا يبدي رغبته في أن يدفن في قريته، في حديقة بيته، في سورية، وليس في لبنان البلد الذي يصرح بانتمائه إليه.
عشت في مدينة اللاذقية ثماني سنوات، وكنت ألتقي دائما بالأستاذ المرحوم أحمد الخير في مركز الفنون التشكيلية الذي كان يترأسه والصديق الشيخ عبد اللطيف صالح والاثنان من بلدتين تقعان قرب قرية أدونيس. ويعرفان أهل الشاعر. كنا كلما تحدثنا في هذا الأمر كان أحمد الخير رحمه الله يدور دورة أو دورتين كاملتين، من على كرسيه البرّام المهترئ والممزق الجلد، الذي على هيئة البلاد، شابكا يدا بيد، ثم يفرمل الكرسي الذي لا يتوقف عن الدوران، وإحداث صرير يثقب الأذن، ليطلق قهقهة مدوية، قائلا : وأنا أيضا أريد أن أكون لبنانيا، ثم يلتفت إلى الشيخ عبد اللطيف قائلا له : وأنت يا شيخنا القرفيصي ألا تريد أن تكون لبنانيا ؟ فيهز الشيخ رأسه، مبتسما، هامسا بوداعة،على عادته: وأنا أيضا أريد أن أكون لبنانيا. ‘
قد يكون لبنان الذي ينتمي إليه الشاعر هو لبنان الفكرة التي كانت منشودة، لبنان العاصمة الإيديولوجية والحضارية للشرق الأوسط، الذي يفتح الشرق الأوسط بعضا على بعض وفتح الشرق الأوسط على العالم، لبنان الذي يلعب دورا تغريبيا، لبنان صلة وصل بين الشرق نفسه بالإضافة إلى كونه صلة وصل بين الشرق والغرب، لبنان المسؤول عن الشرق، كما يقول أحدهم، أو الحرية والديمقراطية اللبنانية على علاتها، بحمله لجواز السفر اللبناني. وليس سورية التي سجنته. وعانى فيها مرارة الفقر والسجن. هو القائل عن السجن ‘ السجن نوع من القتل. نوع من إنهاء حياة إنسان. السجن حين يكون بسبب جريمة قتل شيء، وحين يكون بسبب أفكار، شيء مختلف كليا. باختصار السجن جريمة بحق الحضارة’.
أدونيس سوري في سورية والعالم العربي ولبنان ولبناني في الغرب. متى يكف العرب والسوريون عن النظر إليه بوصفه سورياً، ومتى يطوّبه اللبنانيون لبنانيا ويكفون عن الغمز منه بوصفه سورياً؟
2008 دمشق عاصمة للثقافة العربية. الاحتفالية الرسمية تذهب إلى أدونيس، وتصدر كتابا رمزيا عنه بوصفه سورياً: ‘ أدونيس عراف القصيدة الحديثة’. الشاعر اللبناني أدونيس واحد من الأدباء الذين صدر كتاب عنهم ضمن الاحتفالية الثقافية الرسمية، ضمن قائمة تضم كتابا سوريين عدة. أين سيهرب أدونيس من سوريته؟ إنهم يلاحقونه بها. إنها تلاحقه.
شاعر من سورية يقيم في باريس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى