صفحات الناس

ساحة المرجة تؤرّخ دمشق

null
خليل صويلح
في ساحة المرجة سيصادفك من يلبي طلبك على الفور، وربما يخطف حقيبتك، ويسبقك إلى الفندق الذي اختاره لك، مع غمزة لها معناها في حال لديك رغبة بليلة خاصة. آخر يقترح عليك ملهى قريباً، وسائق تاكسي يضع سيارته تحت تصرفك لقضاء نهار في المتنزّهات المحيطة بالمدينة. صباح اليوم التالي ستستيقظ بمزاج مضطرب غالباً، وخصوصاً إذا كان سريرك على السطح بجوار غرباء لا تعرفهم، هم جنود في إجازة أو عمال مياومون أتوا من محافظات بعيدة بحثاً عن فرصة عمل في العاصمة.
في المقاهي المحيطة بالساحة ستلتقي تجار عملة وسماسرة فيزا مزوّرة إلى الخليج، ومرضى في عيادة أطباء مشهورين و… بنات هوى. جولة بسيطة في محيط الساحة ستقنعك بأن دمشق كلها مختزلة في هذا المحيط: عدا الأطباء ومكاتب المحاماة ومكاتب تعقيب المعاملات، هناك باعة الحلويات الدمشقية، وسوق السمك والخضروات وسلال القش وسوق الطيور وباعة العطور المركّبة، والكحول المهرّبة… و«القطعة بعشر ليرات»، والأقراص المدمجة، والكاسيتات، ومحال بيع الحقائب. من مقهى «علي باشا» سيطالعك النصب التذكاري وسط الساحة تماماً. النصب أقامه الوالي العثماني حسين ناظم باشا عام 1907، تخليداً للاتصالات البرقية بين دمشق والمدينة المنوّرة، وصمّمه المعماري الإيطالي ريموندو دارونكو، ويتكوّن من قاعدة بازلتية وعمود من البرونز ينتهي بمجسم مصغّر لجامع يلدز في اسطنبول. تحت هذا النصب بُنيت أعواد المشانق لشهداء 6 أيار، ثم مكان دائم لإعدام المجرمين. كان أهالي الأحياء المحيطة بالساحة يتجمهرون فجراً لحضور شنق أحد المجرمين.
ساحة المرجة التي تأسست في العهد المملوكي وتمّ تحديثها في العهد العثماني، ثم الفرنسي، شهدت أحداثاً مفصلية في تاريخ البلد: إعدام الوطنيين الأحرار في 6 أيار 1916 على يد جمال باشا السفّاح، فسُمّيت «ساحة الشهداء»، كما كان الفرنسيون يعدمون الفلاحين المتمردين، ويلقون جثثهم وسط الساحة لإثارة رعب الأهالي، ومن هذه الساحة انطلقت أول رحلة للترامواي بين أحياء دمشق عام 1904، كأول وسيلة نقل حديثة، قبل أن تُلغى عام1961. قبل الترام كان أهالي دمشق يتنقلون بواسطة عربات تجرها الخيول، أو استئجار حمير، ثم انتشرت العجلة الهوائية، أما أول سيارة فقد اقتناها مفتش الجيش العثماني عام 1913، ثم انتشرت مكاتب النقليات لنقل الركاب بين دمشق والصحراء، أو إلى بيروت ومركزها ساحة المرجة. جاء في إعلان منشور في صحيفة دمشقية من تلك الفترة «شركة سيارات العون بالله… سيارات ضخمة من آخر طراز بأسرع وأكبر صالونات سفرية في العالم تشتغل بين حيفا ـــ بيروت ـــ دمشق ـــ بغداد».
يخترق ساحة المرجة نهر بردى الذي كان يفيض على جانبيه لغزارة مياهه، لكنه جفّ اليوم، ولم يبق من ذكراه سوى قصيدة أحمد شوقي الشهيرة «سلام من صبا بردى أرقُّ/ ودمع لا يُكفكف يا دمشق»، وبعض الأغاني الوطنية.
في نهاية القرن التاسع عشر، أُقيم مبنى مقهى ومسرح زهرة دمشق عند زاوية الساحة من جهة الشمال. كان صاحب هذا المسرح رجلاً يدعى حبيب الشماس، وقد عملت بديعة مصابني في هذا المسرح كـ«غرسونة». وفي عام 1912 شهد هذا المسرح أول عرض سينمائي صامت، ثم تحوّل المكان إلى صالة «سينما زهرة دمشق»، وفيها عُرض فيلم «الوردة البيضاء» لمحمد عبد الوهاب، وكان حدثاً استثنائياً في حياة المدينة. تعرّضت الصالة إلى حريق في أواخر العشرينيات فهُدم البناء، ويُقام مكانه اليوم «فندق سمير».
بانتهاء عهد الخانات، شُيّد أول فندق في المدينة، يطل على ساحة المرجة قرب ضفة نهر بردى في حي جوزة الحدباء. إنه «فندق ديمتري» نسبة إلى صاحبه اليوناني ديمتري كاراه، ويُعتقد أنه بني عام1850، وهو نزلٌ يتألف من دارين متصلتين، مفروش على الطراز الشرقي، تتوسطه بحرة وأشجار ليمون. ثمن المنامة في الليلة الواحدة خمسون قرشاً. أما الفندق الأشهر في تلك الفترة فكان «دامسكوس بالاس أوتيل»، وقد أقام فيه جمال باشا السفّاح قائد الجيش العثماني. هناك إعلان قديم يقول «دامسكوس بالاس أوتيل.. فندق العيال الارستقراطية والشخصيات المحترمة ـــ أقدم وأحدث نزلات العاصمة الشامية ـــ مفروش على الطراز الحديث والأثاث الفاخر». في نهاية الساحة باتجاه جسر فكتوريا ستصادف «فندق عمر الخيّام»، وقد صمّم طراز هذا الفندق المهندس اللبناني فريد طراد عام 1927، وكان اسمه «فندق أمية»، وهو حسب إعلان آخر «أفخم فندق عصري في البقعة الزاهرة، على ضفاف نهر بردى الخالد: مناظر جميلة. مصعد كهربائي. وسائل الراحة والرفاهية والانشراح مؤمنة بأسعار معتدلة».
لم يبق من ساحة المرجة اليوم سوى بضعة أبنية أثرية مثل بناء السرايا، وقد أُزيلت معظم الأسواق القديمة المحيطة بالساحة مثل سوق التبن، وسوق العتيق، وسوق الخيل، واستُبدلت بكتل إسمنتية وأبراج تجارية لا تمثّل روح المكان عمرانياً وتاريخياً، كما أُغلقت معظم دور السينما التي كانت تغص بها الساحة: سينما الإصلاح خانة، سينما الكوزموغراف، سينما غازي، سينما سنترال، سينما فاروق، سينما النصر. أما ساعة المرجة فقد تعطلت منذ زمن طويل، ولم تعد تشير إلى الوقت الصحيح، كأن الزمن قد غادر هذه الساحة إلى أمكنة أخرى أكثر جاذبية وحداثة. مقهى الله كريم
يروي فخري البارودي في مذكراته أنه بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني، أحال الاتحاديون على التقاعد قسماً كبيراً من الضباط الذين ناصروه. وكان الضباط المتقاعدون في دمشق يجتمعون في مقهى «البغا»، فلما انضم إليهم الضباط الحميديون المتقاعدون تزايد عددهم، حتى صار المقهى خاصاً بهم، وكانوا يجلسون فيه طول النهار، وإذا ما مرّ بهم ضابط حديث، يتبادلون النظرات ويرددون «الله كريم»،أملاً منهم بعودة السلطان عبد الحميد إلى العرش، ليعودوا معه إلى مناصبهم، فصارت عبارة «الله كريم»اسماً للمقهى.
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى