صفحات سورية

نحو اهتمام المثقفين السوريين بوطنهم في ما يتعدى يوميات السياسة العابرة

null
غيث نجيب الأرمنازي
عقدت في المتحف البريطاني في لندن ندوة عنوانها «سورية مهد المسيحية» حضرها وزير السياحة السوري. وجرى التركيز خلال الندوة، على دور سورية – ودمشق تحديداً – المركزي في انتشار أو «عولمة» الديانة المسيحية بعد ولادتها في فلسطين، وعلى «سطعة النور» التي هبطت على بولس الرسول في «الطريق إلى دمشق» وحولته من عدو للمسيحية إلى معتنق لها ومبشر بها في أقطار الأمبراطورية الرومانية انطلاقاً من دمشق ووصولاً إلى روما.
كل ما قيل وعرض في الندوة أكد التجربة التاريخية السورية القادرة على استيعاب الحضارات والثقافات استيعاباً ايجابياً فطرياً (بعيداً من القوة والاكراه) منذ أيام العموريين والكنعانيين – سكان البلاد الأصليين – وعلى أن هذا المد التاريخي المتجاوز للعصور أسّس للشخصية المجتمعية السورية الصلبة الراهنة.
وفي هذا السياق قدم أحد الحضور، وهو مستشار أسقف كانتربيري المكلف ملف العلاقات مع الكنائس الشرقية، مداخلة قصيرة لفت فيها انتباه الحضور إلى تفوق سورية اقليمياً وعالمياً فيما تقدمه كنموذج للتآلف الديني والعرقي والثقافي، مشيراً إلى بلده بريطانيا والى المخاض العسير الذي عانت منه قبل أن تصل اليوم إلى مستوى «المجتمع المتعدد الثقافات» التي تتباهى به والذي سبقتها إليه سورية بمئات بل بآلاف السنين! وأضاف أن هذا الدور السوري الرائد يزداد قيمة في عالمنا المعاصر حيث تشتد النزاعات والتناقضات والتجاذبات الفئوية أكانت دينية أم مذهبية أم اثنية أم ثقافية، خصوصاً في المحيط المجاور لسورية، والتي تمثل خطراً على مستقبل الشرق الأوسط بل على العالم بأسره.
كلمات ذلك القسيس استقرت في ذهني وأثارت تساؤلات لدي حول مدى تقديرنا نحن السوريين – خصوصاً مثقفينا – لهذه القيمة الكبيرة والمضافة لوطننا التي يتوجب علينا التمسك بها بقوة وجعلها ركيزة اعتزازنا بذاتنا الوطنية. بل أن الظاهرة التي ألاحظها في البلدان التي ينتشر فيها المغترب السوري تعبر عن شبه فقدان لهذا الوعي وعن تردد خجول في تبنيه، خصوصاً لدى من نستطيع تصنيفهم ضمن شريحة «المثقفين». فنحن نجد على سبيل المثال قلة من الأقلام والأصوات السورية، التي لها حضور في المنابر الاعلامية تتناول مثل هذه الايجابيات في خطابها.
ويتبادر لي أحياناً أن من يرسم الصورة النمطية المتحيزة ضد سورية في المحافل الغربية يجد العون في المادة التي يطلقها بعض مثقفينا ممن يحلو لهم اضفاء الطابع السلبي على كل مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والسوسيولوجية في سورية. نظرة هؤلاء المتعامية والتبسيطية إلى «النظام» تجعلهم يتنكرون لأي تقدم أو تغيير في هيكلية وذلك النظام وحركيته، وكذلك لقوى التحول في المجتمع معتبرين أن الاصلاحات التي يلمسها الكثير من المطلعين عن كثب هي مجرد «رتوش» تجميلية لا تحمل أي مغزى وجودي حقيقي.
ومن المفارقات أن نجد أصواتاً تدين بالتقدم واليسارية وتمجد المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق وتهاجم بشدة سياسات الهيمنة الامبريالية في المنطقة العربية، لا توجه جام غضبها على أصحاب ومؤيدي تلك السياسات، بل على النظام السوري المترصد لها، وكأنهم على وفاق مع رموز «النيو محافظين» (أميركيين كانوا أم من المعجبين العرب بفكرهم) والذين لا يتركون مناسبة إلا ويستغلونها للتهجم على القيادة السورية كونها العقبة الرئيسية أمام تحقيق غاياتهم في المنطقة. الكل يعلم – مؤمناً أم مذعناً – أنه لولا سورية لما انتصرت المقاومة في لبنان، ولضاع كل أثر للصمود الفلسطيني وكل أمل في انقاذ العراق من براثن الاحتلال والتجزئة. والكل يعلم كذلك أن هذه المواقف كلفت سورية الكثير سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ومع ذلك لا يجد بعض المثقفين حرجاً في التواطؤ الموضوعي ( بمعزل عن النيات) مع المعسكر الذي يفترض جدلياً أن يقفوا ضده ويتصدوا له.
الاشكاليات في مواقف تلك المجموعة من المثقفين لا تقتصر على البعد الاستراتيجي المبين أعلاه. فمن المهم أيضاً التدقيق في ملابسات خطابهم في شأن الأوضاع الداخلية السورية من حيث تأثير ذلك الخطاب على الأجندة التي يجاهرون بحملها. فالرسالة التي يبعثون بها يمكن تلخيصها في أنهم لا يجدون فائدة في الرهان على اصلاح يأتي من «داخل» النظام، على رغم أن الأدلة متوافرة لكل من يأتي إلى سورية هذه الأيام ويحمل ذكريات عما كانت عليه أوضاع في العقود الماضية، لكي يرى التغيير الذي يلمس جذور المنظومة الاقتصادية والثقافية وحتى السياسية منذ بداية عهد الرئيس بشار الأسد، والذي تراه أيضاً بوضوح أعين الجهات والمؤسسات الدولية والأوساط السياسية والإعلامية الأجنبية، ويغيب فقط عن أعين بعض مثقفي سورية لأنه يخالف نظرتهم المسبقة نحو النظام وما يمثل.
لا بأس من المطالبة بالرفع من وتيرة الاصلاحات وتعميقها أو المطالبة بمجابهة الفساد المستشري في سورية والوطن العربي، وهي مطالب ينضم إليها صاحب هذا القلم، لكن الأمر الذي يؤدي إلى الأسف والاحباط أن الفئة التي نقصدها لا يهمها الانتقاد المشروع لجزئيات مسيرة الاصلاح. لقد قررت رفضها مبدئياً لأنها قد «تحسن» من صورة النظام وهذا ما لا يمكن تحمله! هذا النهج الخشبي والنمطي يذكرنا بما يحلو لتلك الأصوات قوله عن ادبيات النظام السوري.
ونأتي إلى ابلغ الأمور حساسية ودقة في مآخذ هؤلاء على النظام السوري، أقصد الوضع الأمني ووجود «سجناء سياسيين» في سورية. وبغض النظر عن الأعداد والظروف المحيطة بهذا «الملف» والتي لا تقاس بأوضاع «الأمس»، لا نستطيع ضميرياً إلا القبول بمنطق رفض اعتقال أي انسان بسبب رأي يحمله أو يروج له سلمياً. لكنني أود أن أشير الى الفارق بين فريق أنتمي اليه، يحاول أن يخلق حراكاً يؤدي – ولو تدريجاً – في خلق مناخ يؤثر ايجابياً على الحد من رواسب انتهاكات حقوق الانسان، وبين فريق آخر يتخذ من التهجم والاستقواء أحياناً بالخارج نهجاً ومدرسة، ففرص نجاح المجهود الذي يبذله الفريق الأول في تبديل الواقع ودفعه نحو الأفضل، أكبر في واقع الأمر بما لا يقارن مع ما يمكن أن تحققه المواجهة الخطابية المطلقة في عدوانيتها، والتي تثيرغريزة «مقابلة» من أطراف «أمنية» تصب حتماً في غير مصلحة المحكومين بجرائم تحت عنوان «التعبير عن الرأي». الفريق الذي ذكرناه أولاً يجاهد لجعل قوى المحافظة على النظام أقل تشنجاً وأكثر ادراكاً لايجابية الرأي الآخر، بينما الفريق الثاني يعمل برعونة لنسف جسور الحوار والتواصل ودفع القوى الأمنية الى المبالغة أحياناً في اجراءاتها الاحترازية الرادعة.
ولا بد من تذكير من يربط مطالبته بحقوق الانسان في سورية – وهو مطلب مشروع – بقوى ضغط خارجية تدفع أيضاً – ظاهرياً – في الاتجاه ذاته بضرورة التأكد فيما اذا كان الذين يثيرون الانتقادات في الغرب حول حقوق الانسان في سورية، حريصون فعلاً على اعتبار سورية جزءاً من منظومة حضارية انسانية عالمية تشارك فيها كالآخرين في صنع مستقبل العالم الجديد، وأنهم يتعاطفون معها في قضاياها الوطنية وعلى رأسها تحرير الجولان المحتل، أم أنهم يستخدمون ملف «حقوق الانسان» لتنفيذ خطط استراتيجية، آخر همومها مسألة «حقوق الانسان» وأولها تصعيد الضغوط وفرض الهيمنة والتبعية على قيادة عصت عليهم ولا تزال.
التدقيق في مدى صدقية القوى التي تكافح من أجل حقوق الانسان سيفرز تلك القوى المخلصة في تبنيها هذه الحقوق، وهي قوى لا بأس من مد اليد نحوها، خصوصاً بعدما لاحظنا خلال العدوان على غزة مدى تفانيها في حشد الرأي العام العالمي ضد الجرائم الاسرائيلية. لكنه سيفرز أيضاً في المقابل القوى الأخرى التي تمثل الوجه القبيح للوبي «حقوق الانسان» والتي تعتمد سياسات عدوانية قد تصل إلى اشعال حروب استباقية تؤدي إلى انتهاكات صارخة للحقوق نفسها. وقد رأينا نماذج «غوانتانامو» و «أبو غريب» والسجون السرية ماثلة للعيان، وتشير إلى مدى نفاق القوى المهيمنة على العالم عندما تتحدث عن حقوق الانسان.
قد يقول قائل: وما شأننا في ما اذا كان الغرب حريصاً علينا أم لا. ألسنا حريصين على بناء مناخ الحرية في بلادنا وهو الضمانة الحقيقية لتدعيم النمو الاقتصادي وتعزيز الجبهة الداخلية وجعلها أصلب في مقاومة الضغوط مهما اشتدت؟ الى هؤلاء أقول إن هذه المقولة قد تصح لو كان البلد يتمتع بجوار جغرافي مستقر وآمن، وينعم بمستوى معيشي مقبول يؤهله لتحمل التجاذبات الداخلية السياسية والفكرية العاتية والبقاء محصناً من الانهيار في وجه ضغوط لم يسبق لأي بلد في المنطقة أن تعرض لمثلها.
من جهة أخرى ، يبدو مثقفونا المعارضون للنظام غير قادرين على فهم دورهم إلا في اطار المعارضة السياسية والاعلامية، متجاهلين حقيقة أن على القوى الأهلية، سواء كانت موالية أم معارضة، أن تهتم بمختلف جوانب الحياة في مجتمعاتها. فأين هم من الدفاع عن حقوق المرأة وحقوق المستهلك وعن شؤون البيئة والنظافة؟ وأين هم من حماية مواردنا الطبيعية وحماية وطننا من شح المياه والتلوث والاشعاعات وانقراض بعض الأجناس النباتية والحيوانية؟ وأين هم من تطوير التعليم والخدمات الصحية والثقافة والفن؟ أين هم أخيراً من قضايا تطوير البنية الاجتماعية والشؤون المدنية والتنمية الاقتصادية والفكرية في بلادنا؟ باختصار فإن المجتمع الأهلي أو المدني مفهوم متكامل يسعى إلى تقديم المقترحات المجدية التي تهدف الى ارشاد الحكومات إلى الطريق القويم في مواجهة مشكلات البلد، وعمله لا يرتكز على تحدي السلطة والتهجم عليها، بل على مقارعتها بالحجة والدليل في مختلف جوانب الحياة للوصول الى مجتمع أفضل.
ختاماً، ليت «مثقفنا السوري» يتمعن أكثر بما تحقق في وطنه وبما يمكن أن يتحقق لو نزل من «برجه العاجي» وشارك في مسيرة التنمية واقتنع بأنه من الأفضل بكثير التقدم نحو الأمام، ولو بخطوات جزئية تراكمية، في زمن يجتاز وطنه أدق مراحل التأسيس لمستقبل واعد. وإذا عدنا إلى كلام القس البريطاني فإن ما قاله يجب أن يشكل حافزاً لكل سوري وللطليعة المثقفة لتأخذ مكانها وتتحمل مسؤوليتها في حماية هذا المجتمع القدوة.
تراجع الطليعة عن هذه المسؤولية خسارة كبيرة لها وللوطن.
* باحث سوري.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى