صفحات سورية

لاعبون جدد يستغلون مرحلة الفراغ في القيادة

null
نيويورك – راغدة درغام
يتكاثر التذمر من الفراغ في «القيادة» لا سيما مع تعاظم الأزمة المالية الأميركية في مرحلة شديدة الحرج، عرّت نقصاً جذرياً في الهيئتين التشريعية والتنفيذية من الحكم في الولايات المتحدة، وفي شخصية المرشحين الجمهوري والديموقراطي للرئاسة، وفي بورصة «وول ستريت» وأركان الاقتصاد الاميركي. هذا التذمر ليس آتياً فقط من الأميركيين وإنما ايضاً من مختلف بقاع العالم التي بدورها تعاني من فراغ في قياداتها الاقليمية والمحلية. ولعل هذه الحقبة من الزمن من أكثر الحقبات التي تذكر بما هي «القيادة» وبأهميتها في صوغ الحاضر والمستقبل. فالحاجة ماسة ليس فقط الى قيادات حقيقية ايجابية وبناءة وجريئة وواقعية قادرة على وضع استراتيجيات، وانما هناك أيضاً حاجة الى قطع الطريق على قوى تملأ الفراغ وتفرض نفسها كبديل الأمر الواقع من القيادات الغائبة. ولأن الاشهر المقبلة في الولايات المتحدة – سيما الى حين اجراء الانتخابات الرئاسية – ستكون فترة إيحاء لكثير من اللاعبين في العالم لإملاء أمر واقع تلو الآخر، او للاستفادة بزخم من الفرصة التي يأتي بها الفراغ في القيادة، من الضروري جداً ألا تتقوقع دول محورية فيما يملأ غيرها الفراغ المضاعف في مناطق مثل الشرق الأوسط والخليج. فالأزمة المالية المذهلة لها توابعها وإفرازاتها بالتأكيد على الدول العربية وعلى الأموال النفطية المستثمرة في البنوك الأميركية والمؤسسات المالية وغيرها – وبكلفة باهظة. قد لا تكون هناك أي فرصة أو إمكانية لقيادة في هذا المجال – انفرادية أو مشتركة – ما بين الدول العربية الخليجية، بل قد تكون المنافسة في ما بينها الأفضل لكل منها في موازين المطالب الوطنية. هذا لا يعني ان هذه الدول معذورة لانشغالها عن الأدوار القيادية – خارج القيادة المالية – التي من الضروري لها ان تلعبها اقليمياً، وإلا لتركت انطباعات مسيئة لها ولهيبتها في المقام الأول، تخدم العازمين على ملء الفراغ، وتعطي ذخيرة لأولئك الذين عكفوا اساساً على تحطيم نفوذ وفعالية هذه الدول المحورية التي طالما قامت بدور القيادة.
وزير خارجية سورية وليد المعلم، قال في حديث الى صحيفة «وول ستريت جورنال» قبل أيام «برز لاعبون اقليميون جدد في الشرق الأوسط عندما استضافت دمشق القمة الرباعية (فرنسا وقطر وتركيا وسورية) وبحثوا وتناولوا قضايا لبنان والنزاع العربي – الاسرائيلي والعراق ودارفور وملف ايران النووي. وهذا يعني ان لاعبين اقليميين، يدعمهم لاعب دولي مصممون على ايجاد الحلول عبر الوسائل الديبلوماسية».
هدف المعلم من هذا القول هو إبراز غياب او تغييب اللاعبين الاقليميين المعهودين، اي المملكة العربية السعودية ومصر، وإعطاء الانطباع بأن فرنسا هي اللاعب الدولي الذي حل مكان الولايات المتحدة. فكرته، وهو الديبلوماسي المخضرم الذي وضع عقيدة الخيار بين «منطق التفاوض» و «منطق المقاومة»، ان يضرب عصافير عدة بحجر واحد ويصيب تكتيكياً، فيما استراتيجيته الاساسية تقوم على إعادة تأهيل سورية مع الولايات المتحدة على اساس انهما، سورية مع قطر، تمثلان الشريك الافضل والأوثق لاسرائيل. فالخبرة التي اكتسبها المعلم عندما فاوض اسرائيل ضمن الوفد السوري الرسمي وعندما مثّل دمشق في واشنطن أدت به الى الاستنتاج أن الطريق الأمثل والأضمن الى اي إدارة أميركية واي كونغرس اميركي تمر بنوعية العلاقة مع اسرائيل. ومع قدوم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الى السلطة، كان واضحاً للقيادة القطرية وللقيادة السورية انه هو ايضاً يخضع سياسته الشرق أوسطية لتمر عبر اسرائيل فتقرر الرهان عليه كأداة انقاذ من العزلة، وهكذا كان الى درجة سمحت لوزير الخارجية السوري ان يتحدث ببالغ الثقة عن لاعبين جدد في موازين القوى في الشرق الأوسط.
مصر تحتج وبقوة، والحديث الذي أجرته كاتبة هذا المقال مع وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط، والذي نشر يوم السبت الماضي، يعكس إصرار القيادة المصرية على نفي الأمر الواقع. فالوزير المصري بيّن في حديثه أدوار مصر المهمة في جميع الملفات العربية، من المصالحة الفلسطينية الى دارفور، وشرح بصورة وافية كيف ان مصر ليست غائبة عن القيادة وعن دورها الاقليمي المعهود، وكيف أنها ليست على كف عفريت واستقرارها في أمان. إلا ان اجراءات مصر الداخلية والاقليمية تبدو دفاعية من منطلق الضعف، ووساطاتها تبدو هشة في وجه من يملك أوراق عرقلتها، وبالذات وساطة المصالحة الفلسطينية، حيث لسورية نفوذ مع الفصائل الفلسطينية و مع «حماس» بالذات.
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس شرح في حديثه في عدد الخميس الماضي، مع كاتبة هذا المقال، كيف انه على استعداد للموافقة مسبقاً على مبادرة مصرية – عربية «ملزمة» له ولقيادة «حماس» والفصائل الأخرى في إطار المصالحة. بدا واضحاً في رؤيته وفي قراراته وفي الخيارات التي اتخذها بصفته رئيس السلطة الفلسطينية والتي ترتكز حصراً الى الخيار التفاوض السلمي مع اسرائيل فيما تقوم حكومته برئاسة سلام فياض ببناء المؤسسات الفلسطينية.
قال بمنتهى الوضوح انه ضد «الانتفاضة المسلحة» لأن الانتفاضة «دمرتنا» ودمرت البنية التحتية لفلسطين. وقال بكل صراحة انه لن يترك زمام قيادة المصير الفلسطيني للفصائل الفلسطينية التي تعمل على تدمير المسار التفاوضي في حين انها عاجزة – بل غير راغبة – في أي خيار آخر. فهي صاحبة خيار مجرد التدمير، ترفع التحرير والكفاح المسلح شعاراً للاستهلاك على حساب الفلسطينيين تحت سوط الاحتلال، وتلقى بذلك تشجيعاً من الدول التي تستضيف قياداتها.
مهمة أي قيادة عربية فاعلة ان تدعم بكل ثقل ووزن خيار السلطة الفلسطينية لأنه قائم على بناء المؤسسات الفلسطينية التي تعطي الشعب الفلسطيني حق اتخاذ القرار باحترام. لذلك فإن مساهماتها ببضعة ملايين هنا أو هناك، هي مساهمات مشكورة لكنها غير كافية. فهذه فترة تستلزم الإسراع والتعجيل ببناء المؤسسات بصورة تزرع الثقة بالشعب والفرد الفلسطيني. هذه المهمة يجب ألا تقتصر على الحكومات العربية، بل يجب ان يشارك فيها القطاع الخاص العربي بأكثر بكثير مما يفعل. هكذا يمكن له ان يكون شريكاً في صوغ القيادات الفاعلة – عبر بناء المؤسسات في مختلف بقع المنطقة العربية.
القطاع الخاص ليس البديل عن القيادات الحكومية الضرورية، وبالذات لدول محورية مثل مصر والمملكة العربية السعودية. فعندما عقد وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل العزم على المضي بطلب عقد جلسة وزارية لمجلس الأمن حول المستوطنات الإسرائيلية، فرض عملياً على وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ونظيريها البريطاني والفرنسي، حضور الجلسة على رغم كل ممانعاتهم. صحيح أن الوزراء الثلاثة حوّلوا جلسة المستوطنات الى مناسبة لتحويل الأنظار عن الاستيطان وتصويبها على الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد – الهدية التي لا تكف عن العطاء، كما وصفته رايس في جلسة مغلقة، لكنهم حضروا الجلسة. حضروها لأنهم اضطروا نتيجة اتخاذ السعودية قرار الإصرار عليهم أن يحضروا واضعة وزنها وراء هذا الإصرار.
ليس سراً أن هناك حملات إسرائيلية على المملكة العربية السعودية بهدف تقويض دورها نظراً إلى أنها الدولة العربية الوحيدة التي تملك المقومات التي تجعل قيادتها قيادة عربية ذات وزن وتأثير بما لا ترغب به إسرائيل. الحملة تتجدد في الآونة الأخيرة وهي ملحوظة في أوساط المؤسسات الفكرية والمنظمات الأميركية المتعاطفة والموالية لإسرائيل. والهدف منها، جزئياً، هو البناء على الانطباع بأن السعودية غير راغبة في ممارسة دور القيادة الاقليمية. الهف الآخر هو ضرب كل من راهن على القيادة السعودية، باعتبارها تقود قوى الاعتدال، لأن الاعتدال العربي ليس الشريك الملائم للقيادات الإسرائيلية. وعليه، ان تحديات المرحلة الراهنة تتطلب تفعيل هذا الدور السعودي ووضع استراتيجية إعلامية متجددة وعصرية ترافق السياسات الاستراتيجية والتكتيكية.
لبنان كان وما زال ساحة لامتحان وصوغ القيادة الاقليمية. كذلك العراق وفلسطين، إنما بدرجات وأسس مختلفة. الإدارة الأميركية فقدت موازين التأثير في ملفي لبنان وفلسطين، جزئياً بسبب انغماسها وهوسها بالعراق. وزيرة الخارجية الأميركية بدت في حال انكار الواقع عندما سردت في مقابلتها يوم الجمعة الماضي مع «الحياة» كيف أن إدارتها حققت انجازات في فلسطين ولبنان، في الوقت الذي كان يتحدث فيه رئيس الحكومة الإسرائيلي المستقيل ايهود أولمرت عن فشل إسرائيل في التوصل إلى مفهوم ومتطلبات السلام، وفي الوقت الذي تحولت فيه الأنظار بهلع إلى شمال لبنان حيث احتشدت قوات سورية على حدود لبنان الشمالية ورافقتها تصريحات للرئيس بشار الأسد اعتبرت شمال لبنان بؤرة الإرهاب السلفي وتشكل خطراً على سورية.
ففي الوقت الذي عدّدت فيه رايس انجازات إدارتها في الملف الفلسطيني، تحدث أولمرت بصراحة متناهية – وإن كان في وقت متأخر إذ أنه تجرأ بعد فوات الأوان – تحدث عن الحاجة إلى «اتخاذ القرار» الذي «يتناقض» مع «ذكرياتنا الجماعية وصلوات الشعب اليهودي لألفي سنة». وهو قرار الانسحاب الإسرائيلي من كامل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، من أجل التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. قال أولمرت ما كان يجب على جورج دبليو بوش وكوندوليزا رايس أن يصرا عليه قطعاً عندما وعدا بالدولة الفلسطينية مع انتهاء 2008.
بدلاً من ذلك، خضعت الإدارة الأميركية إلى بدعة قديمة فحواها ابراز المسار السوري – الإسرائيلي من المفاوضات كلما اقتربت القرارات الضرورية في شأن المسار الفلسطيني. هذه المرة أتت البدعة عبر تركيا لتقوم بوساطة سورية – إسرائيلية واضعة فلسطين في المرتبة الثانية ولموعد آخر متأخر. فلو كان الهدف هو التوصل بأسرع وقت ممكن إلى اتفاق سوري – إسرائيلي للانسحاب الإسرائيلي من الجولان، لكان الأمر مختلفاً والنيات صادقة. أما أن يكون الهدف شراء الوقت على حساب المحنة الفلسطينية، ففي الأمر شكوك وتشكيك. هذا إلى جانب وضوح أهداف التعاون الرباعي المتمثل بأطراف القمة الرباعية التي استضافتها دمشق وتعتبرها القيادة الاقليمية الجديدة.
السياسة الفرنسية، بحسب أحد مهندسيها، تنطلق أولاً من دعم الوساطة التركية للمفاوضات السورية – الإسرائيلية، وثانياً، من خطوات تدريجية لدمشق نحو الملف اللبناني وإن كانت خطوات «خجولة»، وثالثاً، من فكرة سلخ دمشق عن طهران استراتيجياً. ولكن، ومع ازدياد الخشية من احتمال عودة الجيش السوري إلى لبنان من بوابته الشمالية نتيجة ما قامت به فرنسا من فك العزلة عن دمشق وإعادة تأهيلها أوروبياً، وحتى أميركياً، بدأت القيادة الفرنسية تشرح وتدافع عن نفسها لتقول إن لا تفويض فرنسياً لتجديد التدخل السوري في لبنان.
كذلك، وزارة الخارجية الأميركية أسرعت إلى الشرح والدفاع عن اقبالها على دمشق باجتماعين متتاليين بين وزيري الخارجية رايس والمعلم، في نيويورك، ولمساعد رايس، ديفيد ولش مع المعلم، وقال مسؤول في الوزارة إن المجتمع الدولي لن يسمح لسورية بارسال قواتها إلى لبنان مستخدمة الوضع في شمال لبنان والاعتداءات الإرهابية في دمشق كذريعة للتدخل مجدداً في الشؤون اللبنانية.
كلام المسؤولين – بلا أسماء – في الرئاسة الفرنسية ووزارتي الخارجية الأميركية والفرنسية لا يطمئن، فالأفعال على الأرض أقوى من الأقوال، لا سيما في مرحلة يراهن فيها اللاعبون الجدد على الفراغ في القيادات التقليدية، وعلى رأسها الفراغ في القيادة الأميركية. هذا، إضافة إلى بدء العد العكسي الى مواعيد زمنية أخرى فائقة الأهمية في حسابات بعض هؤلاء اللاعبين، وعلى رأسها التقرير الأخير الذي سيقدمه آخر هذه السنة رئيس اللجنة الدولية للتحقيق في الاغتيالات السياسية في لبنان، دانيار بلمار الذي يتهيأ للتقدم بقرارات ظنية عندما يتحول إلى مدع عام في المحكمة الخاصة بلبنان. فالمؤشرات تفيد بأن خلاصة تقرير بلمار لن تختلف كثيراً عن استنتاجات المحققين بيتر فيتزجيرالد وديتليف ميليس والتي اتهمت مسؤولين سوريين بالتورط في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه.
ومن هنا، من الضروري التنبه إلى السباق بين التقرير والتطورات الملموسة على الساحة، بين الصفقات الديبلوماسية التي قيل إنها تضمنت تجميد المحكمة الدولية وبين التحقيق المستقل الذي لا يخضع للصفقات. من الضروري جداً حماية بلمار وفريقه، لأن زمن الاغتيالات والعمليات الإرهابية الغربية يبدو عائداً بزخم جديد في مرحلة الفراغ في القيادات.
الحياة     – 03/10/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى