صفحات العالم

في أننا نهين اللغة كلّما فتحنا أفواهنا

نزار آغري *
كان فاروق القدومي، الذي يعد واحداً من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية، اتهم محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، بالمشاركة مع الإسرائيليين في تسميم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. ولا تكف منظمة حماس عن اتهام المسؤولين في السلطة الفلسطينية بكل ما يمكن أن يخطر على البال من مؤامرات على الشعب الفلسطيني وقضيته. وقد سبق أن اتهم حزب الله رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة بالتواطؤ مع إسرائيل في حرب تموز. وتقول إيران إن بريطانيا تقف وراء قيام جماعة جند الله البلوشية بالعملية الانتحارية ضد الحرس الثوري الإيراني في بلوشستان الإيرانية. وفي نسخ أخرى من الاتهام يرد اسم الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ليس سوى غيض ضئيل من فيض وفير على اتهامات من هذا العيار تكيلها الجهات التي تمارس «المقاومة» لجهات أخرى لا تشاطرها هذه الهواية. إنها اتهامات خطيرة ومع ذلك تقال كما لو كانت أشياء للتسلية وتزجية الوقت. يرميها قائلها للسامع، أو المشاهد، ويمضي من دون إجبار النفس على عناء الخوض في التفاصيل وتقديم البراهين ولا السير نحو استخلاص النتائج والقيام بشيء عملي يفيد في وقف هؤلاء المتهمين عند حدهم وردعهم عن الاستمرار في تلك الممارسات الفظيعة. لا شيء يترتب على هذه الاتهامات. إنها كلمات في كلمات. تقال جرياً وراء التكرار والعادة. الجهات التي توجه إليها الاتهامات لا تبالي بدورها ولا تأتي بأي رد فعل. لقد تكيف الجميع مع الأمر فصار شيئاً مألوفاً لا يستوجب الفزع أو الإندهاش.
فإما أن الاتهامات باطلة لا أساس لها من الصحة تقال لأغراض يستفيد منها قائلها من دون أن يمتد مفعولها إلى من توجه إليهم فتبقى العلاقات والمواقف بين الطرفين، المتهم بكسر الهاء والمتهم بفتح الهاء، على حالها من دون تغيير، وإما أنها صحيحة لكن قائلها لا يستطيع فعل شيء بخلاف ما يتبجح به.
وفي الحالين نجد أنفسنا أمام تلاعب فاضح باللغة وانتهاك لقوانينها. اللغة هي التي تدفع الثمن بأن تتعرض إلى التزوير ولا تعود لها القيمة الفعلية التي ينبغي أن تنطوي عليها. يتم الاستخفاف بها إلى حد انها تغدو مجرد نفحات صوتية تذهب مع الريح هباء منثوراً.
ومن يتعقب سلوك المقاومين إزاء اللغة يتيقن من هذه الخلاصة: استعمالها بغير وجهها الصحيح وشدها لتقول الشيء ونقيضه في آن معاً: إذا هاجمنا العدو قلنا إنه همجي وعدواني، وإذا توقف قلنا أنه خائف. إذا احتل العدو أرضنا قلنا إنه توسعي وإذا انسحب قلنا إنه جبان. إذا كان تسلطياً في علاقته معنا قلنا إنه إمبريالي وإذا كان عادلاً وكانت علاقته بنا على أساس قواعد وقوانين واتفاقيات قلنا إن ذلك ذل وعار وإن الاتفاقيات هي مؤامرات شريرة. إذا ضربنا العدو وفتك بنا وقصف البيوت وقتل الناس قلنا إنه يريد القضاء علينا وصرخنا مطالبين بتدخل الأمم كي يتوقف العدوان فإذا تحقق ذلك قلنا: لقد انتصرنا. إذا تحدثت المنظمات الدولية عن انتهاكات العدو قلنا إنها رصينة ومحايدة وإذا تحدثت عن انتهاكاتنا قلنا إنها عميلة للصهيونية ومتآمرة علينا. فالمسؤولون في إيران يقولون: إذا ارتكبت إسرائيل حماقة وهاجمتنا فسوف نزيلها من الوجود. ومثلهم يقول حسن نصر الله، زعيم «حزب الله» اللبناني، إن إسرائيل لن تتجرأ على مهاجمتهم لأنها تعرف أنها سوف تسحق. ولكن لماذا يلجأ الإيرانيون والحزب اللهيون إلى الانتظار إذا كانوا قادرين على إزالة إسرائيل من الوجود وسحقها؟ «المقاوم» الذي يتفوه بالأشياء وأضدادها إنما يفعل ذلك لأنه يرى في نفسه حاكماً على الأشياء يجملها ويبشعها بالكلمات حسبما تقتضي الحالة. وهو ينطلق من سلوك قوامه التحريض والكراهية والعلل العنصرية. لا يتعلق الأمر بسياسة ولا بحكمة ولا بتعقل بل بعادة محزنة قوامها نهب الكلمات وتهشيم العبارات لتخون نفسها وتمارس لعبة المعايير المزدوجة فـ «تتبهدل» وتخسر مصداقيتها وتصير مجرد أصوات في الهواء أقرب إلى أصوات الكائنات غير العاقلة.

* كاتب سوري
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى