صفحات العالم

تراجع الدور المسيحي في المشرق العربي: مشكلة عربيّة أم معضلة مسيحيّة؟

أنطوان سعد*
مثّل صدور «الخطي همايوني» سنة 1856، في عهد السلطان عبد المجيد، مفصلاً أساسياً في قضية مسيحيي الشرق. فهذا المرسوم الذي جاء بنتيجة ضغوط خارجية متتالية مارستها الدول الأوروبية العظمى على «الرجل المريض»، وداخلية ناتجة من أفكار الكثيرين من الإصلاحيين في السلطنة العثمانية، أعلن المساواة بين جميع رعايا السلطنة العثمانية، بغض النظر عن مللهم وأعراقهم. وقد ترك هذا القرار التاريخي أثراً بالغ الأهمية في المشهد العثماني العام: فمن جهة فتح أبواب الحياة العامة، مؤسسات دستورية وإدارية، أمام الرعايا المسيحيين في السلطنة، مشيعاً فيهم الارتياح والأمل بالمستقبل. غير أنه، من جهة ثانية، أثار استياء الأوساط الإسلامية المحافظة التي رأت فيه خروجاً على التقاليد التي تحدّد بوضوح مرتبات المجموعات الدينية داخل المجتمع الإسلامي. كما رأت فيه الأوساط نفسها تعبيراً عن ضعف السلطنة وترهلها، ما اضطرّها إلى الانصياع إلى رغبات خارجية.
غير أن التداعيات السلبية لصدور «الخطي همايوني» كانت أيضاً سريعة. وأولها بدأ في جبل لبنان سنة 1860 وتمثل بالأحداث الطائفية التي بدأت بين الموارنة والدروز، وتدخلت فيها القوات العثمانية في دير القمر وزحلة، والتي سرعان ما امتدت إلى حاصبيا ودمشق. ويكاد يجمع المؤرخون والباحثون على أن ردود فعل الأوساط العثمانية المحافظة هي ما خلق الأجواء الملائمة لارتكاب المجازر ضد المسيحيين وشجّع عمليات القتل الطائفي التي قام فيها ضباط وجنود عثمانيون بأدوار بارزة تراوحت بين عدم الدفاع عن المدنيين العزّل ونزع سلاح المسيحيين، ومن ثم تركهم فرائس سهلة للذبح والقتل والتهجير. وكذلك هي الحال بالنسبة إلى مسيحيي مناطق السلطنة الأخرى، وخاصة الأشوريين والسريان والأرمن الذين تعرضوا لمجازر متتالية في الفترة الممتدة بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.
وقد أدى التدخل الدولي إثر المجازر الى وضع خاص لمتصرفية جبل لبنان وفّر لها ازدهاراً اقتصادياً وثقافياً وتربوياً، في وقت كانت فيه مصر تعيش تجربة ليبيرالية أفضل، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، أي مع مشاريع التحديث التي قادها حاكم مصر محمد علي بدعم من الفرنسيين وسعى الى تطبيقها من بعده بعض خلفائه، والتي اتسعت آثارها بحيث شملت بعض الولايات العربية العثمانية. وقد مثّلت تلك التجربة حاضنة مهمة للنهضة العربية التي كان المسيحيون من روّادها على كل المستويات الثقافية والسياسية وحتى الاقتصادية والتجارية.
انتهت الحرب العالمية الأولى بانهزام الإمبرطورية العثمانية، وتفككها، وبروز دول جديدة في الأقاليم العثمانية، وفقاً لعملية تقاسم النفوذ بين فرنسا وبريطانيا العظمى التي حددتها اتفاقية سايكس ـــ بيكو الموقّعة بينهما سنة 1916. ومنذ اللحظة الأولى لانسحاب القوات العثمانية، وقع خلاف كبير بين من عملوا معاً، على نحو مباشر أو غير مباشر، على التحرّر منها، بين مؤيدين لحكومة الأمير فيصل بن الحسين على كامل الهلال الخصيب، من دون استثناء جبل لبنان، ولكن مع مراعاة خصوصيته، وبين مطالبين بإقامة دولة لبنان الكبير، بـ«حدوده الطبيعية».
الخلاصة عن وضع المسيحيين في الشرق الأدنى بين نهاية الحقبة العثمانية وبداية عهود الانتداب الفرنسي أو الإنكليزي، هي أنهم تمتعوا، في مجتمعاتهم العربية وفي المدن التركية الأساسية، بوضعية وحضور ممتازين يتخطّيان، على وجه الإجمال، نسبتهم العددية على المستويات الاقتصادية والثقافية والفنية وحتى السياسية. ففي مصر، وجبل لبنان، وبيروت، وحتى في الآستانة، كان للمسيحيين مواقعهم البارزة في هذه المجالات، حيث طبعوا الحياة العامة بطابعي العصرنة والحداثة. ولا يُمكن استعادة تلك الحقبة من دون الإتيان على ذكر أدوارهم في الصحافة والأدب والفكر والسياسة. أما عوامل بروزهم، فعديدة، لكن أبرزها ثلاثة: تميزهم الثقافي الناتج من انفتاحهم على الغرب والإرساليات ومعاهدها، الجو الليبرالي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، والحرية والليبرالية في مصر، وخصوصاً بعدما أصبحت عام 1882 تحت الحماية البريطانية، مثّلت جاذباً لكل النخب في المنطقة العربية.
مرحلة الانتداب وحركات التحرّر منه (1918 ـ 1945)
لا بد في هذا السياق من التمييز بين وضع مسيحيّي لبنان، وأوضاع المسيحيين في الدول العربية الناشئة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. ففي العراق مثلاً، برزت نزعات لدى فئة من الأشوريين للتفاهم مع الانتداب البريطاني للحصول على دولة مستقلة ممتدة بين شمال غرب العراق وشمال شرق سوريا. إلا أن هذه النزعات سرعان ما أُجهضت، وخاصة بسبب تخلّي سلطات الانتداب البريطاني عن المسيحيين بعدما كانوا قد شكّلوا منهم جيشاً (ليفيز) بغرض ترسيخ سيطرتها على العراق. ما عدا ذلك، فإن الغالبية الساحقة من مسيحيي الدول العربية انخرطت في المشاريع التحررية الرامية إلى تحرير الدول العربية من الانتداب، إلى جانب القيادات المسلمة ذات التوجه القومي، من دون أي تطلعات إلى استقلال ذاتي أو السعي إلى تحقيق شخصية متمايزة عن الأوساط التي عاشت فيها.
العهد الاستقلالي وما بعده (1945 ـ 1973)
بعد استقلال الدول العربية الثلاث، أي مصر وسوريا والعراق، حيث كان للحضور المسيحي الفاعلية الملموسة المشار إليها، تابع المسيحيون سياسة الانخراط بالكامل في الحياة السياسية إلى درجة التماهي مع سائر المواطنين في هذه الدول. وكان ميلهم الأساسي للانخراط في أحزاب ذات اتجاهات قومية ويسارية، وفي كثير من الحالات تأسيسها أو الاشتراك في تأسيسها مع نخب إسلامية أظهرت استعداداً كبيراً لتقبّل مبدأ التساوي في المواطنية بين المسيحيين والمسلمين. وفي مطلع هذه الحقبة التي شهدت امتداداً للمناخات الليبرالية السائدة في هذه الدول منذ نهاية القرن التاسع عشر، كانت مجالس قيادة الأحزاب ذات الطروحات العلمانية التي ميزت بين الدين والسياسة، على وجه الإجمال، مفتوحة أمام المسيحيين الذين شغلوا في كثير من الأحيان مواقع حساسة، ومؤثرة على اتجاهاتها، وبخاصة على المستويين الفكري والعقائدي.
وكان من الطبيعي، في ظل هذه المعادلة، أن يحافظ المسيحيون على حضورهم الفاعل في إدارات الدولة، ومؤسساتها الدستورية، وفي الصحافة والمجالات الاقتصادية والتربوية والاجتماعية. كما حافظوا إلى حد ما على نسبهم المئوية بالنسبة إلى عدد السكان. واستمرت هذه الحال إلى أن بدأت الاضطرابات السياسية، وبخاصة الانقلابات العسكرية التي أدت إلى تراجع الممارسة الديموقراطية في هذه الدول، ما انعكس سلباً على المناخات الليبرالية التي مثّلت الحاضنة الأساسية للحضور المسيحي الفاعل. وقد تلى بداية مرحلة الانقلابات العسكرية نشوء دولة إسرائيل، وما رافقها من إخفاقات عسكرية للجيوش العربية التي تركت في نفوس شعوب سوريا ومصر والعراق خصوصاً مرارة وامتعاضاً وغضباً، جعلتها تتساهل مع الانقلابيين الواعدين بنهاية أزمنة الضعف والشرذمة وبقيام الدول القوية القادرة على مواجهة إسرائيل عسكرياً، مع كل ما يعنيه ذلك أو يقتضيه، بنظر الحكام الجدد، من مساومة على الحريات العامة، ومبادئ الممارسة الديموقراطية، ومناخات الليبرالية. وفي هذا المناخ، بدأ تراجع الحضور المسيحي، وإن لم يصدر قرار يستهدفه، ذلك أنّ بعض أركان الأنظمة الجديدة لم يكن ينظر بارتياح إلى دور الإرساليات الدينية المسيحية التربوي والاجتماعي، معتبراً أنها من بقايا فترة «الاستعمار»، وتؤدي دوراً مشبوهاً، ويجب التخلص منها.
صعود التيّارات الإسلاميّة وتفاقم الهجرة المسيحيّة (1973 – 2000)
في هذه الظروف، عادت الى الظهور في قلب العالم العربي ونشأت، وسرعان ما ازدهرت الحركات الإسلامية التي رأت في العودة إلى منابع الدين والتقليد الإسلامي المنفذ الوحيد لإخراج «الأمة الإسلامية» من واقعها المتردي، وزمن الانكسار والتقهقر. وقامت هذه الحركات على اعتبار الأنظمة ذات الطابع والنزعات اليسارية غريبة ومنافية لقيم الإسلام، ومن الواجب مواجهتها وإسقاطها. وعادت إلى التاريخ الإسلامي لكي تستحضر أزمنة الفتوحات والسيطرة، وتطرح معادلة بين العودة إلى الحكم الإسلامي واستعادة الأمجاد الغابرة. أما موقع الأقليات المسيحية في قلب العالم العربي الذي برأيها هو إسلامي، فيجب أن يستوحي نظام أهل الذمة إذا تعذّر تطبيقه كما ساد لقرون عديدة.
أمام هذا المعطى الجديد الذي زاد من قلق المسيحيين في الدول العربية على مستقبل وجودهم، بعدما نالت الظروف والضربات السابقة من حضورهم ودورهم البارز، تفاقمت ظاهرة الهجرة في الأوساط المسيحية لتزيد من فداحة الوضع المسيحي العربي. ولم يكن الدافع إلى تزايد الهجرة وتفاقمها مقتصراً على الخوف من تنامي الحركات الإسلامية وانتشارها الواسع في صفوف القواعد الشعبية فحسب، بل أيضاً من تراجع الأنظمة العربية عن مبادئ العلمانية التي كانت تطبقها وميلها المستجد لمنافسة هذه الحركات على قواعدها الشعبية وعلى كسب تأييد ورضى «الرأي العام الإسلامي». وإذا كانت الأوضاع الأمنية والمعيشية بالنسبة إلى المسيحيين في سوريا والعراق، في ظل حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، بقيت مقبولة إلى حد ما، فإنها كانت صعبة في هذه الفترة في مصر، حيث ترافقت بعض التدابير الرسمية بحق القيادات الدينية المسيحية مع موجات أصولية استهدفت المسيحيين جسدياً في أكثر من مناسبة. أضف إلى ذلك التضييق على الحرية الدينية لجهة عدم التساهل في بناء الكنائس أو حتى ترميمها، وفي المقابل، تسهيل أمر بناء الجوامع والمراكز الدينية في محيط الكنائس القديمة.
انتهت الألفية الثانية على واقع صعب جداً بالنسبة إلى المسيحيين، تحوّل فيه حضورهم الفاعل والمؤثر على مجرى الحياة في الدول العربية التي يعيشون فيها والذي دام نحو قرن من الزمن، إلى وجود صامت يكاد يكون أقرب إلى النزف والاحتضار والموت البطيء.
الوجود المسيحي في مطلع القرن الحادي والعشرين
مع انبلاج فجر القرن الحادي والعشرين، بدا أن ثمة يقظة عالميّة وإقليميّة التفتت فجأة إلى وضع المسيحيين في المنطقة العربية. وحتى قبل اندلاع الحرب الأخيرة في العراق، إثر التدخل العسكري الأميركي وحلفائه في هذا البلد، وما رافقه، أو نتج منه، من استهداف مباشر لمسيحيي العراق وهجرة كثيفة خطيرة، تكاثرت الكتب والتحقيقات الصحافية والدعوات إلى الالتفات لخطر خلوّ منطقة الشرق الأدنى من المسيحيين وإلى إيلاء هذه القضية الاهتمام الذي تستحقه.
بيد أن واقع حال المسيحيين في هذه المنطقة لا يزال دقيقاً جداً والصعوبات التي تواجهه خطيرة، والتدهور في أعدادهم وحضورهم لا يزال مطرداً. وفي مقاربة واقعية لأوضاعهم، يبدو أن القضية قاربت حداً قد يكون من الصعب إنقاذه إذا لم تتوافر معطيات جديدة تسهم في توفيرها الدول العربية بالدرجة الأولى، والأسرة والمنظمات الدولية بالدرجة الثانية، إضافة إلى المجهود الاستثنائي الذي يجب أن يبذله المسيحيون أنفسهم الذين يتعيّن عليهم أن يتجاوزوا هواجسهم ومخاوفهم وينكبّوا على استنباط الوسائل الناجعة لانبعاثهم في الأرض التي ولد عليها السيد المسيح.
الأراضي المقدسة: تراكم الضغوط وتصاعد الهجرة
يبقى للحضور المسيحي في ما يتعارف على تسميته الأراضي المقدسة، الموزعة اليوم بين إسرائيل والمناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، رمزيته الكبرى نظراً إلى أنها كانت مسرح ولادة الديانة المسيحية ونشأتها. هذه الرمزية هي الدافع الأساسي لاستمرار تعلق المسيحيين الفلسطينيين، كما المسيحيين في كل أنحاء العالم، بتأمين استمرار الحضور المسيحي في الأراضي المقدسة، على رغم التجارب الصعبة التي مرت ولا تزال تمر عليهم. وهذا ما يفسّر كثافة حضور المؤسسات الدينية والتربوية والاجتماعية المسيحية الكاثوليكية وغير الكاثوليكية في القدس وبيت لحم والعديد من المناطق الفلسطينية.
كان المسيحيون الفلسطينيون في طليعة من تنبهوا لمشاريع الاستيطان اليهودية في الأراضي الفلسطينية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى. وعملوا على نشر التوعية بين السكان وتحذيرهم من مغبة بيع أراضيهم للوافدين من أوروبا وغيرها من خلال مطبوعات وحملات توعية وجولات على المدن والقرى. وشاركوا بفاعلية في كل الجهود الرامية إلى مواجهة الخطر على بلادهم على كل المستويات، وتشاركوا مع الفلسطينيين المسلمين في تحمل المآسي الناتجة من حروب عام 1948 والمحن التي تلتها والتي لا تزال تستهدف الفلسطينيين في الأراضي المقدسة.
يُقدّر عدد الفلسطينيين المسيحيين المنتشرين في العالم اليوم بمئات الآلاف، غير أنهم في البلاد التي كانت مهدهم كدين وحضارة يوشكون على الاندثار، نتيجة عوامل مثل تنامي الأصولية وغياب الحرية والديموقراطية، وبعضها مرتبط بنشوء دولة إسرائيل التي هجّرت قسماً كبيراً منهم سنة 1948، وبالأحداث العسكرية والسياسية والاجتماعية الناتجة من الأعوام التي تلتها. وبحسب التقديرات الحالية، يناهز عدد المسيحيين الفلسطينيين المقيمين في الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية الخمسين ألف نسمة، موزعين بين الضفة الغربية والقدس التي يقطنها سبعة وأربعون ألفاً، وقطاع غزة الذي يقطنه ثلاثة آلاف مسيحي فلسطيني. وقياساً إلى عدد السكان الفلسطينيين، يمثّل المسيحيّون ما نسبته 1.4 في المئة من جميع الفلسطينيين في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية. في المقابل، يصل عدد المسيحيين العرب في إسرائيل إلى مئة وسبعة عشر ألف نسمة من مجموع 6.8 ملايين نسمة، أي نحو 1.7% من عدد سكان إسرائيل، فيما تصل نسبتهم إلى ثمانية في المئة من مجمل العرب المقيمين في الدولة العبرية منذ سنة 1948.
وفي مقارنة مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، يبدو الهبوط كبيراً على المستوى الديموغرافي. ففي عام 1894، كان هناك، بحسب الإحصاءات العثمانية، 42,871 مسيحياً أو 13.3 في المئة من مجموع سكان فلسطين الذي كان يبلغ في ذلك الحين 322,338 نسمة. وفي عام 1948، كان عدد المسيحيين مئة وخمسة وأربعين ألف نسمة، أو ما نسبته 7.6 في المئة من مجموع السكان البالغ عددهم آنذاك 1,908,724 نسمة. وبعد أحداث تلك السنة، بقي نحو أربعة وثلاثين ألف فلسطيني مسيحي في إسرائيل، بينما نزح ما يقارب الستين ألفاً إلى لبنان والأردن خصوصاً، أي نحو 41.3 في المئة من المسيحيين الفلسطينيين. أما عدد المسيحيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل الحرب العربية ـــــ الإسرائيلية الأولى في 1948، فكان 51063 نسمة، أي أكثر بقليل من عددهم هناك اليوم، فيما تضاعف عددهم في إسرائيل أكثر من ثلاث مرات، خلال الستين سنة المنصرمة، على رغم السياسات الإسرائيلية الرامية إلى استبدالهم بالمهاجرين اليهود في بعض المناطق ذات الرمزية بالنسبة إلى إسرائيل، وبخاصة في القدس حيث لم يبق اليوم سوى 37.5 بالمئة من عدد المسيحيين المقادسة مقارنة مع عام 1944.
العراق: قلق على الوجود
عند سقوط الدولة العثمانية ودخول العراق تحت سلطة بريطانيا، كانت العلاقات المسيحية ـــــ الإسلامية في هذه البلاد، كما في معظم الدول العربية، مقبولة، باستثناء المرحلة التي شهدت، في مطلع الثلاثينيات، انتفاضة الأشوريين وقمعها بطريقة شديدة العنف، ما أدى إلى آلاف الضحايا.
بعد تلك المأساة التي حلّت بالأشوريين، وصحبها تبرّؤ رسمي من جانب قيادات دينية كلدانية وإعلان صريح منها بالالتصاق بالدولة المركزية وبالهوية العربية للعراق، قام القادة الروحيون والسياسيون المسيحيون بدور مهم للحؤول دون الطموحات التركية الرامية إلى اقتطاع الموصل وضمه إلى أراضيها، فساهم هذا الموقف في تأكيد دورهم العراقي الوطني. وبما أنهم كانوا، بفضل الإرساليات الدينية الغربية والمؤسسات التربوية التي أنشأوها، يتمتعون بمستوى عال من الثقافة والتحصيل العلمي، أنيطت بهم مهمات بارزة، وتبوّأ بعض وجهائهم وزارات أساسية في الدولة العراقية، مثل وزارة المال، ومراتب في الإدارة ومرافق الدولة غير الحساسة. فالدرجات العالية في الجيش وفي مجمل دوائر الدولة الحسّاسة بقيت محظورة عليهم حتى الحرب الطاحنة مع إيران في الثمانينيات.
أثناء حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، تمتع المسيحيون بهامش أكبر من الحريات الدينية، وبشيء من الرعاية الرسمية لدور العبادة والمؤسسات الدينية. وبرز عدد قليل من الشخصيات المسيحية على الساحة السياسية العراقية، أهمها على الإطلاق طارق عزيز الذي تسلّم منصبي وزارة الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء، والأخير أعلى منصب شغله مسيحي في العراق. غير أن مجلس النواب في هذه الدولة شهد تراجعاً للحضور المسيحي، علماً بأن نسبة المسيحيين من مجمل عدد سكان العراق قد ارتفعت بين هذين التاريخين من نحو 3.1 إلى 3.5% بين 1953 و1984.
تداعيات حرب الخليج الأولى سنة 1990 ـ 1991، أرخت بظلالها السلبية على الاتجاهات العلمانية لنظام البعث، إذ وجد الرئيس العراقي صدّام حسين أن لا مفر أمامه من لعب ورقة العصبية الإسلامية لاستنهاض شعوب الدول العربية المحيطة به ضد أنظمتها التي تحالفت مع الدول الغربية لمواجهته إثر اجتياحه الكويت في آب 1990.
بعد ذلك أتى حصار العراق ومن ثم احتلاله ليفاقم الهجرة المسيحية، ولا سيما عندما أخذت عمليات التفجير والقتل والخطف تستهدف المسيحيين ودور العبادة والمؤسسات المسيحية. وقد تركزت الاعتداءات عليهم في بغداد والموصل، ما أدى الى موجات نزوح جماعية منهما، وكذلك من البصرة حيث تراجعت أعدادهم تراجعاً ملحوظ، من غير أن تتمكن السلطات الرسمية العراقية والمحتلة من اتخاذ التدابير الكفيلة بحمايتهم. في المقابل، سعت حكومة إقليم كردستان ـــــ العراق، إلى تشجيع مَنْ يهاجر إليها من المسيحيين على البقاء في هذا الإقليم، من خلال توفير أجواء من الحماية والاستقرار والحرية الدينية الأوسع. وقد كان للتوجه العلماني السائد في الإقليم الكردي جاذبيته الكبيرة بالنسبة إلى المسيحيين القلقين من تنامي الأصولية في بقية الأقاليم العراقية، في حملهم على اختياره ملاذاً.
يُقدّر المتابعون لملف الوجود المسيحي في العراق أعداد الذين هجروا هذا البلد من المسيحيين بسبب أعمال العنف والاستهداف وغياب الاستقرار الأمني بنحو 250 ألف نسمة من أصل عدد لم يكن من السهل تحديده لعدم توافر أرقام ومعلومات دقيقة عن توزّع العراقيين طوائفياً في الإحصاءات التي كان يجريها النظام العراقي السابق. ويرى المتابعون أن ما يقارب الـ 800 ألف مسيحي، كانوا لا يزالون يعيشون على الأراضي العراقية عشية الهجوم الأميركي على العراق في آذار عام 2003، معظمهم من الطائفة الكلدانية الكاثوليكية. ويتمثل المسيحيون العراقيون اليوم بخمسة نواب في مجلس مؤلف من 275 نائباً وبوزير واحد في الحكومة الفدرالية.
مصر: الوضع الصعب
رغم أن المسيحيين المصريين يمثّلون المجموعة المسيحية الأكبر في المشرق العربي التي قد يتجاوز عدد أبنائها عدد كل المسيحيين في منطقة الشرقين الأدنى والأوسط، ورغم أن نسبتهم داخل المجتمع المصري هي من الأعلى بين الأقليات المسيحية في الدول العربية، فإن وضع المسيحيين في مصر قد يكون الأصعب على الإطلاق. فهذه المجموعة تشكو من تمييز يستهدفها على كل الصعد، وبخاصة على المستويين الشعبي والسياسي. كما أن ثمة شكوى جدّية من حرية ترميم المباني الدينية القديمة، ومن قيود صارمة تُفرض لمنع بناء كنائس جديدة ومراكز اجتماعية تابعة للكنيسة يفترضها النمو السكاني الطبيعي للأقباط.
فبحسب الكنيسة القبطية، يمثّل المسيحيون نحو عشرة في المئة من المصريين البالغ عددهم نحو 80 مليون نسمة، أغلبيّتهم الساحقة من الأقباط الأرثوذكس. في المقابل، تشدّد الإحصاءات الرسمية على أن نسبتهم لا تتجاوز الستة في المئة من السكان. ويبدو الإجحاف أو التهميش السياسي واضحاً للغاية، فيما لو جرت المقارنة بين نسبتهم العددية ونسبة تمثيلهم في مختلف المؤسسات الدستورية والحكومية والإدارية والقضائية المصرية. إذ من أصل أربعمئة وأربعة وخمسين نائباً يؤلفون مجلس الشعب المصري، ليس هناك سوى ستة نواب مسيحيين، واحد منهم منتخب على اللوائح المتنافسة، وخمسة معيّنون. وإذا كانت الحكومة تضم وزيرين مسيحيين من أصل أربعين، فإن حضور المسيحيين في المناصب الإدارية العليا وفي مواقع النفوذ الاقتصادي، أفضل نسبياً. غير أن هذه النسبة تتضاءل كثيراً في الجسم القضائي حيث تُقفل الأبواب على وجه الإجمال أمام المسيحيين. ولا بد من الإشارة إلى أن ظاهرة الهجرة لم تعرف طريقها إلى مسيحيي مصر إلا ابتداءً من الخمسينيات مع صعود التيارات الأصولية الإسلامية والتدابير الاشتراكية لعهد جمال عبد الناصر.
لم تكن تلك حال المسيحيين في مصر في العقود الثلاثة الأولى التي تلت سقوط الإمبراطورية العثمانية. فحتى سقوط الملكية سنة 1952، حافظ المسيحيون على مواقعهم المتقدمة في الميادين لها، بما فيها الميدان السياسي، التي كانوا قد شغلوها في العقود الثلاثة السابقة لانهيار السلطنة. وقد كان للدور البارز الذي قام به الأقباط في مصر في مرحلة النضال من أجل الاستقلال بعد الحرب العالمية الأولى في إطار «حزب الوفد» برئاسة سعد زغلول، أثره الأكبر في تأمين حضور مسيحي فاعل في الحياة السياسية المصرية. فقد
انخرط المسيحيون بكثافة في هذا الحزب، وشغلوا مواقع أساسية فيه، وشاركوا بطريقة فعالة في المواجهة السياسية التي خاضها المصريون من أجل الحصول على الاستقلال. وسادت البلاد في ذلك الحين نزعة قومية عربية مصرية قائمة على مبادئ وطنية لاطائفية أتاحت للأقباط تعزيز وجودهم في الإدارات العامة للدولة وفي الحكومات المتتالية التي ألّفها حزب الوفد بما يتناسب مع مقدراتهم الثقافية والفكرية والعلمية. فأسندت إليهم وزارات مهمة مثل الخارجية والمال، وانتخب، بين عامي 1928 و1931، القبطي، ويصا واصف، رئيساً لمجلس النواب شاغلاً بذلك المنصب الثاني في البلاد بعد الملك. في ظل الانقسامات العميقة داخل حزب الوفد، ولدت حركة الضباط الأحرار التي انقلبت على الملكية وأطاحتها في تموز 1952. وبما أن هذه الحركة خلت تقريباً من أي ضابط أو قيادي مسيحي، فقد خرج المسيحيون المصريون لأول مرة من اللعبة السياسية الوطنية. وعلى رغم العناوين القومية النازعة نحو العلمانية التي حملها النظام الجديد، فإن أركانه أبدوا سلبية ضد النخب السياسية والاقتصادية القبطية واعتبروها جزءاً من النظام الملكي البائد، فحاربوها على نحو مباشر أو غير مباشر.
رغم مضايقات النظام الجديد والتدابير الاشتراكية التي اتخذها تباعاً، وطالت جزءاً غير يسير من ممتلكات الكنيسة والأقباط وضربت المبادرة الفردية التي يفيد منها أبناء الأقليات عادة، لم يستهدف زعيمه جمال عبد الناصر المسيحيين أو يضطهدهم. فقد استمر تعيين وزراء أقباط في الحكومة ومديرين منهم في مواقع مهمة من الإدارة المصرية، إضافة إلى تعيين عشرة نواب مسيحيين في مجلس الشعب. غير أن سياسة علمنة الدولة أدت من خلال إلغاء مجالس الملّة والمحاكم الروحية إلى ضرب الأطر التي حفظت الهوية القبطية وحمتها من الذوبان والاندثار في القرون الماضية. فأضحى الأقباط من دون حماية أو إطار يحفظ لهم خصوصياتهم وشخصيتهم وسط غالبية إسلامية غير متسامحة معهم على وجه الإجمال، ونظام سياسي جديد ابتعد عن النظرة الليبرالية التي اعتنقتها النخبة السياسية الحاكمة السابقة تجاه قضايا كثيرة، ومنها قضية الأقباط المصريين. وقد كانت الفئات المسيحية غير القبطية أول من تأثر بالتدابير الاشتراكية وبالعناوين القومية العربية الصارمة التي أحدثت تبدلاً فجائياً في الصورة الكوزموبوليتية للمدن المصرية الأساسية، وبخاصة الإسكندرية والقاهرة.
انقلاب الرئيس أنور السادات على سياسات سلفه الاقتصادية وبعض تدابيره الإدارية، ومن بينها عودة مجالس الملة، أعاد للمسيحيين جزءاً من المنظومة التي ازدهر دورهم فيها في عهد الملكية. غير أن بدء سياسة انفتاح السادات على إسرائيل والعالم الغربي ترافق مع اتجاه لديه لمهادنة الإخوان المسلمين في مصر ومحاولة استمالتهم لعهده من خلال تشريعات تستوحي التقليد الإسلامي، مثل اقتراح مشروع قانون يقضي بإعدام المرتد عن الإسلام سنة 1977 وإثارة نقاش سنة 1980 حول اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع بدلاً من أن تكون مصدراً أساسياً في التشريع كما كانت في السابق.
أما وضع المسيحيين في عهد الرئيس حسني مبارك، الذي يعدّ في معظم نواحيه امتداداً لعهد سلفه، فقد شهد تحسناً نسبياً في أوضاع رجال الأعمال الأقباط راجعاً الى السياسة الاقتصادية الليبرالية التي تتبعها الدولة منذ سبعينيات القرن الماضي. بيد أن هذا التحسن لم تقابله أي إصلاحات جدية على المستوى السياسي والاجتماعي. ولا يزال حضور المسيحيين في هذا المجال دون ما تفترضه نسبتهم العددية، وعرضة للاستهداف من دون حماية أمنية جدية. فليس من النادر أن يتطور أي إشكال بين مواطنين مصريين مسلمين ومسيحيين إلى أحداث عنف تطال المراكز الدينية المسيحية بالحرق والتكسير.
الأردن: رعاية ملكيّة ووضع خاص
للمسيحيين في الأردن ولنوعية العلاقات التي تربطهم بالمملكة الهاشمية ولموقعهم في المجتمع الأردني وضع خاص مختلف كثيراً عن أوضاع المسيحيين في كل الدول العربية المحيطة بهم. فمن جهة، يتمتع هؤلاء بمكانة محترمة وبرعاية ملكية خاصة تترجمها نسبة تمثيلهم في مجلس النواب التي تفوق نسبتهم العددية من الشعب الأردني، وتصل إلى حد انتخاب مسيحي في الهيئة الإدارية لأحد الأحزاب التابعة للإخوان المسلمين، في سابقة لا مثيل لها في كل التنظيمات الإسلامية. لكن من جهة ثانية، يشعر المسيحيون في الأردن بوجود منحى، ولا سيما في الأوساط الرسمية التي يمتد إليها تأثير التيارات الإسلامية، لتأكيد الهوية الإسلامية الغالبة، وخصوصاً على المستوى التربوي وبالتحديد في التعليم الرسمي، حيث يطغى الطابع الإسلامي على المواد التدريسية، بدءاً بكتاب التاريخ وصولاً إلى محاولة التأثير على الكتاب الديني المسيحي.
تُقدّر نسبة المسيحيين في الأردن بين ثلاثة وأربعة في المئة من إجمالي السكان البالغ ستة ملايين نسمة. وبحسب دراسة تضمنت إحصاءات تقريبية، نشرتها الكنيسة الكاثوليكية، عشيّة زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر في أيار 2009 للأردن، فإن عدد المسيحيين الأردنيين وصل إلى 250 ألفاً، بينما يتراوح عدد المقيمين منهم داخل الأردن بين 170 و190 ألفاً. وعزت الدراسة أسباب تراجع عدد المسيحيين في الأردن إلى عوامل عدة، منها ما يرتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والخصائص الثقافية والمهنية، إضافة إلى جاذبية الدول التي هاجروا إليها.
وينتمي المسيحيون الى الكثير من الاتجاهات السياسية، منها المحافظة والليبرالية ومنها القومية واليسارية، ويقومون بدور مهم في الحياة الاقتصادية والثقافية وفي المهن الحرة. وهم ناشطون أيضاً في الحركة النقابية. وبرزت أهمية الدور الذي يقوم به المسيحيون في الأردن على المستوى السياسي بانتخاب أول مسيحي، عزيز مساعدة، في الهيئة الإدارية لحزب جبهة العمل الإسلامي (الذراع السياسية للإخوان المسلمين في الأردن) وإعلان مسؤولي الحزب استعدادهم ليس فقط لترشيح مسيحيين على قوائمه بالانتخابات المقبلة، للمرة الأولى في تاريخ الحزب الذي تأسس رسمياً عام 1992، بل حتى لقبول دخول أعضائه المسيحيين في هيئته القيادية العليا، وهي سابقة جديدة من نوعها في تاريخ الأحزاب الإسلامية في المنطقة.
يمكن القول إن للمسيحيين موقعاً متميزاً في الأردن على جميع المستويات. ويدين كثير من الأردنيين بهذا الموقع للأسرة الحاكمة الهاشمية المنحدرة من عائلة نبي المسلمين. فالشرعية الدينية التي تتمتع بها هذه السلالة مكّنتها من إعطاء ما ارتأته مناسباً للأقلية المسيحية من دون خشية التعرض لأي تشكيك بأرثوذكسيتها السنيّة. لقد أدرك الهاشميون باكراً الدور المهم لهذه الأقلية على صعيد التحديث ومواكبة العصر، وعلى الأخص في استيعاب أفكار الحداثة وقولبتها وتقديمها للمجتمع الأردني بطريقة متناسبة مع تطلعاته ونمط حياته تحترم خصوصياته وقيمه. ويتناقل الأردنيون المسيحيون أن العلاقات المميزة مع الأسرة الهاشمية بدأت مباشرة بعد انتقالها إلى منطقة شرق الأردن من الحجاز، وأن الميسورين والوجهاء منهم راهنوا عليها ودعموها مالياً وسياسياً واجتماعياً في فترة كانت لا تزال تحتاج فيها إلى كل أنواع الدعم، قبل أن تتمكن من الإمساك بالوضع وفرض سيطرتها القوية على ما أصبح في ما بعد المملكة الأردنية. ولا يزال رهان المسيحيين الأردنيين كبيراً على العرش الهاشمي الذي يعتبرونه ضمانة لهم في مجتمع تنشط فيه دعوات التطرف الديني.
سوريا: مساواة من حيث المبدأ
المفارقة في واقع المسيحيين في سوريا هي أنهم يتمتعون نظرياً وعملياً بوضع جيد نسبياً، قد يحسدهم عليه عدد كبير من مسيحيّي الدول العربية، ومع ذلك فإن ميلهم وإقدامهم على الهجرة لا يقلّان عن المنحى السائد في هذه الدول. ذلك أن وجودهم في دولة لا تزال تحمل عناوين وشعارات علمانية، على رغم موقع الدين الإسلامي الأساسي في الدستور السوري وفي قلب الحياة اليومية للسوريين، وفي ظل نظام يسيطر عليه حزب البعث غير المتشدد دينياً، وإنما سياسياً وأمنياً، لا يجعلهم عرضة للاستهداف السهل من جانب القوى الإسلامية المتطرفة، كما هي الحال في معظم الدول العربية. غير أن القلق على الوجود والحضور والحنين إلى الدور يقضّ مضجعهم ويجعلهم يلتمسون أي فرصة تؤمّن لهم ولأبنائهم مستقبلاً آمناً وحياة كريمة، بعيداً عن تعقيدات العالم العربي وأزماته المستعصية.
بخلاف سائر المسيحيين في الدول العربية، باستثناء لبنان، لم ينخرط المسيحيون السوريون بكليّتهم في النضال من أجل الانتهاء من الانتداب الفرنسي. إذ على رغم انغماس نسبة عالية من نخبهم في التيارات والأحزاب ذات الاتجاه الاستقلالي، بدا فريق منهم مرتاحاً للانتداب الفرنسي ولم يظهر إصراراً على الانتهاء منه سريعاً. وهذا ما ترك في الفترة السابقة للاستقلال أثراً سلبياً على العلاقات بين هذا الفريق من المسيحيين الذين كانوا قلقين من أن تراجع النفوذ الفرنسي قد يعيدهم إلى وضعية أهل الذمة التي عانوا منها في الدولة الإسلامية حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية سنة 1918، من جهة، وبين مسلمين سوريين تعززت لديهم الشكوك من نيات شركائهم في الوطن ومن انتماءاتهم.
مع انتهاء الانتداب الفرنسي سنة 1943، مثّل وجود النخب المسيحية في المجموعة الأساسية التي خاضت النضال ضده جسر عبور للمسيحيين للمشاركة في النظام الديموقراطي الذي تمسكت بإرسائه مجموعة النخب الليبرالية المثقفة السورية. وبما أن هذا النظام وعملية استكمال بناء الدولة يقتضيان وجود كوادر ونخب متعلمة، وجد المسيحيون الذين كانوا في ذلك الحين يمثّلون نحو عشرين بالمئة من الشعب السوري أن الفرصة متاحة أمامهم لتأكيد حضورهم في مؤسسات الدولة التي كانوا قد دخلوا إليها أسوة بغيرهم من الأقليات السورية في العصر الفرنسي. وكان من الطبيعي أن يكونوا مرتاحين إلى أوضاعهم في مرحلة ما بعد الاستقلال وأن يتبوّأ بعض نخبهم مناصب مهمة مثل فارس الخوري الذي انتخب رئيساً لمجلس الشعب وعيّن رئيساً لمجلس الوزراء أكثر من مرة.
وفي تلك الفترة القصيرة التي تميزت بالديموقراطية والليبرالية والحريات العامة والانفتاح، أدّى المسيحيون السوريون أدواراً مهمة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة، ومثّل زعماء لهم ركائز لنخبة حاكمة تمسّكت بتلك القيم. غير أن هذه الحال ما لبثت أن تغيّرت نسبياً بعد الانقلاب العسكري الذي نفّذه حسني الزعيم عام 1949 ضد النخبة الاستقلالية ذات التوجه الليبرالي. كذلك تغيّرت الحال بعد تنامي نفوذ جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر، ثم توسع نشاطها وتأثيرها لكي يشمل الأقطار العربية المجاورة، ومنها سوريا. واستفاد الإخوان من عصر الانقلابات الذي بدأه الزعيم، لمباشرة الضغوط من أجل أسلمة الحياة السياسية، بدءاً من مطالبتهم باعتبار الإسلام دين الدولة. وحقق نواب الإخوان نجاحاً جزئياً، إذ أقرّ مجلس الشعب السوري سنة 1950 مبدأ اعتبار الشرع الإسلامي مصدراً أساسياً للتشريع وبأن دين رئيس الدولة هو الإسلام، لكنه رفض اعتبار الإسلام دين الدولة، وتمسك بالمادة نفسها من الدستور السوري التي تنص على احترام الدولة لكل الديانات ولحرية العبادة ولاستقلالية أحوالها الشخصية.
البابا بنيدكتوس السادس عشر خلال القداس الختامي للسينودوس من أجل الشرق الأوسط (أرشيف ــ رويترز)البابا بنيدكتوس السادس عشر خلال القداس الختامي للسينودوس من أجل الشرق الأوسط (أرشيف ــ رويترز)ورغم أنه كانت لمرحلة الانقلابات في سوريا بعض الجوانب الإيجابية بالنسبة إلى المسيحيين على مستوى تخفيف نفوذ رجال الدين المسلمين على الحياة العامة في سوريا، فإن الجوانب السلبية لم تكن قليلة. فالحكومات العسكرية والاضطرابات حملت العديد من النخب المالية والثقافية السورية على ترك بلادها طلباً للديموقراطية والليبرالية الاقتصادية والحريات والاستقرار. وتعرضت المؤسسات الاجتماعية والتربوية المسيحية في سوريا للعديد من المضايقات في هذه الفترة، تحت عناوين التعريب والانصهار التي جعلت المسيحيين يشعرون بأن العلمنة السورية لا هدف لها سوى استهداف التضييق على خصوصيات المسيحيين وعلى حرياتهم الدينية.
مثّل وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم في آذار سنة 1963، محطة حاسمة في تاريخ المسيحيين في سوريا، إذ إنه قضى من جهة على ما بقي لهم من قدرات وفرص اقتصادية من خلال الاشتراكية، ومن دور من خلال تأميم المدارس والمؤسسات الاجتماعية، فهاجر العدد القليل الباقي من نخبهم المالية إلى لبنان. من جهة أخرى، أرسى النظام الجديد سياسة علمانية أتاحت للمسيحيين فرصاً متساوية من حيث المبدأ مع غيرهم من المواطنين السوريين المنتمين الى الأديان الأخرى. وفي ظل هذا النظام الذي أحكم حزب البعث قبضته عليه، توافرت للمسيحيين السوريين درجة متقدمة من المساواة وحرية العبادة والاستقرار الأمني، فشغلوا مواقع عديدة مهمة في مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية والدبلوماسية والإعلامية.
لذلك يمكن القول اليوم إن المسيحيين السوريين ينفردون عن أقرانهم في الدول العربية الأخرى بأنهم موجودون في قلب النظام السوري، إضافة إلى تمثيلهم في مجلس النواب، حيث يشغل النواب المسيحيون السوريون سبعة عشر مقعداً من أصل 252، ومجلس الوزراء الذي يضم ثلاثة وزراء مسيحيين. علماً بأن نسبة السوريين المسيحيين تصل الى نحو 10 في المئة، بحسب التقديرات غير الرسمية، من الشعب السوري البالغ نحو عشرين مليون نسمة.
وكما جميع المسيحيين في الدول العربية، ثمة قلق من تزايد هجرتهم التي ارتدت طابع النزف ابتداءً من مطلع الثمانينيات، وخصوصاً من حلب والحسكة وبعض المناطق التي كان لهم حضور بارز فيها. أما الأسباب، فهي نفسها أيضاً وترتبط ارتباطاً مباشراً بقضيّة الديموقراطية وحقوق الإنسان وغياب المساواة والأوضاع الاقتصادية والمعيشية والقلق من تنامي الأصولية الإسلامية. وممّا يزيد من هذه المخاوف العدائية التي يظهرها الإسلاميون حيالهم والأسئلة التي يعززونها لديهم عن مصيرهم إذا تغيرت الأوضاع في سوريا.
لبنان واسطة العقد
اعتُبر لبنان منذ 1920 الدولة العربية التي أُنشئت من أجل المسيحيين المقيمين على أرضه، وبخاصة الموارنة الذين بذلوا جهوداً جبارة لتحقيقها، مستفيدين بالطبع من ظروف مؤاتية لم يكن من دونها ممكناً مجرد التفكير باحتمال نشوئها. غير أن من المجحف بحقهم في المقابل، إعطاء الفضل كله للظروف السياسية الدولية والإقليمية التي عرفوا كيف يستفيدون منها ويسخّرونها من أجل إنجاز مشروعهم. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تبلورت فكرة الكيان اللبناني المستقل بحدوده ومساحته القريبة من حدود ومساحة دولة لبنان الكبير التي أعلنها الجنرال هنري غورو، وفق ما تلحظه المذكرة التي قدّمها البطريرك إلياس الحويك للمسؤولين في الكرسي الرسولي وفرنسا إبان سفره إليهما سنة 1905.
الديناميكية التي مثّلت البطريركية المارونية حجر الزاوية فيها والمفكرون والمثقفون والسياسيون عمادها، أثمرت عن تحقيق لبنان الكبير سنة 1920. وقد انخرطت هذه الديناميكية في مشروع قيام الدولة اللبنانية بمرافقها ومجالاتها كلها: الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والصحية. ولم يطل الأمر حتى حقق لبنان موقعاً مميزاً في محيطه في المجالات المشار إليها وتحول إلى واحة حداثة في قلب منطقة كانت لا تزال ترزح في واقع ما قبل مفهوم الدولة.
وبعدما مثّل الدور المسيحي القوي، منذ نشأة لبنان الكبير وصولاً إلى نهاية حقبة السيطرة السورية على القرار السياسي في لبنان، محط استهداف من جانب القيادات والأوساط الإسلامية والقوى الإقليمية المتحالفة معها، اعتبره بعض المسيحيين اللبنانيين مبرمجاً، ثمة توجه إسلامي لبناني لإعادة الاعتبار لهذا الدور. وسواء كان هذا التوجه ناتجاً من وعي لأهمية الدور المسيحي أو من تداعيات الاحتقان المذهبي في المنطقة الذي ينعكس تجاذباً للطرف المسيحي في لبنان ومحاولة لاستمالته بغية تحقيق تقدم بالنقاط على الفريق الآخر، فإن هذا الواقع يجد ترجمة إيجابية إلى حد ما.
غير أن هذه الترجمة تقيّدها اعتبارات كثيرة، منها ما هو مرتبط بالمعادلة السياسية الدستورية الناتجة من وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف، ومنها ما هو مرتبط بذهنية القيادات السياسية الإسلامية وطريقة التطبيق الانتقائية وبالتوازنات التي تحكمت بهذا الاتفاق وبالتدابير والسياسات المتبعة خلال أعوام الوصاية السورية على لبنان، ومنها ما هو متعلق بنتيجة الصراعات والحروب على النفوذ بين القيادات المسيحية في السنوات الأخيرة من الحرب اللبنانية التي وضعت أوزارها في نهاية عام 1990، ومنها ما هو عائد الى المتغيرات الديموغرافية التي أثّرت على الأوضاع اللبنانية.
لقد قيّدت وثيقة الطائف رئيس الجمهورية وقلّصت صلاحياته إلى حد كبير، مقابل تقوية موقعي رئيس مجلس النواب ومجلس الوزراء داخل المعادلة الدستورية والسياسية الحاكمة. كذلك أدى ارتباط قيادات إسلامية مؤثرة بالقيادة السورية التي أحكمت أجهزتها الأمنية وقواتها العسكرية سيطرتها على كامل المرافق الرسمية اللبنانية الدستورية والإدارية، إلى تهميش شبه كامل للدور المسيحي خلال الأعوام الممتدة بين 1992 و2005.
مثّل انسحاب القوات السورية من لبنان فرصة ثمينة لبداية استعادة المسيحيين دورهم. ففضلاً عن الآثار المباشرة لذلك الانسحاب من حيث إنه حرّر الزعماء المسيحيين المعارضين لدمشق من القيود والضغوط التي فرضت عليهم، وعلاوة على أن الانسحاب سمح لهم على الأقل بتحويل جهودهم من محاربة السوريين الى العمل على استرجاع الدور المسيحي، فإن الانسحاب تزامن مع متغيّرين مهمّين. المتغيّر الأول تمثّل في تزايد الوعي لدى بعض النخب الفكرية والثقافية الإسلامية لأهمية الدور المسيحي، والثاني في تفاقم النزاع السنّي ـــــ الشيعي في المنطقة واقتراب شبحه من لبنان. وهذا ما أدّى الى تنافس بين قيادات الطرفين على كسب المسيحيين في هذا النزاع الجديد، وذلك عبر الإعراب عن الاستعداد للتراجع عن المواقف التي سبق لها أن اتخذتها تجاه «الهيمنة المسيحية» أو «المارونية السياسية» على النظام اللبناني.
لكن هذه الفرصة ما لبثت أن تراجعت أمام تطورات عدة لم تكن في مصلحة المسيحيين اللبنانيين، كان من بينها التأزم السني ـــــ الشيعي في المنطقة والذي ترك أثراً مزدوجاً ومركّباً على الدور المسيحي في لبنان. ففيما عزز ذلك التأزم، من جهة، فرصة استعادة هذا الدور، فإنه من جهة أخرى، استجلب مداخلات سياسية ومالية من القوى الإقليمية والدولية استفادت منها القيادات الإسلامية. وهذا ما أدى الى تحييد قسم كبير من القوى والقيادات المسيحية المتحالفة مع هذا الطرف أو ذاك، وإلى الحد من قدرتها على التحرك المستقل عن الحلفاء المسلمين، ومن ثمّ على النهوض بالدور المسيحي في النظام اللبناني وعلى اضطلاع المسيحيين بالدور الجامع الذي طالما قاموا به في هذه المنطقة من العالم العربي حتى في الفترة السابقة لقيام دولة لبنان الكبير.
كذلك تزامن الانسحاب السوري عام 2005 مع استمرار التفاهم السياسي بين القيادات الإسلامية المعروف بالتحالف الرباعي خلال انتخابات ذلك العام. صحيح أن هذا التفاهم لم يستمر طويلاً، إلا أنه بقي فترة كافية سمحت بتثبيب معادلة تقاسمتها المواقع الوزارية والنيابية والإدارية المسيحية حتى بعد انسحاب سوريا وتجدد الخلاف بين أطراف التحالف.
انطلاقاً من الواقع غير المرضي للكثيرين الذي يعيشه لبنان وسائر الدول العربية، يتفق المسيحيون ونسبة مقبولة من نخب المسلمين اللبنانيين الثقافية وحتى السياسية على أن أحد مداخل إصلاح الوضع فيه هو في إعادة الاعتبار للدور المسيحي حتى لا يخسر لبنان طابع التعددية السياسية والحزبية والتنوع الاجتماعي والثقافي والحداثة ومناخ الليبرالية والحرية الفردية، وهي ميزات وضعته في مقدمة دول المنطقة وحوّلته الى نموذج تسعى شعوبها الى الاقتداء به.
هل من رغبة إسلامية في الدور المسيحي؟
غالباً ما تركز الدراسات والندوات والمواقف المتعلقة بالحضور المسيحي في الشرق، على أوضاع المسيحيين وعلى ضرورة أن يفعّلوا دورهم ويبحثوا عما يجعلهم حاجة لمحيطهم العربي. وقد يكون هذا التوجه صحيحاً لجملة اعتبارات، أهمها أنهم أصحاب المصلحة الأولى في بقائهم في المنطقة التي ولدوا فيها والتي تُمثّل مهد حضارتهم وديانتهم، ومن الواجب عليهم البحث عن الوسائل التي تؤمّن استمراريّتهم فيها على نحو لائق. كان ذلك مقبولاً لغاية العقد الأخير من القرن الماضي. بيد أن كل الوقائع في مطلع هذا القرن تُشير إلى أنهم لم يعودوا قادرين على القيام بما يُغيّر من حالهم وأوضاعهم بعدما باتوا أقليات مهمّشة تفتقر إلى حقوقها الأساسية.
إن أي مقاربة لقضية المسيحيين في الدول العربية مدخلها الجدي حوار عميق، وتفاهم حول النظرة الى أهمية الحفاظ على الأقليات المسيحية على أراضيها، وهي نظرة لها انعكاسات بعيدة المدى ليس فقط على الوجود المسيحي في المنطقة، وهو أمر بالغ الأهمية في حد ذاته، ولكن أيضاً على قضايا أخرى لا تقلّ عنه أهمية، وفي مقدّمها ما يأتي:
ـــ قضية الأقليات الدينية والإثنية والثقافية.
ـــ مشاريع التطهير الديني والعرقي.
ـــ النظرة الى التراث الديني والحضاري للمنطقة، حيث كانت مدن وكيانات المتوسط الجنوبية والشرقية، أي ما يشكّل المنطقة العربية اليوم، حاضناً للتعددية المجتمعية منذ فجر التاريخ.
وأهم المسائل التي يمكن أن تثار في الحوار على النطاق العربي:
ـــ انتهاج سياسة رسمية قائمة على توعية الشعوب العربية على أهمية الحفاظ على الأقليات الدينية عموماً والمسيحية خصوصاً.
ـــ التنبه إلى التعاليم الدينية التكفيرية التي تنشرها بعض التنظيمات الإسلامية المتطرفة في المساجد والمعاهد التربوية والدينية.
ـــ الإشارة إلى الدور الذي قام به المفكّرون والمثقّفون المسيحيون في النهضة العربية خصوصاً على المستوى الثقافي.
ـــ التمييز الإيجابي من خلال تحديد كوتا للأقليات في المؤسسات التمثيليّة تنسجم على الأقل مع الواقع الديموغرافي المسيحي.
ـــ الحفاظ على حدّ أدنى من الاستقلالية في قضايا الأحوال الشخصية والتربية.
ـــ اعتماد درجة متقدمة من اللامركزية الإدارية وعدم التخوف من تقطيع جغرافي، يمثّل فيه المسيحيون نسبة كبيرة من السكان.
الأهم في مقاربة قضية الوجود المسيحي في الدول العربية هو أن يعبّر أصحاب القرار والرأي في هذه المنطقة عمّا إذا كانوا يرغبون فعلاً في بقاء مسيحية مزدهرة في مجتمعاتهم، وعن استعداداتهم للاستماع إلى ما من شأنه أن يحفظ الوجود المسيحي العربي قبل أن يفوت الأوان، وأن يفتشوا بصدق وجرأة عن الوسائل المفضية الى تحقيق هذه الغاية، وأن يعملوا على وضعها موضع التطبيق.
* كاتب وإعلامي لبناني
(هذا النصّ هو عبارة عن ورقة
قدّمها الكاتب إلى المشاركين في مؤتمر
«إحياء الدور المسيحي في المشرق العربي»، الذي نظّمه مركز عصام فارس للشؤون اللبنانيّة بين 25 و27 أيلول الماضي في الجامعة الأميركيّة في بيروت)
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى