صفحات مختارة

الأسماء ليست مسألة لغوية

null
الياس خوري
قال طارق علي ان علينا ان نسأل النفط لا الدين، فلو كانت منابع النفط في دول بوذية، لاعتبرت الديانة البوذية هي العدو، ولرأينا مخرجي هوليوود يعتنقون الروحانية الاسلامية بدل اعتناقهم البوذية!
كنا في اوسلو، في ندوة نظّمها بيت الأدب النروجي عن التسامح، وضمّت مجموعة من مثقفي الشرق الأوسط والعالم الاسلامي. المفاجئ ان الغالبية العظمى من المنتدين وجّهت نقدا حادا الى التعابير التي جُعلت عنواناً للمؤتمر، كالتسامح والتعايش وغيرها من الألفاظ التي صارت دارجة في اللغة الثقافية المسيطرة في زمن العولمة.
وعلى الرغم من اطلاقية عبارة طارق علي، فإنها حملت الكثير من الدلالات الحقيقية. فعالم ما بعد الحادي عشر من ايلول، هو عالم مسكون بالعنف، والاسلاموفوبيا، والعنصرية التي لا تكمن الا لتصحو من جديد. هذا الواقع هو جزء من النتائج الكارثية لسياسات طغمة المحافظين الجدد، التي صنعت احدى اكثر الادارات غباء وفشلا في تاريخ الولايات المتحدة، وقادت الى الكوارث في كل مكان من العراق الى فلسطين الى آخره…
المسألة ان لغة الهيمنة الأميركية، بسيطة ومبسّطة، كي تلائم قوالب مشروع امبراطوري متعثر. نحن نشهد لعبة لغوية تثير العجب، من “محور الشر” الى كذبة اسلحة الدمار الشامل في العراق، الى العته الاجرامي الذي تجلّى في تحطيم الحركة الوطنية الفلسطينية، الى انتفاخ القوة الذي قاد الى عدوان تموز 2006 في لبنان. الدعوة الى الديموقراطية تتوقف امام حلفاء اميركا في العالم العربي، فتصير القضية ممسحة تدعو الى الرثاء، ويتراكم الفشل، بحيث يصير على الشعوب المقهورة في العالم العربي ان تختار بين المغول والفرنجة الذين اطلق عليهم اسم الصليبيين. خياران هما الكارثة، لأنهما يقودان الى تفتيت المنطقة ووأد قضية فلسطين، التي هي التجسيد الأخير للمسألة الوطنية الديموقراطية، والاسم الآخر للعدالة.
اللافت في هذا الزمن هو تغيير العبارات، بحيث دخلت العبارات الجديدة في وعينا ولاوعينا. قلت لهم اننا في لبنان نشعر بالخوف حين نستمع الى كلمات التسامح والتعايش والسلم الأهلي. اذ غالبا ما تُخفي هذه الكلمات مشاعر طائفية صنعتها الكراهية والميول العنصرية، وتقود في الكثير من الأحيان الى اعمال مشينة، وخصوصا عندما تتلطى خلف قضايا كبرى. حاولتُ ان ابرهن ان الأسماء ليست مسألة لغوية، وان تبنّي الكلمات الجديدة، حتى وإن كان من يتبناها يحمل نيات حسنة، لا شك فيها، يقود الى تأسيس الكراهية، بدلا من مواجهتها.
المسألة في رأيي تحتاج الى تدقيق، لأن السقوط في العبارات الجديدة، سوف يعني ان فكرة حرب الحضارات، التي تراجع عنها صاحبها، تحولت حقيقة لا ترحم، وهي تهدد العالم بأسره في السقوط في عصور جديدة من الظلام، لم تخطر في بال اندره مالرو الذي تنبأ بأن القرن الحادي والعشرين سوف يكون قرنا دينياً.
السؤال هو لماذا تغيب عبارات العدالة والمساوة والحقوق المتساوية والمواطنة، لتحل مكانها عبارات غامضة، كالتسامح والتعايش؟
استطيع ان اتفهم التعثر اللغوي الذي يسقط فيه دعاة النزعة الانسانوية في اوروبا. فهم امام تحولات جذرية قد تطيح دولة الرفاهية والقيم الجمهورية، امام الرأسمالية المتوحشة الزاحفة، وامام الخطاب العنصري، الذي استبدل اللاسامية بكراهية العرب والمسلمين. لكن هذا الخطاب لا يفيد، لأنه يقوّي نزعات ثقافوية دينية متعصبة، داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، كما يقوّي احساس المهاجرين العرب والمسلمين بالاضطهاد، ويفرض عليهم الحجاب كخيار ثقافي لا يمكن مقاومته.
مسألة الأقليات المسلمة في اوروبا تفرض على الدول الغربية اعادة نظر جذرية في وجود الأقليات وحقوقها. وهي مسألة جوهرية لا يمكن مواجهتها الا بشعار المساواة والمواطنة. اما ابقاء الأقليات في احزمة البؤس والفقر والبطالة، وحرمانها التعليم السوي، فلا يقود الا الى الانفجار الاجتماعي، حتى لو جرى تغطية الموضوع بعبارات التسامح، وبلغة الصدقات.
انعكاس هذه اللغة الجديدة على بلادنا يصير اسما آخر للكارثة. تعالوا نتوقف على سبيل المثال عند الاسم الذي يطلق في جميع المحافل الدولية على بلاد العرب التي تحتل الشاطئ الجنوبي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط. الأوربيون اخترعوا عبارة اوروبا- المتوسط، في مشروع بناء افق متوسطي اقتصادي وسياسي. وكان الهدف منع اطلاق الاسم الحقيقي على المشروع لأن هذا يزعج اسرائيل. فكنّي العالم العربي بالمتوسط، وتمّ اجتراح تعبير جديد اسمه الشرق الاوسط- شمال افريقيا. اذا اردت ان تتكلم عن العالم العربي في اي محفل رسمي دولي، فعليك ان تستخدم هذا الاسم، الذي يخفي هوية المنطقة الثقافية في هوية جغرافية خالية من المعنى. اي ان المحافل الدولية تمحو هوية ثلاثمئة مليون عربي، كي لا تنخدش مشاعر خمسة ملايين يهودي اسرائيلي! العجيب ان الدول العربية قبلت بهذه التسمية، لأنها لا تملك من امرها شيئا، ولأن همّ انظمتها الوحيد هو البقاء في السلطة وتوريث السلطة، فقط لا غير.
قد نسأل، ولكن ما معنى الهوية العربية؟ جوابي بسيط هو ان لا معنى لها سوى انها اسمنا، وهي لا تحمل ايّ مزايا خاصة، ولا تختلف في شيء عن ايّ هوية اخرى. لكن لا يمكن الانسان ان يرضى بالتخلي عن اسمه، حتى وإن لم يكن معجبا به، كما لا يمكن ان نسمح للآخرين بأن يطلقوا علينا اسماءنا.
الواضح ان كراهية الفكرة العربية، اي افق النهضة والتنوير والاستقلال، هي العامل الأساسي في اصرار الغرب على محو اسمنا، وهم يعلمون ان محو الهوية العربية سوف يعني استبدالها بالهوية الدينية، وهذا لا يعنيهم، لأنه يسمح للكلمات الجديدة كالتسامح والتعايش بمحو كلمتي العدالة والمساواة، بحيث يعود العالم العربي رجل الغرب المريض.
المسألة لها اسمان: النفط واسرائيل. ومن اجل تأبيد الجريمة الاسرائيلية في فلسطين، والاستمرار في الاستيلاء على النفط، تدور لعبة الأسماء، ونشهد باسم التسامح عودة الى محاكم التفتيش والحروب الدينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى