برهان غليونصفحات سورية

بين معاداة الغرب ومقاومة سياساته!

 


د. برهان غليون

 فوجئت الحكومات العربية جميعاً بالتغيير الذي طرأ على استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ونظر معظمها إلى إصرار واشنطن على القيام بإصلاحات سياسية واجتماعية لضمان الاستقرار على المدى الطويل، على أنه خطأ جسيم، ليس من منظور مصالحها فحسب وإنما من منظور مصالح الولايات المتحدة نفسها. فهو الطريق المباشر نحو زعزعة الاستقرار وربما زوال الأنظمة نفسها. وهكذا لم تتردد الحكومات العربية، رغم ما يحمله ذلك من مخاطر على مستقبلها، في إظهار الاختلاف مع واشنطن، والعمل على ثني هذه الأخيرة عن موقفها. فلم يكن الأمر يتعلق بمصالح جزئية تعني الدولة أو المجتمع ككل، وإنما بمصير الحكومات والنظم القائمة عامة. وفي أقل من سنتين نجحت الحكومات العربية، دون القيام بأي تغيير، في إقناع واشنطن بأن مشاريع الإصلاح الطموحة ليست في صالح أحد، لا حكومات المنطقة ولا الولايات المتحدة. ومع التهدئة الأمنية الحاصلة في العراق وإطلاق اجتماع “أنابوليس”، رجعت المياه إلى مجاريها أو تكاد.

 

هكذا، بفضل توافق المصالح، يمكن القول إن الحكومات العربية فهمت أميركا أكثر مما فهمت أميركا نفسها، وساعدتها على العودة إلى الطريق “الصحيح” لحفظ مصالحها، لأن هذه المصالح متضامنة فعلياً مع مصالح القوى العربية التي يستند إليها وضع النظام الإقليمي في حقبة ما بعد الحركة الشعبية القومية العربية. والقاعدة الرئيسية لهذا النظام، والحلف الأميركي العربي الذي يحمله، هي المصلحة المشتركة في تغييب الشعوب العربية عن تقرير مصيرها السياسي ونزع السيادة عنها.

 

في هذه المعركة، كما في العديد من المعارك الأخرى المتعلقة بالإصلاح والتغيير، استخدمت الحكومات العربية على مختلف اتجاهاتها، العداء للغرب لحرف انتباه الرأي العام العربي عن المشاكل والتحديات الداخلية وتوجيه نقمته نحو الخارج. وفي هذا السياق عملت ولا تزال على نشر مفهوم لهذا العداء يتجاوز رفض سياسات البلدان الغربية نحو رفض حضارتها وثقافتها وكل ما يرتبط بها وبتاريخها وهويتها. واستفادت وتستفيد من استفزازات بعض القوى العنصرية الغربية لتجعل من كره الغرب ككل وسيلة لإقامة حاجز لا يمكن عبوره بين الرأي العام ومكتسبات الحداثة السياسية والقانونية والمدنية، ولتعبئته من ورائها، وطرح نفسها ونظمها كما لو كانت قلعة الحماية من السيطرة الثقافية أو السياسية الأجنبية.

 

لا يمكن مقاومة غرب إمبريالي، نحن أول ضحاياه، إلا بغرب ديمقراطي ومسالم ومعني بالعدالة العالمية، أي من داخل الغرب ذاته!

 

هكذا نجحت النظم العربية بربطها السياسات الغربية والأميركية بثقافة الغرب وحضارته وهويته، بدل أن تنظر إليها كخيار سياسي للنخب الحاكمة، كما هو الحال مع “المحافظين الجدد” في واشنطن… في أن تحول العداء للسياسات الغربية إلى عداء للغرب، وتجعل من التعبئة ضده بديلاً عن تحليل اختيارات عواصمه، الاستراتيجية والسياسية، المتعددة، وحائلاً دون بلورة أي سياسة عربية إيجابية، أي ناجعة وفعالة، بهدف تحقيق اختراق في أوساط الرأي العام الغربي، والعمل عليه للدفاع عن مصالح العرب وحقوقهم.

 

هناك بالتأكيد أسباب عديدة تدفع الجمهور العربي إلى العداء للغرب وعدم التمييز فيه بين سياسات الدولة وثقافة المجتمع، والميل إلى تجاهل انقسام الرأي العام فيه. منها الاستخفاف بحقوق العرب وتشويه صورتهم وتسويد صفحة ثقافتهم في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة. ومنها ما نشأ على أثر تنامي حركات الارهاب المرتبطة بالمنطقة العربية، فأضاف إلى مشاعر الاستخفاف والازدراء والنظر إلى العرب كأنهم دون الجماعات البشرية المتمدنة، مشاعر جديدة قائمة على الخوف والكره وعدم الثقة، بل والرغبة في الانتقام، كما بينت ذلك حرب العراق الأخيرة، وما تفرع عنها من عمليات تنكيل ومعاملة قاسية ولا إنسانية للسجناء العراقيين وللسكان عموماً.

 

لكن مع ذلك ليس من مصلحة العرب التوحيد بين السياسات الغربية والمجتمعات التي تخضع لها، ولا اعتبار هذه السياسات انعكاساً طبيعياً لثقافتها، بل حتى لمصالحها القومية البعيدة. وكما أن من الخطأ النظر إلى الغرب، وكل ما ينتج عنه وفيه، كأنه شر أو مصدر للشر، من الخطأ الكبير أيضاً التوحيد بالمطلق بين السلطة والمجتمع في أي بلد كان. فلا يفيد ذلك إلا في التغطية على إخفاقنا في بلورة سياسات قادرة على التأثير في سياسات الدول الكبرى. فهو يخلق غولاً أسطورياً لا يمكن مواجهته، وليس لدينا خيار سوى شتمه والدعاء عليه نظرياً، والتعامل معه والخضوع له، كما هو سائد، عملياً. والحال أن الغرب ومنه أميركا ليس غولاً ولا كتلة صماء. ففيه قوى كثيرة لا تحمل بالضرورة عداء فطرياً للعرب أو للشعوب الفقيرة. وليس من مصلحتنا تغييب هذه القوى، ولا أمل لنا ببناء سياسة تضمن استقلالنا وحقوقنا تجاه الغرب، وضد سياساته العدوانية، من دون الاعتراف بها والتعامل الإيجابي معها. بل ربما كان حجم هذه القوى الديمقراطية، المتطلعة إلى عالم يسوده السلام والعدالة في الغرب، أكبر بكثير مما هو موجود في البلاد العربية نفسها. وربما كانت قدرتها على تقديم العون للقضايا العربية أضعاف ما تستطيع القوى العربية نفسها تقديمه.

 

لقد سعينا باستمرار لمواجهة الغرب وسياساته العدوانية إلى التعلق بمخلص من خارجه، مثله في حقبة أولى الاتحاد السوفييتي. ونحن نحلم بتحالف مشابه مع الصين وروسيا الصاعدتين. لكن لم نحصد من هذه السياسة فائدة تذكر، فلا تزال قضايانا جميعا معلقة، كما كانت منذ عقود، بل زادت تفاقما. والسبب أن أكثر مشاكلنا قائمة مع الغرب، ولا يمكن حلها بتجاهله أو ضده أو من دونه. كما أن جميع القوى التي راهنا وسنراهن عليها تحتاج إلى تعاون الغرب وخطب وده لضمان مصالح تتجاوزنا ولا نزن أمامها شيئاً.

 

القصد أنه لا يمكن مقاومة غرب استعماري وإمبريالي، نحن أول ضحاياه، إلا بغرب ديمقراطي ومسالم وعامل من أجل العدالة في العالم، أي من داخل الغرب ذاته. ونحن والشعوب القريبة في وضعها من وضعنا مسؤولون عن دفع الغرب إلى تبني سياسة إيجابية. ليس من خلال العمل على بناء تفاهم واسع بين الدول المتضررة من السياسات الغربية فحسب، وإنما أكثر من ذلك من خلال توثيق عرى التفاهم والتعاون مع القوى الغربية الديمقراطية ومساعدتها على التغلب على الاتجاهات الإمبراطورية والإمبريالية. لكن كي ننجح في ذلك ينبغي علينا أن نبرهن نحن أنفسنا على أننا نقدس قيم العدالة والمساواة والحرية ذاتها، وأننا نمثل شعوباً قادرة على التعامل مع العالم على أساس احترام معايير الاستقلالية والشرعية القانونية. فلا نستطيع أن نحول سياسة الغرب ونفرض عليه احترام قيم الديمقراطية العالمية دون أن نتحول نحن أنفسنا ونصبح بلداناً ديمقراطية تحترم القانون وحقوق الإنسان معاً، وبالتالي تحظى بالاحترام. وعندما أقول نحن فأنا لا أقصد البلاد العربية فحسب، ولكن جميع البلدان التي تشكو اليوم من سياسات الغرب الإمبريالية وعدوانها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى