صفحات ثقافية

حيرة العائد لمحمود درويش

null
الكتاب الذي أرغب بالحديث عنه هو كتاب للشاعر محمود درويش بعنوان (حيرة العائد) صدر مؤخراً، في حزيران 2007 عن دار رياض الريس للكتب والنشر. وهو مجموعة من المقالات المختارة، غالبية هذه المقالات هي في أصلها افتتاحيات مجلة الكرمل التي ترأس محمود درويش تحريرها لأكثر من 20 عاماً، لكنها احتجبت مؤخراً في نهاية العام الماضي. إن أردنا أن ننظر إلى تجربته في الكتابة، أختارُ هذا المقطع الذي ألقاه في احتفال خاص في مدرسة كفر ياسين في الجليل، وهي المدرسة التي درس فيها الشاعر، وقد نستطيع العثور على الإجابة في حال قرأنا هذا المقطع “من هذا المكان الجليلي ولدتُ من لغتي تدريجياً ولم أكمل ولادتي بعدُ، فلا فرد يستطيع الاطمئنان إلى جوابه الشخصي عن سؤالٍ كان جماعياً منذ البداية، منذ مأساة الاقتلاع الكبير إلى ملهاة سلام كبير لا يعتمد إلا موازين القوى مرجعيةً وحيدة. فماذا تفعل اللغة أكثر من الدفاع عن ثقافتها، عن ذاكرة جماعية ومكان مكسور وهوية، وعن عناد الأمل المحاصر بالقنوط والتشكيك؟ فما من شيء غير الخيال بقادر على إعادة تركيب الزمن المنكسر، أما الواقع فهو كالتاريخ، من صنع إرادة البشر القادرين على وضع الزمان الصحيح في المكان الصحيح”. أحببت هذا المقطع لعدة أسباب، أولاً الشاعر يرسم إلى حد كبير علاقته بالمكان، يقول “من هذا المكان الجليلي.
السيرة الذاتية للشاعر
الشاعر ولد في قرية في الجليل في فلسطين لم تعد على الخارطة، ونحن نعلم أن ما حدث في فلسطين أدى إلى كسر خارطة فلسطين إن صح التعبير. فمن طريق اللغة ومن طريق الثقافة استطاع درويش أن يرمم الخارطة المكسورة وأن يعيد المكان إلى صورته الأولى، إن أردنا، من طريق الشعر، ذلك لأن فلسطين الحاضرة في قصائد درويش ليست فلسطين إتفاق أوسلو، ولا هي فلسطين الجليل حيث ولد، وإنما هي فلسطين التاريخية كما نعرفها على الخارطة، وبما أننا نعرف أن الخارطة انكسرت بسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي لجأ الشاعر إلى اللغة من أجل ترميم المكان، ومن أجل إنشاء لغة في هذا المكان المكسور. ودرويش يعتمد إلى حد كبير على السخرية في أحيان كثيرة، والمفارقات، والنظرة السوداوية، وغالباً ما تكون الجمل طويلة، مركبة، كثيفة الاستعارات، ومشحونة بالمعاني، وأظن أن هذا ما يعطي هذه المقالات أهميتها. صحيح أن هذه المقالات نُشرت على فترات متباعدة، منذ خروج الفلسطينيين من تونس، وعودتهم إلى جزء من أرضهم، وإلى اليوم، لكن مع ذلك استطاع درويش من خلال هذه المقالات أن يعبّر عن زمنه الآني، وأن يتجاوز من طريق هذه المقالات الزمن، وأنت تستطيع اليوم أن تعيد قراءة كل هذه المقالات وتعلم أن بإمكان النثر أيضاً أن يكون مثل الشعر، غير معترف بالزمن ويمكن العودة إليه كما يمكن العودة إلى القصائد. كل المقالات جميلة، وفي هذه الحال يكون اختيار مقطع من أحد المقالات اختياراً شخصياً. يصعب علي أن أختار، لكني تأثرت كثيراً بالمقال الذي كتبه درويش عن أربعينية الراحل ياسر عرفات. فلياسر عرفات حصة أكبر من غيره في هذا الكتاب، فلنا في البداية، رثاء عرفات حين رحل، يوم رحيل عرفات، والثانية في أربعينية ياسر عرفات. ومن هذه الأخيرة اخترت هذا المقطع “أعاد ترميم الرحلة والحكاية، نجا من غارة على غرفة النوم في تونس، ونجا مرة أخرى من سقوط طائرته في الصحراء الليبية، ونجا من آثار حرب الخليج الأولى، ونجا من صورة الإرهابي واستبدلها بصورة الحائز على جائزة نوبل للسلام، وحقق نبوءته التي سكنته طيلة العمر، عاد إلى أرض ميعاده، عاد إلى فلسطين. لو كانت تلك هي النهاية لانقلبت التراجيديا الإغريقية على شروطها، لكن شارون العائد من ضواحي بيروت نادماً على ما لم يفعل، سيلاحق خصمه الكبير في رام الله، سيحاصره ثلاث سنوات، سيحوّل مقره أطلالاً، وسيسمم حياته بالحصار والعزلة، وسيحرمه من الموت، كما يشتهي، شهيداً في مقره. فإن شارون لا يحارب الشخص ونصه الوطني فحسب بل يحارب إشعاع الرمز في الزمن، ويحارب أثر الأسطورة في ذاكرة جماعية”.
إنجازات الشاعر
درويش معجب جداً بقامة السيّاب الشعرية. إن أردنا أن نتكلم عن فعل السيّاب في الشعر العربي الحديث، فهو فعلاً، هو الذي كتب القصيدة العربية الحديثة، بقطع النظر عن كل النقاشات التي تُقال، من الرائد ومن بدأ أولاً، ذلك لأن البناء المعماري لقصيدة السياب وصلابة إرثه اللغوي وقدرته النادرة على التعامل مع إيقاعات البحور العربية الشعرية وتطويعها، فهو الذي حرر بحر الكامل على سبيل المثال، إن أردنا التكلم قليلاً عن العَروض، ليس تفصيلاً هامشياً. وهو فعلاً، بدر شاكر السياب، هو أبو الشعر الحديث، ودرويش معجب به إلى حد كبير. وهذا المقال الذي قيل في الذكرى الثلاثين لرحيل السيّاب يبيّن، إلى حد كبير، إعجاب محمود درويش بتجربة السياب، سواء كان ذلك من ناحية الإيقاع أو من ناحية الولادة، التي لم تكن سهلة، ولادة الشعر الحديث، كانت إلى حد ما ولادة عسيرة، كان لا بد من التخفف من الإرث القديم، الذي بدا إلى حد ما وكأنه أصيب بإرهاقٍ جمالي، إن صح التعبير. كان لا بد من تحرير القصيدة، وقام بخطوات واسعة، بدر شاكر السياب. إلى اليوم نحن نقرؤه وننظر باحترام إلى تجربته، لأنه لم يتكئ على عنصر واحد من أجل بناء قصيدته، فهناك اللغة والإيقاع والاستناد، تارة إلى الأسطورة وطوراً إلى التجربة الذاتية، ومحاولة الربط بين الخاص والعام. هذه الناحية لا يركّز النقاد عليها كثيراً لدى السياب، لكن السياب فعلاً استطاع أن يكتب تجربته الخاصة وفي الآن ذاته أن يقدم أجوبة، إن جاز التعبير، على ما كانت تمور به المنطقة في ذلك الوقت في خمسينيات القرن المنصرم. نعلم أن النكبة الفلسطينية سنة 1948، العدوان الثلاثي على مصر، وإلى آخره من الأحداث السياسية، لم يكن السياب معزولاً، ومع ذلك نجد في قصائده الأخيرة التي كتبها أثناء المرض الصوت الذاتي والشخصي للشاعر. يُعَنوِن درويش مقاله بـ (شاعر الجميع) وهذا صحيح، ويكتب أن الكل يقرأ شعر نزار قباني، ربات البيوت والموظفين وأصحاب المهن، وهذا صحيح. نزار قباني شاعر ذو جماهيرية عالية، فعلاً استطاع أن يحوّل القصيدة إلى ما يشبه الكلام اليومي، وطعّم قصيدة الفصحى ببعض من المحكية، واشتغل على الإيقاع، وله قليل من القصائد النثرية، وهو ما يُسمى، هذا النوع من الشعر، بالسهل الممتنع. أنت تجده أو تقرؤه بالأحرى فتقول ربما بإمكاني أن أكتب مثله وأكون شاعراً، لكن من الصعب تقليد نزار قباني. لنزار قباني بصمته الخاصة التي يعرفها الناقد المختص كما تعرفها ربة المنزل، لغته الآسرة الخاصة به، وعادة ما تكون لغة الشاعر هي أهم ما يقدمه للقارئ. هناك قليل من النقد يقوم به درويش عند مقاربة تجربة نزار قباني، فهناك بعض المقاطع التي يقول، “صحيح أحياناً نزار قباني كرر واستهلك جماليات المواضيع التي طرقها”، هنا قليل من النقد، ذلك لأن محمود درويش عنده حس نقدي عالٍ، وهو عادة ما يغلّف هذا النقد بنوع من الاستعارات، أنت لا تجد ذلك النقد الأكاديمي الصارم الذي يحيل على المصطلحات، لا، أنت تجد مجموعة من الاستعارات والتشبيهات التي تقول ما هي جماليات تجربة نزار قباني وما سبب هذا الطغيان الجماهيري لشعره، ومن ناحية أخرى كيف بقيت أسئلة الحداثة معلقة عند نزار قباني، لم يستجب تماماً نزار قباني لأسئلة الحداثة. ولكن هذا رأي، يعني ليس بالضرورة أن يكون هذا الرأي هو الرأي المسيطر، فهناك قارئ لا يهتم كثيراً بمساءلة الحداثة للنص الشعري، وغيرها، وما إلى هنالك. رأي درويش بدقة في شعر نزار قباني يمكن أن نجده في هذا المقطع القصير: ” لم ينتبه للنقد، أحدث قطيعته الكبرى مع بنية الشعر التقليدي المحافظ دون أن يطيل الإصغاء إلى إغواء الحداثة وأسئلتها الفكرية”، هذه الجملة تلخص نقد درويش لشعر نزار قباني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى