صفحات سوريةياسين الحاج صالح

تقييد المظاهر والرموز الدينية… هل له معنى عام؟

null
ياسين الحاج صالح
تواترت في الشهور الأخيرة إشارات الى انشغال بال المسؤولين السوريين بانتشار ظواهر التدين ورموزه في البلاد، قبل أن يبادروا في الصيف الفائت إلى اتخاذ إجراءات موجهة نحو ضبط هذا الانتشار وتقييده. في نهاية العام الماضي كان نُسب إلى السيدة بثينة شعبان، المستشارة في رئاسة الجمهورية، كلام يفترض أنها قالته في اجتماع بعثي على “مد ديني متعصب”، وعزَتْه إلى “الفراغ السياسي الذي لا بد أن يملأه الآخرون”، وإلى “فشلنا”، نحن (مستمعيها) البعثيين. في أواخر شهر أيار الماضي رأى الرئيس بشار الأسد في حديث الى قناة تلفزيونية أميركية أن التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد هو “الحفاظ على علمانية المجتمع”. في نهاية شهر حزيران الماضي تواردت أنباء في شأن إحداث مكتب للشؤون الدينية في رئاسة الوزراء السورية. بعد حين، صدر تعميم بنقل 1200 معلمة منقّبة من التعليم إلى إدارات أخرى، البلديات بخاصة. في الوقت نفسه تقريبا نُسب إلى جهات في وزارة التعليم العالي إعلان حظر دخول المنقّبات إلى أحرام الجامعات السورية (يبدو أنه لم يُطبَّق). في أواسط تشرين الأول الجاري تواترت معلومات عن حظر الرموز الدينية في وسائط النقل. ويبدو أن هذا طاول حتى وسائط نقل خاصة، إن صح ما تناقلته مواقع إلكترونية سورية.
الواقع أن انتشار مظاهر التدين كان لافتا بالفعل في السنوات الأخيرة، وفي العالمين الواقعي والافتراضي. ويبدو أن لهذا الانتشار مفعولا مُعدِياً، نستدل عليه من تعمم إظهار الرموز الدينية، التمييزية تعريفا، بدرجة غير مسبوقة بين أوسع قطاعات السكان، وعلى تنوع منابتهم الدينية والمذهبية. لا ريب أن في هذا ما يشير إلى ارتفاع الطلب الاجتماعي على تعريف الذات بالأصل والفصل، وعلى التمايز عن غيرٍ مُعرَّف بأصله وفصله أيضاً. من شأن سير هذه العملية إلى منتهاها، أن يشكِّل عالماً من غيتوات متعازلة لا تختلط ولا تتعاطف، ولا تشكل مجتمعاً واحدا. بل التي يشعر كلٌّ منها أن “الآخرين” عبء عليه، ويتطلع إلى التخلص منه. من متابعة بعض ما يُكتب في هذا الشأن، يبدو أننا قطعنا سلفاً، شوطا لا بأس به على مستوى الانفصال النفسي، وأنهم ليسوا قلة من قد يرحبون بتعازل أوسع. في المقابل، لا يكاد يكون ثمة مقاومة علنية وعامة لهذا الميل المنتشر.
فهل يحتمل أن السلطات السورية قلقة من هذه المسارات؟ وهل تندرج التصريحات المشار إليها والإجراءات اللاحقة لها في سياق مواجهة هذه التطورات المقلقة؟ وهل يمكن نسبة معنى عام متسق إلى هذه الإجراءات؟ هل هي عناصر في سياسة متكاملة موجهة نحو قطع مسار الانفصال الاجتماعي والنفسي بين السكان، إن لم يكن نحو عكس المسار وتوسيع مساحات المشترك الوطني؟
نتشكك في ذلك مبدئياً، لسببين، أولهما نوعية أولويات نخبة السلطة، وهي موجهة نحو الأمن والبقاء الذاتي، الأمر الذي يقلل من الطاقة التي يمكن تكريسها لقضايا الاندماج الوطني، أو يقصرها على الاكتفاء بـ”الوحدة الوطنية”. وهذه سياسة سلبية تعني غياب المنازعات الأهلية، وإعطاء كل ذي حق حقه من التمثيل في مراتب الحكم غير السياسية (مع تعريف أصحاب الحقوق تعريفاً جمعياً)، وليست سياسة إيجابية موجهة نحو حقوق متساوية للجميع، مُعرّفين كأفراد ومواطنين. السبب الثاني هو المستوى الفكري والسياسي المعهود لنخبة الحكم، وعدم قدرتها على وضع سياسات اجتماعية عامة طويلة الأمد، أطول أمدا من إدارة البقاء الخاص. ومما يزكي التقدير المتشكك أيضاً، أن الإجراءات الأخيرة اعتمدت الأسلوب الفوقي والعريق في الحكم، أسلوب التوجيهات والتعميمات الداخلية، وليس المناقشات العلنية ووضع القوانين والتشريعات العامة. الأسلوب الأوامري الصامت، يحصر عموم السكان بين قوسين، بعيداً من السياسة والمطالبة والتفاوض الجماعي، ويحول بينهم وبين نسبة معنى عام إلى تلك الإجراءات، أو استخلاص عبرة مشتركة منها، أو التفاعل الإيجابي معها. لذلك فإن من المشكوك فيه كثيراً أن تعزز آلية الحكم هذه “علمانية المجتمع”. غاية ما يُنتظر منها، حفظ مظاهر “الوحدة الوطنية” اللائقة.
على أن سلسلة الإجراءات اللافتة المطبّقة في الشهور الأخيرة، تشير إلى أن السلطات قادرة فعلاً على اتخاذ قرارات تدخلية في شأن حساس، كانت تحاذره عموماً (إلا حين يشكل خطراً أمنياً). هذا التدخل يتعارض مع عقيدة هزيلة انتشرت في السنوات الأخيرة، تقول إن نظمنا الحاكمة وسياساتها انعكاس لتكوينات ثقافية وذهنية قارة، هي “البنى التحتية” المحددة لأوضاعنا العامة في مجملها. ولقد زامن انتشار هذه العقيدة الثقافوية انتشار مظاهر التدين، وكان وجهاً من وجوهه، وإن انحصر التركيز غالباً على وجه إسلامي مفترض لهذا التدين، ومع اعتبار المظاهر الأخرى “ردود فعل” عليه. لعل مما سهّل انتشار هذا المعتقد الرث، ما يضمره من أن العامة هم السادة المقرِّرون حقيقة لأوضاع البلاد، فيما نخبة الحكم ضحية لعقليتهم الدينية المتخلفة، أو تكاد. وتتكثف الخلاصة السياسية لهذه العقيدة في عبارة أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن.
على أن سلسلة الإجراءات تلك تتعارض أيضاً مع تقدير كنتُ عبّرتُ عنه غير مرة في العام الأخير، يفيد أن نوعية أولوية النظام العليا تعطّل قدرته على التدخل المنظم في الميدان الاجتماعي الديني. لا يسعه المجازفة بتنفير قلوب يحتاج بالأحرى إلى تأليفها. هذا التقدير غير مرن على الأقل. من الواضح أن هناك تدخلاً قوياً اليوم، وأن “الأولوية العليا” المفترضة لم تمنع هذا التدخل في شأن يثير حفيظة قطاعات اجتماعية دينية، وكنت أقدّر أن السلطات أحرص من أن تثير حفيظتها. هذا كله من دون وجود ما يوحي باتصال الأمر بأخطار أمنية، ليس من عادة النظام التساهل في شأنها. الظاهر أن هذه الإجراءات مرّت بسلاسة، بل لقد كان صوت تأييدها أعلى من صوت التحفظ عنها أو الاعتراض عليها.
على أن ذلك كله لا يمس في ما نرى، وجاهة التشكك في اندراج الإجراءات الحكومية في إطار سياسة أوسع وفي إمكان نسبة معنى وطني عام لها. هذا بينما من شأن ذلك فقط، السياسة الأوسع والمعنى العام، أن يسوّغ تأييد تلك الإجراءات ويضمن أن يكون لها مردود تحريري وعلماني. فإن كان لتلك الإجراءات أن تثمر، فلا بد من التنشيط السياسي للمجتمع، بما يمكّن قطاعات منه من مقاومة التطرف الديني والطائفي، مع كون الدولة ذاتها حليفاً في هذه المقاومة. لكن هل هذا ممكن من دون المساس بالتطرف السياسي المتأصل في هياكل ممارسة السلطة في البلد، وتحديداً في مثابرتها على إنكار الأهلية السياسية للمجتمع ككل؟ ومن دون مساءلة “الأولوية العليا”، وربما إثارة نقاش حول الجمهورية والمواطنة وقيمهما المفترضة؟
أكثر من التنشيط السياسي، يلزم التنشيط الثقافي. وهذا أشدّ إلحاحاً بعدُ حيال شؤون تتصل بالأديان والهويات والانتماءات. المجتمع الناشط ثقافياً، يرتفع فوق “الثقافة الطبيعية”، أو ثقافة الكفاف الدينية والمذهبية، المسكونة بالرموز والعلامات التمييزية، لا بالمعاني والمفاهيم والقيم المشتركة. في “الثقافة الطبيعية” يشيع أن تتحول المفاهيم والقيم ذاتها رموزاً وعلامات تمييز، وتتغلب الوظيفة الرمزية التمييزية للثقافة على وظائفها المعرفية والعملية العامة. إنها سمة البيئة التي يرتفع فيها الطلب على التمايز عن الغير والهويات الخاصة، وتبدو الثقافة جانحة إلى الالتحاق بـ”الطبيعة”، لتتشكل الثقافات الطبيعية، القبلية والطائفية وأشباهها. هذه بيئة مدفوعة دفعاً نحو “المظاهر والرموز الدينية”، وبعيداً من المفاهيم والقيم العامة. التنشيط الثقافي، وبمشاركة لا بد منها من الدولة، هو ما يُعوَّل عليه من أجل الاستقلال عن ثقافة الكفاف الطبيعية، وتشكل ثقافة “كمالية”، وطنية وعامة ومفتوحة الآفاق. لكن هنا أيضاً يثور التساؤل في شأن ما إذا كان يمكن السلطات أن لا تشهر مسدسها حيال أي مظاهر تنشيط ثقافي ومعنوي لا بد أن تكون قاعدة نشوء سلطات اجتماعية وحصانات مستقلة. لعلها ستجد في المظاهر والرموز الدينية، التمييزية حتما، البديل من ثقافة تقترن دوما بالتفكير النقدي والمساءلة العامة والاستقلالية السياسية والأخلاقية.
فهل يحتمل أن الإجراءات المعنية تندرج في سعي منظّم إلى فرض سلطة الدولة في وجه أي سلطات فرعية محتملة، دينية أو غير ذلك؟ تواردت حديثاً معلومات عن حملات واسعة للقبض على مطلويين وخارجين على القانون، مع كميات من المخدرات والأسلحة. فرض سلطة الدولة أمر مرغوب وضروري من وجهة نظر المصلحة الوطنية. لكن هل نستطيع، هنا أيضا، ألا نتساءل عن إمكان بلورة سياسة عامة في هذا الشأن؟ عن فرض سلطة الدولة العامة على الأقوياء، وليس على الضعفاء وحدهم؟ عن فرضها من دون استثناءات تلغي أي مفعول عام لها؟
وعما إذا كان ثمة أيّ مسوغات ليتخلّى المرء عن تشككه، من دون مجازفة منه بالسقوط في السذاجة؟ ¶
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى