صفحات مختارة

هل حقاً ستنهار دبي؟

شامل العظمة*
كثرت في الآونة الأخيرة التحليلات والتوقعات بشأن تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على دبي وعلى انعكاس الأزمة على النموذج الاقتصادي المثير للجدل لهذه الإمارة الصحراوية. قراءة بسيطة للمقالات والدراسات التي تطرقت إلى هذا الموضوع تظهر لنا بوضوح انقسام المحللين إلى فريقين، أولهما يرى أن تأثر دبي بالأزمة الاقتصادية العالمية تأثر محدود وعابر وأن هذه المدينة ستنفض غبار الأزمة وتتابع مسيرة ما يعتبره بعض أنصار هذا الرأي «معجزة دبي الاقتصادية». أما الفريق الثاني، فيرى أن دبي تشهد اليوم بداية نهايتها وأن الأزمة العالمية ستجلب انفجار «فقاعة دبي» لتبرهن أن صعود هذه المدينة لم يكن سوى «مقامرة عملاقة»، كما اعتبر كريستوفر دايفيدسون («الأخبار»، 26 أيلول).
تشوب هذا النقاش مشكلتان أساسيتان. الأولى هي خلط التحليل بالأمنيات. فالرافض للنموذج الاقتصادي ــــ القيمي لدبي (جنة الأثرياء، المعاملة السيئة للعمال المهاجرين، الخ) يتبنى بصورة كاملة التحليل المتنبئ بالانهيار السريع للمدينة. في المقابل، يسارع المؤيد أو المستفيد من نموذج دبي الاقتصادي إلى نفي توقعات الانهيار وتأكيد مناعة المدينة في مواجهة الأزمة العالمية، متهماً «منظري الانهيار» بالحقد والغيرة من نجاح هذه المدينة. المشكلة الثانية، وهي أكثر منهجية، أنه يغيب عن هذا النقاش أي إجابة عن سؤال: ما هي دبي؟ وما سبب صعود هذه المدينة الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة؟ من البديهي أنه دون الإجابة عن هذا السؤال ودون فهم لنموذج دبي الاقتصادي ولموقع المدينة في التشابكات الاقتصادية الإقليمية والدولية، فإنه من المستحيل تحليل تأثر دبي بالأزمة الاقتصادية العالمية.
نقطة البداية إذاً لتحليل تأثر دبي بالأزمة العالمية تكمن في تحليل موقع دبي في النظام الاقتصادي العالمي وفهم عوامل صعود هذه المدينة في العقدين الأخيرين. للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من أن نلقي بعض الضوء على التغيرات الاقتصادية التي شهدها العالم خلال العقود الأخيرة، وعلاقة هذه التغيرات بصعود دور بعض المدن كمراكز ربط وتحكم ضمن النظام الاقتصادي العالمي.
مع بداية النظام الرأسمالي ومن ثم توسعه السريع بتأثير الثورة الصناعية، كان هذا النظام قائماً على تقسيم دولي للعمل تحتكر بموجبه دول المركز الصناعية (أوروبا ومن ثم الولايات المتحدة ومن ثم اليابان) أنشطة معالجة الموارد الطبيعية وتطويرها للاستخدام البشري (الأنشطة الصناعية) تاركة لدول الأطراف النامية دور توريد المواد الأولية والمدخلات للدول الصناعية. لضمان هذه العملية وضبطها، عملت دول المركز على «ضم» الدول الطرفية إلى النظام الرأسمالي العالمي بمركزه الأوروبي (سواء حصل هذا الضم باستخدام القوة أو من دونها). كان لهذا التوسع الرأسمالي من المركز إلى الأطراف تأثير كبير في الوظيفة الاقتصادية لمراكز التوطن البشري في دول الأطراف، فتحولت المدن الأساسية في هذه الدول من مراكز اقتصادية ــــ سياسية محلية إلى نقاط ربط اقتصادي ــــ سياسي بين الدولة الطرفية ودولة المركز. في كثير من الأحيان، تطلب هذا التحول تدمير المراكز المدينية ــــ الاقتصادية التقليدية وإنشاء مراكز جديدة تناسب متطلبات الوظيفة الاقتصادية الجديدة للمناطق الطرفية (المدن المرفئية، مدن قريبة من مناطق تمركز السلع الاستراتيجية، مدن على خطوط النقل الأساسية، الخ). عدد كبير من مدن آسيا، أفريقيا، وأميركا الجنوبية تأسست أو توسعت في هذا السياق (بعض الأمثلة: أبيدجان، لوساكا، بوينس آيرس، ليما، ريو دي جانيرو، هونغ كونغ، سنغافورة).
بالطبع ليس هناك شيء جديد بنيوي في هذه العملية. فقراءة تاريخ المدن تظهر لنا أن أي توسع جغرافي ــــ اقتصادي يخلق ديناميات مماثلة وأن تغير الوظيفة الاقتصادية لمنطقة معينة ينعكس مباشرة على البنية المدينية لهذه المنطقة (الإسكندرية على سبيل المثال أسست من قبل الإسكندر المقدوني الذي رأى أن موقع المدينة يمثل نقطة ربط جيدة بين اليونان ومنطقة وادي النيل).
تاريخياً، كان تأثر منطقة الخليج العربي بمثل هذه التحولات محدوداً نسبياً. فالأنشطة الاقتصادية في المنطقة كانت تدور حول صيد الأسماك واستخراج اللولؤ والتجارة (مع الهند بصورة خاصة). اندماج منطقة الخليج العربي الاقتصادي مع دول المركز الرأسمالي بقي محدوداً بصورة عامة رغم أهمية المنطقة السياسية ــــ العسكرية. اكتشاف النفط في هذه المنطقة أدى إلى تغير كامل في هذه المعادلات. فالنفط أعطى منطقة الخليج العربي أهمية استراتيجية اقتصادية غير مسبوقة. انعكس هذا الدور الاقتصادي غير المسبوق على أنماط التوطن البشري في المنطقة وعلى البنى المدينية ــــ الاقتصادية فيها. تدريجياً، ازدادت الحاجة الى مراكز الربط الإقليمية ــــ الدولية وإلى مراكز التبادل التجاري مع البلدان المتقدمة اقتصادياً. دبي، وبحكم تاريخها التجاري وبناها السياسية والاجتماعية، كانت قادرة على تقديم نفسها كأحد هذه المراكز (لا أهمية هنا للجدل المضحك الذي يكرر دائماً أن دبي لا تمتلك نفطاً، فالأهمية هنا لا لما تمتلكه المدينة بحد ذاتها بل ما توفره من عوامل جذب لوظائف الربط الإقليمي ــــ الدولي. قلة من المدن التي أسسها الأوروبيون في أميركا الجنوبية مثلاً امتكلت الموارد الطبيعية التي أرادها الأوروبيون، بل هي امتلكت عوامل جغرافية تمكنها من لعب دور حلقة الربط في تجارة هذه الموارد ونقلها).
قصة دبي لا تنتهي طبعاً هنا. فالمدينة ليست فقط مركز ربط لتجارة النفط، بل توسع دورها ليشمل قطاعات صناعية وخدمية أخرى. فهم هذا التوسع يتطلب مرة أخرى العودة إلى التحولات التي طرأت على النظام الاقتصادي العالمي.
خلال العقود الثلاثة الماضية شهد النظام الاقتصادي العالمي تغيرات كبرى. أحد أهم هذه التغيرات كان ما يسميه المختصون تفكك شبكات الإنتاج العالمية، أي انتقال جزء من الأنشطة الاقتصادية من دول المركز إلى دول الأطراف. هكذا، لم تعد الصناعات حكراً على الدول المتقدمة، بل نجحت العديد من دول الأطراف في دخول قطاعات اقتصادية جديدة أحياناً بتشجيع من دول المركز نفسها (الأجزاء الملوثة للبيئة أو الأجزاء المنخفضة القيمة المضافة). هذا لا يعني أن دول الأطراف نجحت في الوصول إلى موقع متكافئ مع دول المركز. فالوظائف الاستراتيجية التي تتحكم بهذه الأنشطة المتبعثرة والوظائف ذات القيم المضافة العالية ما زالت
أهمية دبي لا بما تمتلكه من نفط، بل بما توفره من عوامل جذب لوظائف الربط الإقليمي ـــ الدولي

متمركزة في الدول المتقدمة. فبينما تملك الشركات المتعددة الجنسيات (مع التحفظ على التسمية) فروعاً ومصالح في أنحاء العالم، فإن وظائف الإدارة العليا والوظائف المالية الأساسية وأنشطة البحث العلمي وغيرها من الوظائف الاستراتيجية لا تزال متمركزة بصورة شبه مطلقة في الدول الكبرى. هذا التغير أدى لما عرف باسم «التقسيم الدولي الجديد للعمل»، وبموجبه تختص الدول المتقدمة بالوظائف الاستراتيجية ذات القيمة المضافة العالية، بينما تنقل هذه الدول مراحل الإنتاج المنخفضة القيمة (عمليات التجميع البسيطة، المراحل المنخفضة المكون التقني، المراحل الكثيفة العمالة، الخ) إلى عدد من الدول النامية التي وفرت بيئة جيدة لاستضافة هذه الأنشطة (وتحديداً في منطقة شرق شرق آسيا وجنوبها).
عملية انتشار الأنشطة الاقتصادية هذه أدت إلى تعقيد غير مسبوق في هيكلية النظام الاقتصادي العالمي. فمعظم السلع والخدمات تنتج اليوم في شبكات إنتاج معقدة تضم العديد من الدول والمناطق المتباعدة جغرافياً. هذا التوسع الجغرافي لشبكات الإنتاج أدى إلى ازدياد الحاجة إلى وظائف الربط والتحكم الإقليمي من أجل الإشراف على هذه الشبكات وربطها بعضها ببعض من جهة، وبالمركز الرئيسي من جهة أخرى (وهو غالباً إحدى الشركات العالمية الكبرى). هذا التحول أدى إلى زيادة الحاجة إلى مراكز ربط وتحكم إقليمي تحتضن الإدارات الإقليمية وبعض الوظائف المالية ووظائف الربط بين السوق الإقليمي والإدارة المركزية. هذه الحاجة خلقت فرصة لمدن الربط التجارية التقليدية لتوسيع دورها وتنويع الأنشطة الاقتصادية التي تستضيفها. هكذا، شهدت العقود الأخيرة صعوداً غير مسبوق في دور بعض هذه المدن كسنغافورة، هونغ كونغ، ودبي، لتمثل هذه المدن ما اصطلح على تسميته باسم «المدن البوابات» (gateway cities).
دبي ليست مقامرة، وليست بالتأكيد معجزة. هي مدينة تطورت وتوسعت في إطار جغرافي ــــ اقتصادي معين. انهيار النموذج الاقتصادي لهذه المدينة أمر ممكن، ولكن فقط في حالة انتفاء الحاجة إلى الدور الاقتصادي للمدينة، إما بسبب تغير النظام الاقتصادي العالمي نفسه أو في حالة فشل المدينة في مواكبة الاحتياجات دائمة التغير لعالم اقتصادي شديد الديناميكية.
* اقتصادي سوري
الاخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى