صفحات ثقافية

الأدب الذي يصنعه القراء

null
اسكندر حبش
هل امتلك الأدب، أو لنقل الرواية المعاصرة نسقا «رسمياً» ما، أصبح من الصعب علينا الخروج منه وعليه، ليشكل بذلك مثالا «يحتذى»، إن لم نتبعه، فقد تسقط كل التجارب التي حاولناها في ما مضى؟ بمعنى آخر، هل بات الأدباء يخشون التجريب المستمر حتى يتراجعوا في النهاية بشكل من الأشكال عمّا كتبوه، في الماضي، ولينساقوا في أعمالهم الجديدة، لما تريد لهم «السوق» أو «دور النشر»، وإلا فلن يجدوا قراء محتملين، أو على أقل تعديل، لن يجدوا ناشرين لأعمالهم الجديدة؟
لا شكّ في أن الأدب قد تحول إلى «مؤسسة» ضخمة، لم تعد معه الأفكار أو الأسلوب المبتكر هو المعيار الوحيد الذي يقودنا إلى قول ما نرغب في قوله، بل أصبحت المؤسسة الاقتصادية، المتمثلة في دار النشر وفي القراء الذين يزيدون عدد النسخ المبيعة من أي عنوان يصدر، هم المرجع الوحيد الذي نحتكم إليه.
أمر لا بد من أن تكون له آثاره السلبية، لأنه سيحد من قوة هذه الطاقة البشرية في الذهاب إلى أماكن قصية من الحلم واللغة والمتخيل والتجريب، التي لولاها، لما كان هناك في الأساس، كل هذا الذي ندعوه فنا، ولنتوقف عند حدود ينبغي أن تكون في الأساس، آخر حدود نفكر فيها.
أفكر في هذا كله، بعد أن بدأت منذ أيام، قراءة رواية الكاتبة الفرنسية فيرجيني ديبانت الأخيرة، التي تحمل عنوان «القيامة الطفل»، لأعترف منذ البداية، بأنني أحببت كتبها السابقة وبخاصة روايتها «ضاجعني» التي أفردت لها مكانا ضمن ركام الروايات الفرنسية التي تصدرها الدور «الرسمية» الباحثة عن جوائز في مطلع كل موسم أدبي. روايتها هذه، جاءت من مكان يختلف عمّا يكتب اليوم، إن من حيث لغتها القاسية والفجة التي تحاول أن تعيد صوغ العديد من التعابير العامية الواقعة في قلب عصرنا، أي في قلب حياتنا اليومية، وإن من حيث مناخها العام الذي يمارس قطيعة حقيقية مع أدب الصالونات وأناس المجتمع الذين يتبجحون، في اجتماعاتهم، بمتابعتهم «الدقيقة للأدب». رواية أثارت منذ سنين، العديد من النقاشات في الساحة الأدبية الفرنسية، التي لم تقف معها، بل حاولت أن تهاجم صاحبتها. لكن الكاتبة يومها عرفت كيف تدافع عن عملها، لدرجة أنها حولته إلى فيلم سينمائي، أثار بدوره العديد من النقاشات.
بعد فترة من الصمت الجزئي، تعود ديبانت برواية جديدة، لتدخلنا تفاصيل عوالمها التي اعتدنا عليها، بيد أن الأسلوب، يفترق عن أسلوبها السابق، ليقترب من «كلاسيكية» ما، لم نعهدها في أعمالها السابقة. هل هو الخوف من هذه المؤسسة التي تلفظ الكتاب المختلفين عنها إلى خارج الحضور الإعلامي؟
كل شيء ممكن. لكن «غير الممكن»، أن يتخلى الكاتب عن هذه الفرادة التي حفرت له مكانته، ليلتحق بركب الدور الكبيرة التي تبحث عن أدب «مقبول»، كل همه أن يترشح إلى الجوائز وأن يكون مقبولا من القراء. من قال إن القراء يصنعون أدبا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى