صفحات ثقافيةعمر قدّور

الغناء العربي وتأنيث “الأقليات”

null
عمر قدور
قد يتذكّر البعض قراءة الشاعر نزار قبّاني لقصيدته “قارئة الفنجان” في إحدى الأمسيات، بعد رواجها كأغنية بصوت “عبد الحليم حافظ”. في قراءته لنصّه يتلوه كالمعتاد إلى أن يصل إلى الجملة التي تمّ غناؤها على هذا النحو: “يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب”. يقرأ نزار الجملة كما وردت في النصّ الأصليّ بنبرة منبّهة ومؤكِّدة: “يا ولدي قد مات شهيداً من مات على دين المحبوب”. لكنّ تأكيد نزار لن يبقى في أذهان الكثيرين، على العكس من الأغنية التي تُذاع مراراً وتكراراً، وعلى ذلك فسيتغلّب أن يموت العاشق فداء للمحبوب لا على دين المحبوب.
بالمثل؛ على الأرجح لم يكن الشاعر اللبنانيّ بشارة الخوري “الملقّب بالأخطل الصغير” (1) يتوقّع الانتشار الواسع الذي حظيت به قصيدته “عش أنت”، ومن المؤكّد أنّه لم يكن يتوقّع التحريف الذي سيطرأ على النصّ مع تلحينه وتحوّله إلى أغنية ذائعة الصيت، وبحيث طغى التحريف على الأصل. ومن المعلوم أنّ القصيدة باتت واحدة من أشهر أغاني المطرب “فريد الأطرش”، وقد تطلَّبَ غناؤها تعديلاً بسيطاً، لكنّنا نراه جوهريّاً في مؤدّاه الثقافيّ العامّ، ولا بأس باسترجاع جزء النصّ كما ذاع بعد غنائه:
عش أنت، إنّي متُّ بعدك، وأطِلْ إلى ما شئتَ صدّكْ
ما كان ضرَّكَ لوعدلتَ، أما رأت عيناك قدّك؟
أنقى من الفجر الضحوك فهل أعرتَ الفجر خدّك
وأرقّ من طبع النسيم فهل خلعت عليه بردك
وألذّ من كاس النديم فهل أبحتَ الكأس شهدك
وحياة عينيك وهي عندي مثلما (الأيمان) عندك
ما قلب أمّك إن تفارقها ولم تبلغ أشدّك
فهوت عليك بصدرها يوم الفراق لتستردّك
بأشدّ من خفقان قلبي يوم قيل: خفرت عهدك.
تنصيص كلمة “الأيمان” وتمييزها هما من قبل كاتب هذه السطور، وبوسع قارئ النصّ أن يتبيّن خروج هذه الكلمة عن سياق النصّ، وبما يتنافى مع البراعة والانسجام اللذين ميّزا نصوص الشاعر عموماً. أمّا الذين يعرفون النصّ الأصليّ فسيلاحظون الفارق بين كلمة “الأيمان” الواردة في الأغنية وكلمة “القرآن” الموجودة في الأصل. “وحياة عينيك وهي عندي مثلما القرآن عندك”؛ هكذا يعود الانسجام إلى النصّ، إذ لا يخفى أنّ الشاعر مسيحيّ وأنّ المحبوب المخاطَب امرأةٌ مسلمة، ومن المنطقيّ وهويقسم بعينيها أن يقارنهما بما يعتقد أنه أقدس ما عندها، على العكس من كلمة “الأيمان” المائعة الدلالة والتي يتّضح بقليل من التفكير أنّها دخيلة على النصّ.
غير أنّ التساؤل الذي قد يرد إلى الذهن عن السبب في حذف كلمة القرآن واستبدالها بكلمة الأيمان، ما دامت كلمة القرآن لا تأتي في سياق ينال من قدسيّتها لدى جمهور المسلمين، خاصّة أن الفترة التي ظهرت فيها الأغنية لم تشهد التيّارات الأصوليّة والتكفيريّة التي نشهدها الآن. وسيكون من الضروريّ هنا أن نأخذ بالحسبان الفارقَ بين النصّ الشعريّ والأغنية؛ فالأول مهما بلغ من الانتشار يبقى مقصوراً على نخبة من المتلقّين، بينما تتوجّه الأغنية إلى الجمهور بالمعنى العريض للكلمة، وتقوم صناعتها في غالبيّة الأحيان على مراعاة الحساسيّات المفترضة له، وقد لاحظنا كيف لم يكن مستساغاً أن يموت العاشق على دين المحبوب لأنّ المعنى يحتمل أن يكون ديناً غير الإسلام. إزاء هذه الاعتبارات نفهم أنّ العقل السائد لا يتقبّل فكرة غرام رجل مسيحيّ بامرأة مسلمة، وعلى الرغم من هامشيّة الإشارة إلى معتقد المرأة ضمن النصّ إلا أنّ انتماء الشاعر الدينيّ كان كفيلاً بإزالة كلمة القرآن واستبدالها بكلمة عموميّة الدلالة.
للمقارنة مع ما سبق بوسعنا التفكير في نصّ غنائيّ شهير آخر تقول كلماته:
“سمراء من قوم عيسى
من أباح لها قتل امرئ مسلم قاسى بها ولها؟
أردت بيعتها أشكوالقتيل لها
رأيتها تضرب الناقوس
قلت لها: من علّم الخود ضرباً بالنواقيس؟!
ناديتها: يا مها، الله يلهمك وصلي فكُفّي النوى
إنّي متيّمك.
قالت: فلا.
قلت أنّ الوجد يؤلمك.
وقلت للنفس: أيُّ الضرب يؤلمك؛ ضرب النواقيس؟
أم ضرب النوى فيك؟”
النصّ السابق يؤدّيه المطرب العراقيّ الراحل “ناظم الغزالي”، وكما نرى يحضر فيه الآخر غير المسلم بوضوح شديد ودون أدنى حرج، وقد نسترجع نصّاً غنائيّاً آخر يؤدّيه أيضاً المطرب العراقيّ “سعدون الجابر”، فيخاطب النصّ المحبوبة التي تحمل اسم “ياردلي” بقولٍ يشوبه التسامح: صومي خمسينك وأصوم ثلاثيني.. أنت على دينكِ وأنا على ديني. وفي الحالتين، كما في أغانٍ أخرى أقلّ ذيوعاً، لا نلمس حرجاً في أن يكون المحبّ مسلماً وأن تكون المحبوبة مسيحيّة، بينما نجزم على نحوقاطع بعدم وجود أيّ أغنية معروفة يتغنّى من خلالها رجل مسيحيّ بحبّه لمسلمة، وقد رأينا التحريف الذي تعرّض له نصّ بشارة الخوري مع أنّ الدلالة فيه متوقّفة على اسم الشاعر وحسب.
لا ينفصل الغناء عن الوجدان العامّ السائد، بل يكاد يكون أقرب الفنون إلى تلمّسه والتعبير عنه، لذا يتوجّب علينا قراءة الأمثلة السابقة في إطار السياق الثقافيّ العامّ دون إغفال الخصوصيّات التي ينفرد بها كلّ مجتمع، وربّما يكون العراق وبلاد الشام هما الأغنى من بين المجتمعات العربيّة على صعيد التعدّد الدينيّ والإثنيّ. لن نحتاج هنا إلى التأكيد على أنّ الغرام المختلط ليس بالحالة السائدة في المجتمعات العربيّة، خاصّة عندما يخرج الغرام إلى العلن بالزواج أوغيره، بل إنّ اختلاف المذاهب ضمن الدين الواحد قد يقف عائقاً أمام حبيبين. هذه المحصّلة لا تعني وضع الأديان أوالمذاهب أوالإثنيّات على قدم المساواة، لأنّ ما تبيحه الأكثريّة العدديّة لأفرادها، وهي في أغلب البلدان العربيّة أكثريّة عرقيّة مذهبيّة في الوقت ذاته، يفوق ما هومتاح للأقلّيّات الدينيّة أوالإثنيّة، وحتّى مع تشابه السلوك بين الأكثريّة والأقلّيّة في هذا المضمار ينبغي علينا التمييز بين آليّات الهيمنة التي تحكم سلوك الأكثريّة العدديّة والآليّات الدفاعيّة التي تحكم سلوك الأقلّيّات.
نعلم أنّ الثقافة التي تعتمد المعيار الجمعيّ والكمّيّ هي المنظومة ذاتها التي تزدري النساء، فالتفاضل القائم بين أكثريّة وأقلّيّة عدديّة ينبع من الجذر المعرفيّ الذي يقيم التفاضل بين النساء والرجال، وهذه التراتبيّة هي سمة العقل المشترك بين الأقلّيّة والأكثريّة، حتّى مع تضرّر الأولى منها. لا الأكثريّة ولا الأقلّيّة تنظران إلى الفرد بوصفه فرداً، فكلّ منهما تنظر إليه بوصفه رقماً في جماعتها؛ الأكثريّة تراه فائضاً كمّيّاً يعزّز هيمنتها، والأقلّيّة تراه بمعيار الخسارة المزدوجة لأنّ فقدانه يزيد من الفجوة العدديّة الحاصلة أصلاً؛ الأكثريّة لا تسمح بخروج عضوعنها لئلا تصبح سابقة تفتح الباب أمام غيرها، والأقلّيّة تنظر بريبة إلى جوارها العدديّ الذي يهدّدها بالتآكل والانقراض!.
المرأة لدى الجانبين بمثابة الحاضنة التي تنتج أرقاماً جديدة، ولا بدّ أنّ نتذكّر الجذر الدينيّ الإسلاميّ؛ فالإسلام يبيح للمسلم الزواج من امرأة غير مسلمة ولا يبيح للمسلمة الزواج من رجل غير مسلم، وتعليل ذلك أنّ زواج المسلمة من غير المسلم ينجب أولاداً غير مسلمين. لكنّ الجذر الإسلاميّ لا يكفي وحده لتبرير السلوكيّات المذهبيّة، بما أنّ المشكلة قائمة بين المذاهب الإسلاميّة ذاتها وبين المسلمين من إثنيّات مختلفة وإن جمعهما مذهب واحد، إلا إذا رفعنا الفوارق بينها جميعاً إلى مرتبة الاختلاف الدينيّ القاطع. في كلّ الأحوال بوسعنا تشبيه انتقال المرأة من طرف إلى آخر بغنيمة الحرب، الحرب الصامتة بين الطوائف، وإذا كانت الأكثريّة تتغنّى بغنائمها، أو”سباياها”، فالأقلّيّة لا تجرؤ على النيل منها وجلّ اهتمامها هوالحفاظ على أعضائها من تعدّي الأكثريّة، لذا تبدوالمرأة المنتمية إلى بعض الأقلّيّات عزيزة المنال لمن هم خارجها.(2)
ليس من باب المغالاة أن نشبّه تَقبّلَ غرام المسلم بغير المسلمة، وعدم التسامح مع العكس، باستباحة الأكثريّة للأقلّيّة، فالوجدان الجمعيّ الذي يطرب لأغنية “يشبّب” فيها مسلم بمسيحيّة، ويستثير حفيظته أن يحبّ مسيحيّ مسلمة، لا يمكن عدّه وجداناً مناصراً للحبّ، وليس من قبيل المغالاة أيضاً أن نرى في ذلك تعبيراً عمّا يمكن تسميته “تأنيث الأقلّيّات”، أي جعلها في موقع الضعف والاستباحة أسوة بالموقع الذي توضع فيه النساء وفق هذه الثقافة. ولعلّ أغنية ناظم الغزالي المذكورة آنفاً تفصح عن النظرة المركّبة إلى الآخر وإلى المرآة في آنٍ؛ “من علّم الخود ضرباً بالنواقيس؟!”، ثمّ “وقلت للنفس أيُّ الضرب يؤلمك؛ ضرب النواقيس؟ أم ضرب النوى فيكِ؟”؛ فالنصّ ينكر على المرأة “المفترض أنّها المحبوبة” أن تؤدّي طقساً من طقوس دينها، بل إنّ هذا الطقس ربّما يكون ضرباً يؤلم النفس! ثمّ إنّ استهلال النصّ يشفُّ عن التراتبيّة الجمعيّة؛ “سمراء من قوم عيسى من أباح لها قتل امرئ مسلم؟”، وكأنّنا أمام ابن القبيلة الأقوى الذي يستكثر على ابنة القبيلة الأضعف أن تجعله يقاسي الوجد حتى وهويشبّب بها.
لا يقتصر ما سبق على الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة، وضمن نطاق كلّ مجتمع محلّيّ نلحظ ظاهرة مشابهة أقلّ شيوعاً على المستوى العامّ، وعلى سبيل المثال ثمّة أغانٍ شعبيّة على أطراف منطقة الجزيرة السوريّة ذات التواجد الكرديّ الكثيف نسمع فيها تغزّلاً بالمرأة الكرديّة بما يشبه السياق الذي رأيناه في أغنية ناظم الغزالي. كما أنّ فكرة “تأنيث الأقلّيات” تجد مجالاً خصباً في المرويّات الشفاهيّة الشعبيّة أوالنكات، فنرى ابن الأقلّيّة الذكر يصوّر كذكر خارج الذكورة؛ حيث يغلب على صورته النمطيّةِ الضعفُ واللينُ والنعومة.
عندما نتحدّث عن الغناء العربيّ على وجه العموم فهذا لا ينفي الخصوصيّات المحلّيّة، لكنّ الغناء يمتاز بقدرته الكبيرة على اجتياز الحدود بين المجتمعات، ولأنّ قضيّة الانتشار هي قضيّة حاسمة فمن المنطقيّ أن يؤخذ أكبر قدر من الحساسيّات العامّة بالحسبان وهذا هوشأن الفنّ عموماً، بل إنّ هذا المناخ العامّ لا يخلومن تأثير على بعض الخيارات الشخصيّة المتصلة بما سبق، فأحد المغنّين قام بتبديل اسمه من “طوني” إلى “زين” عندما بدأ رحلة الانتشار خارج بلاده، والقلائل يعرفون أن الاسم الأصليّ لسميرة توفيق هو”سميرة كريمونة”، وثمّة ممثّلة نراها في أعمال لبنانيّة وسوريّة باسم “ليز سركيسيان” ونراها في أعمال مصرية باسم “إيمان”، وفي الواقع قد يكون الاسم الفنّيّ بمثابة مخرج لائق تُراعى من خلاله حساسيّة المجتمعات العربيّة الأكثر محافظة أوتعصّباً، وإذا كنّا قد رأينا ما فعلته الحساسيّة المصريّة بنصّي بشارة الخوري ونزار قبّاني، أيّام كانت القاهرة مركز الثقل الفنّيّ العربيّ، فإن الخشية تزداد مع الهيمنة المتعاظمة لرأس المال النفطيّ على إنتاج الأغنية العربية ما قد يؤدّي بغالبيّة الفنّانين إلى الالتحاق بآخر القافلة!.

الهوامش:
1- هذا اللقب بحدّ ذاته ذودلالة، فالأخطل “الكبير” كان مسيحيّاً أيضاً.

2- يتعلّق هذا الكلام باللاوعي الجمعيّ، وأحياناً بالوعي الجمعيّ، لكنّ غرام حبيبين مع اختلاف الدين أوالمذهب أوالإثنيّة يبقى شأناً فرديّاً لا يندرج في إطاره، بل إنّه بمثابة الخروج عن السائد الذي نقرأه.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى