صفحات سورية

هل توقف المحكمة الإغتيالات؟

خالد غزال
بعد أربع سنوات على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد أكثر من عام على إقرار مجلس الأمن إنشاء محكمة دولية للنظر في هذا الموضوع، جرى في الأول من آذار من هذه السنة الإفتتاح الرسمي لأعمال المحكمة، وذلك عبر احتفالية دولية متواضعة، وصخب لبناني من فريق سياسي، مبشراً باقتراب القصاص من الذين تسببوا في اغتيال الحريري ورفاقه.بعيداً عن الإحتفالية السائدة اليوم لبنانياً، من المفيد رؤية حدود الإنجاز الذي قد تصل اليه المحكمة، وحدود العدالة المنشودة، مقترناً ذلك بتساؤل عن التسويات والصفقات التي قد ترافق أعمال المحكمة، والآثار اللبنانية الداخلية المترتبة على كل تقدم تحرزه التحقيقات وما ينتج منها من اتهامات، وصولاً الى سؤال الأسئلة عما يمكن أن ينجم عن أعمال المحكمة من توقف لمسلسل الإغتيالات الذي تنتشر اصداء عودته بقوة هذه الأيام.
مما لا شك فيه أنّ الإغتيال السياسي شكل منذ السبعينات واحداً من عناصر المس بسيادة البلاد واستقلالها. كان عاملاً مهماً في تكريس الهيمنة الخارجية، وتعمّد إزاحة رموز وطنية ترك مقتلها فراغاً في الحياة اللبنانية. ورمت الإغتيالات الى ترهيب المجموعات السياسية المناهضة للسيطرة الاجنبية، ووضعتها امام خيارات الفوضى والإضطراب الأمني أو الخضوع لحكم الأمر الواقع. بدأ مسلسل الإغتيال مع معروف سعد في صيدا عام 1975، ووصل الى ذروته مع اغتيال كمال جنبلاط عام 1977، ثم استمر طوال ثلاثين عاما. إذا كانت الأدلة القانونية لم تتوصل إلى إعلان مسؤولية جهة معينة عن الإغتيالات، إلاّ أنّ الإتهام السياسي ظل يشير إلى السيطرة السورية، العسكرية والأمنية والسياسية، في وصفها المسؤولة الرئيسية عن هذه الإغتيالات. من هنا ترابط مطلب استعادة الاستقلال اللبناني بوضع حد لإفناء قواه السياسية.
شكل اغتيال الحريري عام 2005 محطة استثنائية في مسار الإغتيالات، إذ أتى في لحظة تحولات دولية كان ابرزها التوجه الأميركي لإنهاء التفويض المعطى للنظام السوري بإدارة الوضع اللبناني، منذ عام 1976 ثم تجدد عام 1989. أتى القرار 1559 ليحسم مسألة الوجود السوري، ويؤشر الى مرحلة جديدة في العلاقات الدولية مع سوريا. اعتبرت قوى لبنانية القرار فرصة يمكن اللبنانيين الإفادة منها في استعادة شيء من استقلالهم. في سياق صدور القرار، جرت عملية الإغتيال، وترتب عليها إصرار دولي على إخراج الجيش السوري، مدعوماً بحالة جماهيرية صاخبة أعقبت الجريمة، الأمر الذي أفضى، بما تبعه من اغتيال رموز لبنانية، ووسط توجه دولي ضاغط، إلى إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، واقرار وجودها فعليا عبر مجلس الامن. بات مطلب معرفة الحقيقة عن الاغتيالات قضية مركزية، قامت عليها شعارات فريق 14 آذار.
شكلت المحكمة ولا تزال نقطة خلاف لبنانية – لبنانية، وخصوصاً بما سيرتبه المسار المقبل على الوضع الداخلي اللبناني، إذا توصل القضاء الدولي الى تعيين حجم التورط اللبناني وطبيعة القوى ذات الصلة بالموضوع. تشكل هذه النقطة أول العوامل المقلقة في انعكاس مسيرة المحكمة وتقدمها على الوضع الداخلي اللبناني. لا يأتي هذا التخوف من فراغ، فقد جرت الإشارة اليه من جهات لبنانية متعددة سابقا، ومن تصريحات سورية مباشرة حول الفوضى الأمنية التي سترافق مسار عمل المحكمة، وذلك كله تحت شعار ان تسييسا ما سيحصل خلال مسار المحكمة يحرفها عن أهدافها لصالح جهات معينة.
التخوف الآخر الذي بدأت طلائعه تظهر، يشير إلى حجم التورط الاقليمي في الإغتيال، وإمكان الرد ايضا على “الساحة” اللبنانية، بما يمنع استكمال المترتبات على الدولة اللبنانية، أو توريط البلاد في فوضى أمنية مجدداً، الأمر الذي يُدخلنا في دوامة يصعب الخروج منها من دون تدخلات اجنبية تلقي الوصاية مجدداً وتُخضع البلاد لصفقات وتسويات على حساب سيادتها واستقلالها.
كانت المحكمة ولا تزال قراراً دولياً يتصل في جزء كبير منه بإعادة قولبة منطقة الشرق الاوسط وتطويع دولها تحت المظلة الاميركية. بصرف النظر عن الأوهام اللبنانية فإن الخوف يجب أن يظل قائماً من التسويات والصفقات الدولية، وخصوصاً في ظل الحديث عن المدى الزمني الذي قد يمتد بين ثلاث وخمس سنوات لانجاز مهام القضاء، وهي فترة قد تشهد تطورات في العلاقات الدولية والاقليمية تكبح جماح الاندفاعة الراهنة لعمل المحكمة.
من التجارب المماثلة للمحاكم الدولية، وعلى الأخص المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا، فإنّ قضية اغتيالات الشهود أو المتورطين من أركان النظام تبقى مسألة مهمة، بل تصبح موضوعا يتسم بمنتهى الخطورة كلما بدا أنّ المسار نحو إعلان الحقيقة يقترب، مما يعني أنّ المخاوف الأمنية واحتمالات تجدد الإغتيالات تصبح اكبر.
على رغم اصرار المحقق الدولي على القول بالابتعاد عن التوظيف السياسي للمحكمة وقراراتها، إلاّ أنّ التجارب الدولية والمساومات التي ترافق أعمال مثل هذه المحاكم، تسمح ببقاء تحفظات يصعب إبعادها عن التوقعات، مما يعيد الإعتبار إلى واقعة التسويات الدولية – الاقليمية التي لا بد أن تنعكس في محطة من محطاتها على مسار المحكمة.
لا تلغي هذه التحفظات والإحتمالات غير السارة القول إنّ الوصول إلى إنجاز المحكمة وبدء اعمالها يشكلان خطوة مهمة على الصعيد اللبناني لجهة ما تمثله من تطلع استقلالي حقيقي. لم يسلك اللبنانيون خلال السنوات الأربع الماضية ما يوحي أنهم راغبون جميعاً في كشف الحقيقة ووضع حد للإنهيارات البنيوية المتتالية بعد كل حدث. ظل التكاذب يحكم سلوكهم ويحدد علاقاتهم. اليوم وبعدما بات أمر المحكمة خارج تأييد المؤيدين واعتراض المعترضين، يطرح السؤال مجدداً حول الأهلية اللبنانية في تجاوز هذا الصراع الممتد منذ أربع سنوات، في اتجاه ملامسة القضايا الفعلية للبنانيين والإحتكام الى الحياة الديموقراطية في إنتاج تسوية جديدة بعيداً عن طموحات الهيمنة والسيطرة من هذه الجهة أو تلك. إنه تحدّي الأشهر المقبلة ¶

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى