صفحات ثقافية

“لوعة الأليف” رواية سليم بركات: دنيا العميان

null
انور محمد
ثمَّة صورة مرئيةٍ روحية يرسمها سليم بركات في روايته «لوعة الأليف اللاموصوف المحيِّر في صوت سارماك». صورةٌ فيها سردٌ تراجيدي مليءٌ بمشاعر, بأمواجٍ من الغناء؛ غناء ساخر يُبَكِّت و يُنكِّت, يُخفي, ثمَّ ما يلبث يكشفُ عواطفه المقهورة تجاه»سارماك» الصبي ابن الثالثة عشرة الذي يُنفى إلى مكان افتراضي, إلى اللامكان – يوتوبيا؛ إلى أرض»ريِّس» حيث يسكنها فاقدو البصر – رهطٌ من العميان الذين تتوزَّع حاسَّة بصرهم على جميع حواسِّهم فيُبصرون من جديد, لكن بعيني بركات فيصيرون صوته ورائحته ولونه, بل ويسبِّحون باسمه.
منذ الكلمات الأُولى التي يَفتتح بها سليم بركات فصله الأوَّل من الرواية وحتى آخر كلمةٍ في الفصل الرابع عشر نحن مراتٍ مع العدم/ الموت بوصفه شعوراً ظاهراتياً, ومراتٍ مع الوجود بصفته حاملاً للعدم وليس العكس. عدمُ ماذا؟؟؟ عدمُ الوطن؟ عدمُ الإنسان؟؟.. فيصيرُ العميان والعمياوات يحوُلونَ ضدَّ أن يغتصب أحدٌ ما (وعيهم) للوجود – ينتزعه منهم في رحلة بحثهم» الهذرية» عن قاتل سارماك الذي لجأ إليهم, هرب مع أمه»واسبو» من أرض»مالبومين» خوفاً من بطش بني قومه به كونه يحملُ في جسده جينات الأنثى/ شكل الأنثى؛ فيما هو محسوبٌ عليهم ذكراً. فيلقى المصيرَ الذي هربَ منه؛ يلقى من يقتله, يلقى حتفه ويموتُ بطريقة غامضة, ويصير البحثُ عن قاتله همَّ سكَّان اليوتوبيا؛ سكَّان أرض ريِّس.
وسارماك المقتولُ هنا هوَ سارماكُ الوجود, سارماكً الحاضر, سارماكُ المستقبل الذي يملأ الزمنَ فنعيش حالة فِقده, نعيش حالة ضياع. زمنٌ يصير عدماً/ موتاً يشغلنا به لكنَّنا لا نراه, وإنْ رأيناه فبعيونِ العميان, العيونُ التي ترى الموسيقى وليس تسمعُ- ترى ثغاءَ/ صهيلَ جسد(التيرا) وهو يلفُّ على أوتار غرائزهم- وغرائزهم المكبوتة, المقموعة, المنقمِعة, المنفلِتة في مقهى حيث يجتمعون لمعرفة- ليست حزِّيرة- من قتلَ سارماك.
الصوت
ومشهداً إثر مشهد, ولقطة إثر لقطة, نرى ونشوف العمياوات, نشوف نساء ريِّس وقد استنفرْنَ هُنَّ الأُخريات يُرِدْنَ يَعرفْنَ من قتلَ سارماك الحاضر/المستقبل؛ الذكرُ/الأنثى- الخُنثى, المخنَّث. يُرِدنَ يَعرفْنَ من أوقعَ بسارماك ما أوقعَ- القتلُ الثمنُ.. أم هو القتلُ الثأرُ الانتقام ؟. ويصير العميان يتبادلون التُهم, فنرى صورة لاقتتال الأعميين» روسيرو» و « باهدون» مثل ديكين ينتفان ريشي بعضهما.
عميان, عميان:كيروكا حارس الهيكل في المعبد, آثول الخبير برائحة الماعز, كاسلوا الراوي- الجوقة, الضمير الجمعي, النبي, المستقبل. ساتير, كادي, ميدور, جوهيرا السوداء التي تنفر شهوتها الجنسية مثل دمٍ من شريانٍ قد قُطعَ فتريدُ تَنثُرهُ في سؤالها: من قتلَ سارماك ؟؟.. سارماك الجثَّة المسجاة وقد خرجَ الوجود/ الزمن منها وتنتظر أن تُدفنَ في الماء, تدفن في نهر»روكيلو» حيث يَدفِن أهل مدينة ريس أمواتهم وفي مشهد جنائزي يليق بذكرٍ على إنَّه أنثى.
العمياواتُ هنا كما العميانُ يأخذُهم صوتُ سارماك. تريده صوتاً ذكورياً أو صوتاً أنثوياً- تُشغِّله حسبَ جنسكَ أو ضدَّه, وكأنَّه صوتٌ مثيرٌ للشهوة الجنسية مثلما جسده؛ فالعمياء « جوهيرا» لا تملكُ تُخفي شبقها, ثورة غريزتها الجنسية- والعميانُ مثلما المفتِّحين أين يذهبون بجنون غريزتهم؛ فتقول جوهيرا للتيس تيسها: (لا مثيل للصدى في عبورك منتعظاً) .ثمَّة متعةٍ حسَّية؛ صدى وعبور ومتيقِّظ, لذَّة ومتعة, وكأنَّ جوهيرا العمياء أكثر من المبصرين تحسُّساً واستمتاعاً بالجسد وبالصوت, كأنَّ اللذَّة تنفرُ من عروقها وهي تتحسَّس ظلف تيسها وتفكِّر بالإنتعاظ, فتتذوَّقه بأصابع يدها مثلما تتذوَّق كلمة انتعظَ بلسانها وهي تتصوَّر, ترى, تشوف الصدى/اللذَّة, لذَّة صوت الصدى والتيسُ/ الذكرُ يعبر فيها, منها, فوقها, تحتها, حواليها منتعظاً, تشوفه و تشمُّه. وكأنَّ سليم بركات يُريد يُسمعنا صوت صرير الشبق/ الشهوة وهو يعلو عند جوهيرا وباقي العمياوات في بحثهنَّ عمن قتل سارماك.
لذَّة, شبق, شهوة؛ حاجةٌ مكمِّلة لإنسانيتهم/ إنسانيتهنَّ, وليس كونها ذنباً أو عبثاً. سليم هنا لا يصنعُ أو يصنِّعُ عاهرات, وما تكشَّفَ من رغبةٍ جنسية عند عميانه وشهوتهم سارماك جسداً وصوتاً ليس دعارةً, لأنَّها نداءاتُ الجسد الخالدة, غرائزه. وسارماك لــيس وثـناً, فهو كما يصف عنوان الرواية» لوعة الأليف اللاموصوف المحيِّر في صوت سارماك» أكثرُ من طيف وأقلُّ من شبح, وأكبرُ من ذكرٍ وأصغرُ من أنثى, صوتٌ تشتهي تسمعه, وتلتــاعُ, يلذعــكَ فراقه, وكلَّما فارقته كلَّما اشتقت إليه. هو صوتٌ يتمثَّلُ في صورة؛ صورة لذكرٍ أو أنثى والأفضلُ أنثى. صورةٌ لشبح, لروحِ شعبٍ تتجلَّى فيه حين يظهرُ وحين يغيب, شبحٌ لا يموت, شبحٌ دائماً في الحياة أو عــلى قيد الحياة.
اتهام المستقبل
لكن من سيثأر لمقتل سارماك إن عثرنا على القاتل؟.. أمُّه المبصرة أم عميانُ وعمياواتُ أرض ريِّس التي احتمى بها؟. سليم بركات كأنَّه يوجِّهُ التهمة إلى المستقبل. فالقاتل في المستقبل/ الوجود, لكنَّه كما يصوِّره مستقبلٌ كابوسيٌ وإن كان شكله كما في حركة هؤلاء العميان مضحكاً. فالشخصياتُ»كاريكاتيرية» تريدُ تشلِّحنا أفكارنا, تشلِّحنا الزمن, وهي هنا في الرواية شخصياتٌ قوية يَعْمُرُ عقلُها بحركاتٍ انفـجارية ترانا نسمعُ ضربات مطارق أفكارها. فحكيها/ كلامها تراه يضغط علينا ضغطاتٍ وإن كانت شعرية/ شاعرية لكنَّها تحفل بالحركة والصراع, وكأنَّ الرواية عن صراع مشاعر, أو هي تمارين روحية, فلغتها مليئةٌ بالانفجارات الصوتية؛كلمةٌ فوق كلمة, كلمة تحت كلمة, كلمة تنسلُّ من كلمة فنسمعُ أصواتها؛ نسمعُ» هبيد» تستغيث بعد أن قتل سارماك: أيَّتُها الشمس المكسورة نصفين على ضفَّةِ نهر روكيلو, رذاذُكِ يتساقطُ بارداً كجرحٍ على خماري.
أصواتٌ أصواتٌ تكشفُ الفكرة, تكشف القوَّة الخفية فيها- في الكلمة.سليم بركات يفتح في رواياته/ روايته هذه أبواب الحرفِ الكلمةِ لنلجَ في أعماقه, في عمق الحرف الشعري وهو يصدحُ بنغماتٍ موسيقية عالية النفير, لأنَّها تصير على يديه ذات شكل صوتي . فتتزحلق على الحنجرة و تمضي من الرئتين دون أن تحدث خــدوشاً أو جروحاً فيها, ولسببٍ هو أنَّها تنبضُ بالشعر, بإيقاعه, صوته. وبعفــوية وتلقائية وبساطة, إنَّها حركة السرد الطليقةُ؛ المنطــلقةُ بجموح ٍ, الحركة الجامحة.
«لوعة الأليف اللاموصوف المحيِّر في صوت سارماك» لسليم بركات تتصادمُ فيها القسوة مع الشفقة, وكأنَّها روايةٌ رغم تعدد الأصوات/الشخصيات, مونولوجٌ داخلي يُراكم فيه بركات صورةً فوق صورة, قريبةً بعيدة, متقابلة متباينة, مضيئة مظلمة, منفصلة متلاصقة- صورة علامة غنية بالدلالات العميقة؛ صوتية اجتماعية مادية, ميتافيزيقية, ولكلِّ واحدةٍ منها رنَّةٌ خاصَّة, كأنَّها كمنجة؛ بيانو؛ كونترباص؛عود, بزق, غيتار, قيثارة.. وهي تتتابعُ بتواترٍ نغميٍ فتتداعى وتتنافى مثقلةً بانفعالاتِ العميان والعمياوات في توتُّرهم وانبساطهم, جهدهم وراحتهم, كأنَّهم في مخاضٍ آلامُه تكشفُ عن شغفِهم وَوِجْدِهم ووَلهِهم وصباباتِهم في سؤالٍ يبقى مفتوحاً على المستقبل: من قتلَ سارماك ؟؟ العدمُ أم الوجودْ.. سيما وأنَّ العدمَ هو جبرُ الحرية.
([) إصدار المؤسسة العربية للدراسات و النشر ـ بيروت.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى