صفحات العالم

تصحّر ديني وثقافي

حسام عيتاني
الجرائم المُرتكبة في حق المسيحيين العراقيين وآخرها مجزرة كنيسة سيدة النجاة في بغداد، لا تهدد بإحالة المنطقة العربية إلى صحراء عرقية ودينية وحسب، بل تعلن احتضار ما تبقى من تنوع ثقافي في المنطقة العربية.
وإذا أضيفت الاعتداءات الدائمة على مسيحيي العراق إلى امتداد تهديدات تنظيم «القاعدة» لأقباط مصر على خلفية من الممارسات «الأهلية» اللابسة لبوس الإسلام السياسي، وصولاً إلى دفع مسيحيي لبنان إلى خيارات كلها مرير وخطير، بدا أن مستقبل المسيحيين في الأنحاء هذه مظلم تشكل الهجرة المخرج الوحيد منه.
بيد أن ظلام مستقبل الأقلية المسيحية يبدو نهاراً مشرقاً إذا قورن بما ينتظر الأكثرية المسلمة بمذاهبها وتنويعاتها. ولئن جرى عزل مصير المسيحيين في الدول العربية عن التدهور والانهيار العامين لأحوال الاجتماع والثقافة العربيين وتصوير الملمات التي تنزل بهم على أنها أحداث تعنيهم وتعني المجتمعات اللصيقة بهم دون غيرها، فإن ذلك لا يعكس حقيقة الأوضاع العربية حيث تضيق ضيقاً سريعاً مساحات التسامح وتحمّل الرأي الآخر، السياسي والمذهبي والديني.
رصد حالتين عربيتين، في مصر والعراق، يُظهر من دون لبس سير التضييق على الإعلام المستقل والحريات الفكرية والشخصية، يداً بيد وكتفاً إلى كتف مع ارتفاع الأصوات والأيدي المعادية للمسيحيين، والأقليات الدينية الأخرى استطراداً (قضية المجموعة البهائية وملاحقة المتشيعين في مصر، الهجمات الدموية على القرى الإيزيدية في العراق، على سبيل المثال).
وقد لا يحتوي الكلام على أهمية الحفاظ على الأقليات التي اغمطت حقوقها طويلاً، أكثر من النيات الطيبة. لكن في مقابل النيات تلك، يتضح يوماً بعد يوم أن هجرة المسيحيين من البلدان العربية التي محيت منها اقليات أخرى كثيرة في القرن الماضي، تتزامن مع هجرة أعداد لا تحصى من أصحاب الاختصاصات الحيوية لأي مشروع تنموي جدي في المنطقة. يضاف إلى ذلك أن قسماً لا يستهان به من المثقفين العرب يقيم اقامة دائمة ومستقرة في المهاجر والمنافي البعيدة ويعتبر أي دعوة لعودته إلى بلاده الأصلية، دعوة صريحة إلى الانتحار والفناء.
وقديمة هي الفكرة القائلة إن إسرائيل تجني فوائد جمة من انقلاب المنطقة ميداناً للحروب الطائفية ولهيمنة كاملة تفرضها جماعة واحدة، بغض النظر عن اسم الجماعة هذه. وما يهم اليوم ليس الحيلولة دون قطف إسرائيل ثمرات الفوات والتراجع العربيين، فالقطاف الإسرائيلي لأزماتنا من تحصيل الحاصل، بل المهم يكمن في تسليط الضوء على الترابط القائم بين تحول بلادنا إلى ارض نابذة للتعدد وبين اقتراب الغرب من إعلان تخليه عن سياسة التعدد الثقافي والعرقي السائدة فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وإذا كانت اعتراضات صائبة رفضت مقولات «صدام الحضارات» التي تنمط العالم في أقاليم وثقافات متناحرة ومتعارضة في الجوهر، فمن المحزن اليوم رؤية نهج العداء للتنوع الديني والثقافي يكسب ارض جديدة، في الشرق وفي الغرب سواء بسواء. على أن فارقاً كبيراً يكمن بين الحالتين. ففي الوقت الذي يمتلك الغرب بدائل اقتصادية وثقافية، تتيح لأحزاب اليمين المتطرف المتصاعد نفوذه، تجميل سياسات الانعزال والتقوقع، فإننا في الشرق نفتقر إلى هذا الترف، بل وإلى كل أنواع الترف السياسي والاقتصادي.
مع ذلك، ما زالت فئة منا تستحسن ارتكاب المجازر في أماكن العبادة وتتعهد بتوسيع نشاطها وتقل المزيد من الأبرياء غير عابئة بعمق الهاوية التي تندفع وتدفعنا جميعاً إليها.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى