صفحات العالم

جراحة بالمشرط الطائفي

خيري منصور
كان الرهان الكولونيالي منذ بواكيره ولا يزال هو تشظية وتشطير البلدان التي يحلم بالسطو على ما في باطنها وعلى سطحها، وهذا ما سمي في أدبيات الامبراطورية البريطانية قبل أفولها “فرّق تسُدْ” وقد حدث بالفعل أن من استطاع التفريق تمتع بالسيادة ولو إلى حين .
هذا الرهان ليس سياسياً مباشراً فقط، إنه من صميم الثقافة التي يجري بثها ومن خلال التحريض على تراكم المكبوت الإثني أو الطائفي ومن ثم تفجيره، وما يحدث في مصر الآن ليس البداية، كما أنه ليس النهاية، ما دامت هذه الاستراتيجية مستمرة وتسعى إلى تحديث أساليبها وأدواتها كي تستمر في الصلاحية .
فالاستعمار البريطاني حاول العزف على وتر طائفي في مصر منذ عام 1882 لكنه فشل مراراً وكان الشعار الوطني المصري الذي يرفع لمجابهة هذا الرهان هو الصليب أخ الهلال، لهذا كانت الحركة الوطنية المصرية على امتداد تاريخها تضم مسلمين وأقباطاً يصعب التفريق بينهم حتى من خلال الأسماء، فالأسماء تتقارب عندما يكون هناك سلم أهلي، لكنها تعود إلى معاجمها الاثنية عندما يصبح هذا السلم في خطر .
وهنا علينا أن نتنبه إلى ثنائية التهوين والتهويل مرة أخرى، فالأحداث من هذا الطراز قابلة لأن تتحول إلى ظاهرة مزمنة إذا لم يعالج الأمر جذرياً ومنذ ظهور الأعراض الأولى .
ومن السذاجة السياسية والاجتماعية أن نكرر في هذه المناسبة القواسم التاريخية والثقافية والحضارية المشتركة بين الأقباط والمسلمين، فهما توأمان من رحم الأرض ذاتها ويعيشان منذ عصور على ضفاف النهر ذاته، والسعي الآن إلى بث ثقافة التحريض الطائفي في مصر بالتحديد هو محاولة لتدمير التماسك الوطني من داخله، فما لا يفلح الغزو في تحقيقه كما حدث في العراق  قد تفلح هذه الاستراتيجية في تحقيقه شرط أن يكون الوعي الشعبي في عطلة تاريخية طويلة، وأن تسهم الغيبوبة الوطنية في الاختراق الذي يصل إلى النخاع .
إن أول ما يمكن تسجيله حول ما يحدث في مصر الآن هو أن الأقباط والمسلمين معاً يتقاسمان الخسارة، وما من رابح بينهما، إذن ثمة مستفيدون من هذا التصدع الداخلي، ومن الصعب على المرء أن يصدق بأنهم مصريون، لأن أدنى مستويات الوعي وبدهيات التاريخ تجعل المصريين على اختلاف الطوائف أو وجهات النظر السياسية يجمعون على أنهم جميعاً خاسرون مما يحدث، لأن ما تعانيه مصر من مشكلات مزمنة بدءاً من الاقتصاد والبطالة يفرض على الناس كلهم أن يطرقوا أبواباً أخرى غير باب الجحيم هذا . وإذا كان نابليون بونابرت يقول أبحث عن المرأة كلما حدثت مكيدة، فإن ما يجب البحث عنه كلما حدثت كارثة من طراز الهجوم على كنيسة أو مسجد في مصر أو غيرها هو الحالم بامتصاص دماء هذه الشعوب والعودة إليها من النافذة كاللصوص بعد أن تم طرده من الأبواب .
من الواضح تماماً، أن الاستقرار حتى في حده الأدنى أصبح ممنوعاً ومحظوراً في العالم العربي، لأن المطلوب من هذا البيت الواسع المتداعي أن تتحول كل غرفة فيه إلى دولة . وكل زاوية من زواياه إلى طائفة تطالب بالانفصال .
كم نشعر بالأسى ونحن نعود إلى قضايا ظن عرب الاستقلال الذين تجرعوا مرارات الانتداب والوصاية أنهم ودعوها إلى غير رجعة، فاليوم يشبه البارحة، لأن المراوغة الثعلبية، هي ذاتها، ولأن من حلموا بتدجين سماوات وأرض ومياه هذه المنطقة يجربون مفاتيح جديدة، ويلبسون لكل حالة لبوسها، والأرجح أن العرب في مصر وغيرها قد تلقحوا ضد هذا الفيروس ولن يلدغوا من الجُحر ذاته ألف مرة .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى