صفحات ثقافية

ضوء على أعمال الروائي الأميركي الكبير كورماك مكارثي: مسيح بلا أمل وصولاً إلى “المقبرة الشاملة

null
غسان الحلبي
يعمل المخرج الكبير ريدلي سكوت على إنجاز الصيغة السينمائية لرواية كورماك مكارثي المهمة، “خط الدم”. ويجهد المخرج الأوسترالي جون هيلكوت للإنتهاء من تصوير “الطريق”، الرواية الموصوفة بـ”الأبوكاليبتية” للروائي ذاته، والتي حازت جائزة “بوليتزر”، واختارتها أوبرا وينفري كتاب العام، وبيع منها مليونا نسخة في الولايات المتحدة الأميركية على الرغم من أجوائها “البيكيتية” المضادة لما يُسمّى هناك “ثقافة الكتل الشعبية”. في موازاة ذلك، حصد فيلم “لا بلاد للمسنّين” الذي اقتبسه الأخوان كووين من رواية لمكارثي أيضاً أربع جوائز أوسكار. هذا كلّه حدث للروائي المولود عام 1933 في رود آيلاند الموصوفة بـ”الأرض البيوريتانية”، في الثلاثة الأعوام الأخيرة. إنه لأمر لافت أن يقع وجهٌ “من الأدب الكبير” تحت وهج أضواء البلاتو الإعلامي بشكل متواصل وثابت من دون التنازل “قيد أنملة” عن متطلبات أدب رصين، بل ومتجهم، بل، وفي نهاية المطاف، “رؤيويّ”. إنها فرصة مؤاتية لإلقاء نظرة واسعة على عالم روائيّ يقول عنه اليوم بعض النقاد إنه الأهم في الأدب الأميركي المعاصر.
كورماك مكارثي روائي أميركي عتيق. نشر روايته الأولى “حارس البستان” عام 1965. كان له من العمر اثنان وثلاثون عاما. قيل عنه آنذاك إنه “تلميذ آخر لوليم فولكنر”. الملامح الأساسية في نصه، رسخت سمعة نسبته إلى “المعلم”: جوف الجنوب، الحيّز الريفي المغلق، أشلاء المكان وسط الريح… وفي الحصيلة صوتٌ مسكون بعهد قديم يتربّع فوق عرش نثر جزل، مكابداً صيرورة العالم بصيغة معاصرة.
روايته الرابعة “ساتري” التي نشرت عام 1979، واستغرقته كتابتها ما يقارب ثلاثين عاما، كانت محاولة “شاملة” لتصفية علائق الماضي في اتجاه أفق متجدد. متكئا على شخصية روائية سمّاها كورنيليوس ساتري، كتب مكارثي شبه سيرة ذاتية عن رجل تخلّى عن حياة باذخة، رافضاً والده وعائلته، هاجراً زوجته وابنه ليعمل صياد سمك على نهر تينيسي، على تماس مع قعر المجتمع والأحشاء السفلى لمدينة ذات حياة بدائية “غاطساً في ظلمات لا يُعرف فيها إله، وماضياً في رحلة إلى قلب الليل” قبل الوقوع فريسة التخبط والهلوسات، مستشعراً في متاه تلك الزلزلة هويته، ثم مستعيدا ذاته في أفق حياة جديدة.
بدا عند النقاد أثر فولكنر واضحاً، ولكن تنوّع َحديثُ الأثر في الملاحظة عن خصوبة كأنها من جويس وديلان توماس، وأجواء كأنها من ديكنز، وتوترات صراع كأنها من ملفيل، ودائما روعة نثر استحضاري كأنه لطقوس أحلام جنّاز الواقع. لكن الرواية كانت من ماضي كورماك مكارثي حيث كان قد غادر الجنوب القديم عام 1976 إلى إلباسو على حدود المكسيك، منعتقاً من أغوار ماض بائد وسارباً في “حمرة الغسق” الدموية للغرب السفيح.
رواية “خط الدم” 1985
جسّد كورماك مكارثي روحَ العالم (الغرب) الذي مضى إليه في رواية عجيبة سمّاها “خط الدم… أو حُمرة الغسق في الغرب”. وُصفت بأنها “إعادة نظر معقدة ومتعددة الأوجه في ميثولوجيا الغرب الأميركي”. إنها صحراء سونورا بين تكساس والمكسيك في منتصف القرن التاسع عشر حيث صالت وجالت عبر القفار والغابات والسهوب ووعورة الجبال “عصابة غلانتون” لسلخ فروات رؤوس الهنود وبيعها بالقطعة من حاكم مقاطعة شيهواهوا الذي أوكل إليها مهمة استئصال تهديد قبائل الكومانتشي والآباتشي الجوّالة التي كانت تغير على البلدات الحدودية. ثم تحوّلها إلى مجموعة شذاذ آفاق للنهب والقتل والمجون قبل أن يُذبح معظم عناصرها على يد هنود اليوما.
استمد مكارثي رؤيته في “خط الدم” من تاريخ واقعي، لأن السرد ارتكز على “اعترافات” الجنرال صموئيل إيمري تشامبرلين، وعلى الطابع “الديمورغي” (بمعنى اعادة كتابة سفر تكوين الغرب، و”الديمورغ” هو كناية عن مبدع الكون في المصطلح اليوناني القديم)  لنثرٍ كورماكيّ يجد لقياه الفريدة في تلك المساحات الشاسعة من طبيعة متوحّشة متذبذبة بين عري الصحراء وفوران الغاب وحضور الحيوان الناطق النزّاع بغريزة متأصّلة إلى القتل والدم والإبادة.
حار النقاد في مراجعة الرواية. عدّوها صفعة من الصعب قبولها ومن الأصعب تجاهلها. وذهلوا في غمرة إيقاع سرد وجداني يوازي تماماً بين البشاعة والغنائيّة. وقيل لوهلة إن الكاتبَ عبقريّ، لكن تحت وطأة صعوبة تصوّر الرؤيا العامّة، تمّ الاستدراك فوراً، فقيل: والأرجح انه مجنون. وأجمعوا على أن الرواية غير قابلة للتأويل. انها تجعلنا شهود الشرّ، ليس لنفهمه، ولكن لكي نتأكد من حقيقة وجوده التي يعسر فهمها.
كان يلزم أكثر من عشرين عاما ليعي الوسط الأدبي العام خطورة ما قام به مكارثي، وذلك عندما وجّه الملحق الأدبي لـ”نيويورك تايمس” (عام 2006) سؤالا محددا لأكثر من مئتين من كبار الكتّاب والنقاد والناشرين و”حكماء الأدب” في الولايات المتحدة عن “اختيار رواية واحدة هي الأفضل في الأدب الأميركي المنشور خلال الخمس وعشرين سنة الماضية”. احتلت “خط الدم” المرتبة الثالثة في لائحة نتيجة الاستفتاء.
تبدّت ملامح “الكورماكيّة” بشكل خاص في أجواء “القيامة القائمة” في مدار الدم هذا، على “الأرض المخضبة بدماء القتلى والملح والرماد… التي تتناثر فيها العظام وهياكل الموتى والجماجم المتفحمة المتوهجة الساطعة كالدم وسط الفحم… حيث تعلق فروات الرؤوس كزينة لاحتفال همجي، وعيون القتلة في المحاجر السوداء مراكز متوهجة للقتل”.
قبل شيغور، القاتل “المطلق” في “لا بلاد للمسنّين” (رواية مكارثي عام 2006)، ظهر القاضي هولدن في “خط الدم”، “الوجه الأعظم إثارة للرعب في كل الأدب الأميركي”، على قول الناقد هارولد بلوم. شخصية نيتشوية قبل نيتشه: “عندما يُستجلى آخر كائن وتتم تعريته وسبر أغواره، عندها سيكون هو المتسلط كليا على الأرض. هذا هو مطلبي. الإنسان الذي يعتقد أن أسرار العالم ستبقى مخفية إلى الأبد يعيش في غموض وخوف. ستجرفه الخرافات نحو الأسفل…”. وهي شخصية داروينية قبل ذيوع داروين: “الحرب هي أصدق أشكال النبوّة كلها. الحرب هي الإله. إذا لم تكن الحرب مقدّسة، فالإنسان إذاً لا شيء أكثر من طمي غريب”. وسفسطائية أكثر عتوّا من أعتى سفسطائيي اليونان الوثني: “قانون الأخلاق هو اختراع بشري لحرمان القوي من حقوق شرعية لصالح الضعيف. القانون التاريخي يهدمه في كل مناسبة”.
“ثلاثية الحدود” 1992-1998
“ثلاثية الحدود” كرّست الانزياح الجغرافي لعالم مكارثي الروائي من “الحيّز الفولكنري” إلى الأمداء المترامية لما يمكن أن يُسمّى “غرب الكاوبوي” الموصوف في مرحلة متوحشة بربرية في رواية “خيط الدم”. تواكب الثلاثية، في مثل ترانيم صامتة- أي في المدى غير المرئي للكتابة- زمن التحولات نحو واقعية فجة. “المزرعة” التي كان يراها الجد “جنة على الأرض” باعتها الأرملة بدافع حبها للتمثيل المسرحي والرحيل إثره. ابنها “الكاوبوي” جون، “عاشق الأرض والأحصنة والمخلوقات البرية الساكنة القفار” يمضي عابراً الحدود كأنه ليتعقب صورة حياة بائدة وحب عصيّ (“كل الخيول الجميلة”، 1992). بيلي، راعي بقر مراهق آخر، ورحلات عبور بين ضفتي الحدود يزخمها نثر مكارثي بإيحاءات عبور روح “ما بين الحلم والوعي، وبين الواقع والحكاية، وبين الحياة والموت” (“العبور”، 1994). التقاء جون وبيلي والعمل معاً في مزرعة، لكن نزعة الإيثار عند الأول توتر العلاقة في اتجاه نهايات حزينة (“مدن السهل”، 1998).
“لا بلاد للمسنّين” 2005
استقرت “لا بلاد للمسنّين” في العصر الحالي. المكان الذي اتخذه مكارثي فسحة شاسعة لرواياته خارج “المدى الفولكنري” لا يزال حقلا للقتل، لكن الجثث المرمية الآن فوق رماله المغبرة الجافة عائدة إلى عصابات تهريب المخدرات. والحضور البشري في هذا الحقل المباح تمثله ثلاثة وجوه. شيغور الذي يمكن أن نصفه بأنه ثمرة إبداع ذاكرة القتل، بمعنى أنه خلاصة صافية لفعل القتل، فهو قاتل لا يعاني من أي “خلل إنساني” في ارتكاب الجريمة. وجه قارس لا يضخ إليه قـلب، ولا تمس ملامحه ترددات ضمير، ولا يرفّ له جفن حين يثقب رأس ضحيته بمقذوف خاطف. إنه “الابن النغل” لتاريخ الإجرام. القدر الماثل للعيان دونما حاجة إلى قدَر غيبي. شيغور لا يقتل لغاية أخرى. لا طمعا بمال، ولا انتقاما بضغينة، ولا “إيمانا” بقضية. إنه كائن بهبة الموت يمنحها الى من “صودف في الدرب”.
الوجه الثاني النقيض هو بيل الشريف (ضابط أمن)، يستشعر بعمق التحولات التي صيّرت عمله غير ذي جدوى. يتذكر أول النفق حين قال له الفتى القاتل الذاهب إلى غرفة الغاز لإعدامه: أعلم أنني ذاهب على الفور إلى الجحيم. لو تسنى لي العودة لقتلت الفتاة كما فعلت أولا. لا يستطيع بيل فهم هذا الأمر الذي لم يرَ شبيها له من قبل. بات يعلم تمام العلم وجود “نبي تدمير حقيقي” يرى آثار أعماله. وبعدما حدّق في عينيه مرة، بات لا يريد إعادة الكرّة ولا يريد المواجهة. العمل الأمني هو تقليد في عائلة بيل، لكن ليس له في الزمن المعاصر سوى إعداد التقارير عن الجرائم المرتكبة (بل المذابح) وإحصاء الجثث. يقول ببرودة من يعي خمود دوره، إن الناس ينظرون إليه وفي وجوههم بسمة ازدراء حين يقول لهم إن عالمنا ذاهب إلى الخراب. “إنك تشيخ”، يجيبون. فيدرك في قرارة روحه أن لا مكان الآن في هذه البلاد للمسنّين.
موس، أميركي من السواد. محارب قديم في فيتنام. يعيش في مقطورة برفقة زوجة شابة، ويرود الآفاق صائداً للغزلان إلى أن يقع ذات يوم على مشهد جثث متناثرة في الصحراء بين سيارات متنوعة مهجورة. فتحقق أن الأمر ترتّب إثر معركة دموية بين مهرّبي مخدرات. وبحث عن المال فوجده رزماً كثيرة في محفظة سوداء احتفظ بها عائداً إلى “جحره”. كان يمكن موس أن يتوارى دون أثر، لكنه عاد ليلا إلى مسرح الجريمة ليسقي الماء لأحد المحتضرين، فانكشفت هويته داخلاً في جحيم من المطاردة اليائسة.
هذه اللمحة الإنسانية الضئيلة وسط هذا المناخ الإجرامي كانت خطأ موس القاتل. لقد قيل له أكثر من مرّة إن اللعبة شديدة الخطورة وإنها أكبر منه وإنها تضع رأسه في مجال حدّ مقصلة قاطع، لكن حلم المال والسلاح المتوافر كالخبز كان الغالب على عقله، ولو على حساب صيرورته طريدة شيغور بلا هوادة أو رحمة، وفريسة محكومة بقضاء أسود، وضحيّة سياق راعب لا استكانة فيه إلا الوقوع مضرجا بدمه.
تلقف الإخوان كووين (جويل وإيثان) رواية مكارثي بروح مؤلفها الذي صاغها بواقعية صارمة ولكن فوق خرائب غنائية خامدة ونوستالجيا مخنوقة بيقين أوهام بائدة. بدت المشاهد لديهما مشحونة بطاقة تعبيرية كأنها من عين النص الأدبي ومضاضته. وتلوّن العمق التصويري تبعاً لأمزجة الشخصيات الرئيسية الثلاث ومأسوية أقدارها والتحام مصائرها بالتمام بعالم متهافت يراقص اليأسُ فيه اليقينَ على أنغام أسلحة شتى لم تلذ بالصمت منها إلا أسلحة الشريف بيل!
قدّم الفيلم نسخة بصرية لروح السرد الروائي. القراءة والرؤية هنا تغذي إحداهما الأخرى، وهذا يعني أن الصورة زخرت بعمق رؤيا الروائي في وصال جماليّ أكيد بين ما هو الفن السابع وما هو الأدب. وربما في هذا الوصال يكمن سرّ تتويج عمل الاخوان كووين بأربع جوائز أكاديمية في حفل توزيع “الأوسكار” سنة 2008.
لكن بروق “السكوب” الإعلامي كانت قد لفحت وجه كورماك مكارثي بقوّة قبل ذلك الحين. كان قد أصدر روايته الأخيرة “الطريق” عام 2006، فحازت في العام ذاته جائزة “بوليتزر”، ثم تمّ اختيارها كتاب العام، على يد “الصاخبة بحكمتها وشغفها بالعالم” أوبرا وينفري، في “نادي الكتاب” خاصتها. وترجم هذا الاختيار قوته بالدفع الاعلامي الهائل لانتشار الرواية، فبيع منها كما أذيع مرارا مليونا نسخة، الأمر الذي مكّن وينفري من استضافة مَن أثبت على مدى عقود صعوبة استضافته، في برنامجها ليحكي، تقريبا لا شيء، عن “أدبه”!
كورماك مكارثي حكى أدبه عبر أربعين حولا. ثمة “أطروحات” نقدية تناولت مجمل أعماله. أثير الحديث عن “ترانيم رثاء الغرب”، عن “الرؤية الرعوية” في أعمال هذا الرجل، عن “فيتشية الشر”، عن “الإيحاء الأبوكاليبتي”، وأخيرا عن “ما بعد الأبوكاليبس”. ومع مثول إمكانات التأويل بقوة، يمكن القول إن ثمة عصيانا لقابلية نصوصه الروائية على التأويل من حيث محاولة تبيان مقاصدها، فالمقاصد، في كل حال، تبدو فيها كأنها آخر الهمّ. وأميل بقوّة إلى اعتبار روايته “الطريق” تأويلا خالصاً لكلِّ ما كان يصطخب، بل يختلج، في صدره من رؤى لا يمكن نفثها من سويداء القلب إلا بالكتابة.
“الطريق” 2006
كشف مكارثي لأوبرا وينفري عما يمكن اعتباره إرهاصات ولادة “الطريق”. أثناء زيارة له قبل أربعة أعوام لإلباسو في تكساس مع ولده اليافع، توقف متأملاً شوارع المدينة ومتخيلاً ما يمكن أن تصيره في المستقبل. امتثل في ذهنه “نيران فوق الهضبة” وفكر في ابنه مسجّلا بعض الملاحظات الأولية. ثمّ استعاد الصورة لاحقا بعد سنوات في إيرلندا (أصله من هناك، وكورماك اسم ملك إيرلندي). آنذاك، “أتته” الرواية سريعاً.
رجل وابنه في قفر. يستيقظان ليتابعا المسير على “الطريق”. شيئا فشيئا تتبدى الحقيقة المروعة: أراض محروقة. أجواء غائمة ضبابية داكنة. أشجار يابسة متفحمة. بيوت يغطيها السخام. أشباح أحياء وأماكن كأنها مرسومة بالفحم. رياح باردة تحمل الرماد لتذروه في فراغ. شمس كئيبة. سواد الليل أعمى لا نفاذ منه. غابات مرمدة. كثير من الجثث كالمومياءات.
بعض العبارات الكامنة هنا وهناك في النصّ تلتمع فجأة كضوء باهر ليصعق حماقاتنا المقيمة: “فوق هذه الطريق لا يوجد رجال كلمة (Verbe). ذهبوا. أخذوا العالم معهم. هنا ما كنا نسميه يوماً الولايات المتحدة. لم يعد ثمة ولايات”.
لا يفصح كورماك مكارثي عن السياق العام للحدث. آخر همّه. نخمِّن. الأرجح أنها الحرب النووية. ولكن اليقين هو الخراب الكامل. ما يمنع قول الخراب المطلق هو ذلك البصيص الخافت ولكن الموجود للفتى الذي علّمه أبوه سرّ النار وجاهد حتى الرمق الأخير لإيصاله إلى حملتها. ولكن، قبل تحقق هذا “الأمل” الأخير، يعرّي مكارثي هرج العالم، هكذا، بعبارات تمرّ خلسة ولكن مفخخة بالبرق: “نُدفة رمادية وحيدة تسقط متمايلة ببطء، يلتقطها الأب بيده ناظرا إليها وهي تلفظ أنفاسها مفتتة كأنها القربانة الأخيرة للمسيحية”. وفي جوف هذا الأسى يصرخ: “من الذي جعل من العالم أكذوبة؟”. في كل كلمة يقولها أكذوبة. لم تعد المعاني هي المعاني ولا الدلالات هي الدلالات التي باتت كسماء الظهر في هذه الرواية: سوداء مثل كهوف الجحيم!
“الطريق” مثل “سفر الرؤيا” في موقع الفصل الأخير من أعمال كورماك مكارثي (حتى الآن). أيضاً، يُفتح مصراع الباب على التأويل. لنكتف بما قاله رافائيل ريرول في “لوموند”: “مسيح بلا أمل، بلا مستقبل، وربما بلا انبعاث. لكنه وجه رائع للتعبير عن الإنسانية على الرغم من كلّ المظاهر: في كل المواقف، بما فيها الأكثر عدائية، بما فيها الأكثر مدعاة الى اليأس، ثمة أحد ما موجود ليقول للبربرية: لا. ثمة أحد عادل ليحمل الإنسانيّة إلى العالم، ولو انحدر هذا العالم في الشواش”.
أخيراً، لفظ كورماك ماكارثي تعبيره الأفصح عن قلق لا قاع له. “الطريق” مثل “ضوء بولس” قياسا إلى كل أعماله التي قدّم الينا فيها “ملحمة الشرّ” كما اجترحها “البشريّ صانع الحضارة!”، لأنها تفصح عن كنه كل تلك الأعمال بشكل راعب. فهذا البشري إيّاه هو الذي أوصلها إلى المقبرة الشاملة

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى