صفحات ثقافيةهوشنك أوسي

“الموسلين الأزرق” للشاعرة الكرديّة آخين ولات

null
حين تغدو محنة العاشقة وذاكرتها صحن فواكه وحفنة خيبات!
أثينا ـ هوشنك أوسي
“لا تتوسّل ُآخين سِعةً في البيان: نشيدٌ، همسٌ ترفعه العاشقةُ على شرفة ٍفي بيت، ٍلم تكن له شرفةُ قبل كتابة نشيدها. وإذ يُستنْفَدُ البوحُ كلّه، ترتد ّالعاشقةُ إلى “إعادة نظر” في المبالغة التي استُغْرُقُتْها: لا شيءَ، بعدُ، سوى خيبةِ العاديِّ”. هكذا، باقتضاب وتكثيف عاجل، شارف على الومضة، اختزل الشاعر والروائي سليم بركات انطباعه عن المجموعة الشعريّة الجديدة للشاعرة الكرديّة السوريّة آخين ولات، الموسومة بـ”الموسلين الأزرق”، أثناء تقديمه لها. والمجموعة التي طوتها الشاعرة، المقيمة في مملكة السويد، على ثلاث قصائد (“غواية التفاح”، “عتبة الليمون”، “محنة العنب”)، جاءت في 83 صفحة من القطع المتوسّط، صدرت عن سلسلة مجلّة “أبابيل” الشعريّة، في محافظة حلب السوريّة. والشاعرة آخين، تحمل إجازة في الأدب العربي، من جامعة حلب. وهي من منطقة عفرين الكرديّة، شمال سوريا. ومعروف عنها، كتابتها للشعر باللغتين العربيّة والكرديّة. و”الموسلين الأزرق” هي المجموعة الرابعة لها، بعد: “قصائد بلا لسان” (2000)، و”ريح الشمال” (2006)، و”نخب” (2009).
لم تختر الشاعرة أحد عناوين القصائد الثلاث ليكون عنوان كتابها الشعري، بل انتقت اسم أحد أنواع الأقمشة، الشفيفة اللماعة، التي غالباً ما تستخدم في صناعة الملابس الداخليّة والتفريعات النسائيّة، ليكون الستار الشفيف الذي تتبدّى من ورائه مجريات القصائد ومناخاتها. وعلى أن انتقاء عنوان للمجموعة، من خارج عناوين قصائدها، لا يمكن تسجيله كابتكار شعري، باسم آخين ولات، إذ سبقها إلى ذلك آخرون، إلاّ أن اختيار الموسلين الأزرق فضاء ومناخاً عامّاً للنصوص، جاء في محلِّه تماماً. إذ أن مجريات وتفاعلات القصائد، والأجواء المنزليّة الحميميّة، ومنمنمات كنوز الذكريات التي تضمّها حنايا البيت وزواياه. كل ذلك، استلزم اختيار الموسلين الأزرق عنواناً للمجموعة، لما لها من حمولة شعريّة ودلاليّة، لجهة الطلاقة والأريحية والبساطة التي يمكن استشفافها، حتّى قبل قراءة المجموعة. وبالتالي، الموسلين، وتحديداً الأزرق، يوحي في ما يوحيه، بأن النصوص ستكون مفعمة بالأنوثة والهمس ضمن فضاءات منزليّة، وهي كانت كذلك، لكأنّ الشاعرة، في استحضارها لتلك الذكريات، تودّ تمرير الرسائل إلى العاشق، مفادها: ألاَّ زال هنالك متسّع لإكمال الحكاية ومعايشتها، رغم ما اعتراها من نكبات وخيبات. ولعلَّ الدفق الجريء، والطلاقة في البوح تقاطعا مع أسلوب وتقنيّة شاعرة كرديّة أخرى، هي أيضاً تعيش في المهجر، جعل الأمر يختلط ويلتبس على الكاتب الكردي خالص مسوّر، أثناء كتابته مقالة عن هذه المجموعة، وذكر اسم تلك الشاعرة، سهواً، على أنها صاحبة المجموعة، لا آخين ولات! ولكن، هذا لا يعني البتّة الانتقاص من خصوصيّة ومهارة آخين وتغريدتها الشعريّة الخاصّة بها. فأيّاً يكن من أمرّ، لا مناص أمام المشتغل في حقل الأدب عموماُ، والشعر على وجه الخصوص، من التأثّر والتأثير، مهما بلغ ارتفاع منسوب الخصوصيّة والاستقلاليّة لديه. فالأديب، وبخاصّة الشاعر، هو خلاصة ما قرأه وشاهده وسمعه وعايشه وتخيّله وعاناه.
“وموسلينٍ، ألتفُّبه…
تحمل مقصّات ٍوسكاكينَ،
أخشاها على أصابعكَ.
الليلُ: مأزقُ الشّعراء؛ ومِحنتي: الموسلينُ الأزرق”.
بهذه الومضة غير المعنونة، تستهلُّ آخين ولات “موسلينها الأزرق” الشعري. وهي، حين تذكر؛ بأنها “تلتفُّ” بالموسلين الأزرق، ولا “ترتديه”، فإنها توحي بأنها، متحررة من كل الأسمال والأغلال والأقفال، بينما العاشق، يحمل، ليس مقصّاتٍ وبل سكاكين أيضاً. والعاشق، حين يحمل مقصّات وليس مقصاً واحداً، وسكاكين، وليس سكيناً واحداً، هذا يعني بأن الشاعرة، تحيل عاشقها إلى الدنو من اقتراف أفعال غاية في التجريح. ورغم ذاك، هي تخشى على أصابع العاشق من حمل المقصّات والسكاكين، وليس على نفسها. وهذه الصورة، تنمّ عن حالة عشق فائقة الجيشان، بينما العاشق، يمارس طقوس ساديّته بحريّة. وحين تختتم آخين المقطع الشعري بالقول: “الليل مأزق الشعراء/ ومحنتي الموسلين الأزرق”. هنا، تؤمئ إلى أنها، ليست كأقرانها من الممسوسين بـ”لعنة” الشعر، إذ الليل مأزقهم، فمحنتها هي الموسلين الأزرق. هذا يعني بأن هذا الموسلين سيبقى خزين كل ذكريات العشق وفاكهته وخيباته! فهي لا تستطيع خلع هذا الموسلين، ولا تستطيع تحمّل عذاباته وآلامه. وعليه، ستبقى حبيسة ورهينة موسلينها الأزرق، وما فيه من حلاوة ومرارة، ولذّة وقسوة، وكأنّه كفنها الأزلي!. ولعمري أن هذا المقطع، هو الاختزال المكثّف للقصائد الثلاث في هذا الديوان.
جاء عنوان القصيدة الأولى، عادياً. فالغمز من قصّة التكوين والخطيئة، والاستعانة بالتفاح، كرمز لها، بات فعلاً شعريّاً مكرراً ومطروقاً لحدّ الاستنفاد. ثمّ ما من آصرة تربط بين العنوان ومتن النصّ سوى المقطع الأوّل من القصيدة:
“تفاحةٌ واحدة فقط.
سقطتْ من الشجرة،
فأحدثت ْفيّ كل هذا الضجيج!”.
وهذا المقطع بدوره، عادي، ولا طزاجة فيه. بل ويكتنفه الحشو، إذ كان بالإمكان الاكتفاء بـ”تفاحة سقطت من الشجرة. أحدثت فيّ هذا الضجيج”، ولا داعي لإدراج كلمات: “واحدة” و”فقط” و”كل”!. بينما تشابه شكل البناء الشعري، في القصائد الثلاث، عبر نثر المقاطع على صدر صفحات الكتاب وترك مساحات بيضاء فاصلة بينها، أوحت وكأنّ النصوص عبارة عن همسات، مكتوبة على قصاصات ورقيّة، تمّ تجميعها، في ما بعد، في هذه المجموعة. وهذه التقنيّة أكسبت النصوص الثلاث الحيويّة والليونة والمرونة، لفظاً ومعنى ومغزى، إلاّ أنها أوحت أيضاً، إلى أن هذه القصائد الثلاث، هي قصيدة واحدة، بمقاطع ثلاثة، رئيسة وطويلة. ورغم الصياغات القصيرة، والتكثيف في الفقرات الشعريّة، كما أسلفنا، إلاّ أنها لم تخلُ من نتوءات وزوائد، بالإمكان الاستغناء عنها. أو “ملئ رئتيّ”. ولا يفوتنا التأكيد على أن النصوص الثلاث احتوت على صور شعريّة جميلة ومثيرة ولافتة، وفيها ما فيها من الإبداع والإتقان والجسارة، كقول الشاعرة في قصيدة “غواية التفّاح”: “تشمّ الجمر َتحت إبطيّ، والجليدَ./ يسيلُ البردُ من بتلات ِالبنفسج./ تستَنْهضُ غوايتي مُجدَّداً، /تَستنفرُ الزُّهور فيدمي،/ويدايَ تنبسطان”.
وقولها في نفس القصيدة: “نعير جنوحَنا للأحصنة ونغادر(…) نتأبَّطُ الأمواجَ لحافَّة ِليل ٍيفيض ُمن ورقِِ العنب”.
لقد وظّفت الشاعرة تقنيّة الحوار في البناء الشعري ما زاد من توهُّج الهسهسة بين العاشق والمعشوق، بخاصّة في القصيدة الأولى. بينما انزلق بها الخوض في تفاصيل التفاصيل إلى السرد بلغة الشعر، وكأنّه استعادة عرض شريط سينمائي للذاكرة، ما جعل قصيدة “عتبة الليمون” أقرب إلى النص المفتوح منه إلى قصيدة النثر الجزلة. وفي قصيدة “محنة العنب”، انكفأت الشاعرة على ذاتها، وبدأ إيقاع الحوار الأحادي، الداخلي، بالارتفاع، وبدأت مفرادت كالقلق، الضجر، الكآبة، الوجوه، الأقنعة، الطعنات، الخسارات… تتبدّى، راسمةً معالم المحنة التي تعانيها الشاعرة، كأنّها عنقود عنب، لا زال معلَّقاً بدالية، وسط الخريف. فبعد أن لاقى العنقود لهيب الصيف نضوجاً وازداد حلاوة، ها هو الخريف موشكٌ على أن يفعل فعله. والشاعرة حين اختارت: “غواية التفاح”، “عتبة الليمون”، “محنة العنب”، عناوين لنصوصها الثلاثة، فهي بذلك تسرد قصّتها، التي بدأت بالغواية، وانتهت بالمحنة. وتزامناً مع هذه الحالات، بقيت الشاعرة فاكهة، إذ كانت تفاحة ثمّ صارت ليمونة، وانتهت عنباً، وهي لمّا تزل عاشقة. وفي ذلك، ما هي إلا ساردة لـ”تحوّلات العاشق” بتعبير أدونيس. لذا، لا نبالغ إذ نقول: إن ما افتتحت به آخين مجموعتها الشعريّة، هو أفضل أحوالها: الشاعرة العاشقة، التي غدت ذكرياتها، صحن فواكه وحفنة خيبات، محنتها ليس الليل، بل الموسلين الأزرق. وآخين ولات، حين استهلّت مجموعتها بتلك الومضة، فإنها قدّمت نفسها، استباقيّاً، والقصائد الثلاث، ما هي إلاّ براهين وتعليلات وتفسيرات لتلك الحال التي تحياها الآن!.
أيّاً يكن من أمر، فإن “الموسلين الأزرق”، نقلة نوعيّة في تجربة الشاعرة الكرديّة السوريّة آخين ولات، وعلامة فارقة في الشعر النسوي الكردي المكتوب بالعربيّة. فـ”النشيدُ الهمسُ” الذي رفعته الشاعرة العاشقة من شرفة بيتها إلينا، بات يملي عليها تجاوز “خيبة العادي” بأجنحة اللاعادي، إذا كانت تريد لنشيدها المضي في همسه، مع عدم استنفاد بوحه كلّه، ما يخوِّلها عدم إعادة النظر في المبالغة التي استغرقتها آناء رفعها لنشيد همسها، من شرفة بيتها الذي لن يغدو إلاّ شرفة، بعد كتابتها للنشيد، بسِعة البيان ورقّةِ دوامغه.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى