صفحات ثقافية

مؤتمر نظمته مؤسسة سمير قصير تزامناً مع انطلاق مركز «سكايز»… الحريات المقموعة كما عاشها مثقفون عرب

null
بيروت – رنا نجار
في كلّ مرّة يجتمع المثقفون العرب، للبحث في قضية الحريات والدفاع عن حق المواطن في التعبير عن رأيه، يتلمّسون عمق الفجوة الكبيرة التي تخلفها السياسات الرسمية، خصوصاً على صعيد حرية التعبير والرأي. فالدول العربية تحتل سنة بعد سنة، أدنى المراتب في حرية التعبير بحسب إحصاءات تقوم بها مؤسسات عالمية مثل «هيومن رايتس واتش» ومنظمة «مراسلون بلا حدود».
وفي البحث عن الوسائل والأدوات التي قد يتوصّل إليها «المناضلون من أجل الحرية» ولبسط ثقافة الديموقراطية الحقيقية، يكتشفون أن العدو ليس السلطة أو نظام الحكم القمعي وحسب، بل المواطن (العامل والصحافي والمثقف…) الذي هو عدوّ نفسه عندما يسكت عن حقّه أو لا يسعى الى معرفته، والدفاع عنه. «الدفاع عن الحريات وعن الصحافيين، ليس عملاً سهلاً»، قال روبير مينار الأمين العام لمنظمة «مراسلين بلا حدود»، في مؤتمر «الحريات الثقافية والإعلامية في المشرق العربي» الذي نظّمته «مؤسسة سمير قصير» خلال اليومين الفائتين في بيروت، بالتزامن مع إطلاق مركزها الإعلامي «سكايز» (وهي كلمة من أحرف لاتينية اختصاراً لجملة «عينا سمير قصير») للدفاع عن الحريات الصحافية ورصد الانتهاكات والتعديات على الصحافيين. واعتبر مينار أن «مهمة هذا المركز المستقلّ، بمثابة ثورة تحتاج إليها المنطقة العربية التي تنتمي معظم مؤسساتها الإعلامية الى أطراف سياسيين مشاركين بالحكم أو متنازعين في ما بينهم، وبالتالي يفتقدون الصدقية والدقة». وشدّدت كريستينا ستوكوود مديرة برنامج الشبكة الدولية لتبادل المعلومات حول حرية التعبير «أيفكس»، على ضرورة حماية الصحافة كمهنة إضافة الى حماية الصحافيين.
المؤتمر الذي افتتحه الروائي اللبناني الياس خوري، وكان نقطة الانطلاق لإعلان تأسيس مركز «سكايز» الذي يهدف الى الدفاع عن حرية الصحافة والثقافة، لم يحضره إلا قلّة من الصحافيين والمثقفين، مع أنه جمع في حلقة دراسية مثقفين وصحافيين من مصر وسورية وفلسطين والأردن ولبنان، تتدارسوا أشكال القمع والرقابة ووسائل مقاومتها. فكيف يطالب الصحافي المسمّر على الكرسي في مكتبه، أو الكاتب المستلقي على أرصفة المقاهي، بحرية التعبير ويطوّر وسائلها ويشكو من انتهاكاتها؟ أليست الحرية صناعة يدفع ثمنها كل من يريدها؟ بل هي «صناعة مكلفة ولها ثمن باهظ قد يتحوّل بحجم الحياة نفسها، كما قال غسان تويني النائب وعميد جريدة «النهار» في كلمته في الافتتاح التي ألقاها نيابة عنه الياس خوري. واعتبرت التونسية نبيلة حمزة رئيسة «مؤسسة من أجل المستقبل» المموّلة للمركز، أن الإعلام الحرّ هو المنبر الرئيسي للديموقراطية، و «لن يكون قادراً على تأدية مهماته إلا في مناخ من حرية التعبير والكلمة يضمن حرية الإبداع الثقافي».
الرقابة والإبداع
كثر الحديث عن الرقابة في العالم العربي وأشكالها واختلاف طرق تطبيقها بين بلد وآخر. ولكن لا شيء يفي خطورة أو ظلم القصص «الإبداعية» في ممارسة الرقابة والقمع، سوى الحديث المباشر لصاحب الشأن عن تجربته وتفاصيلها. هكذا تمكن الروائي المصري صنع الله ابراهيم، والشاعر السوري المنفي الى السويد فرج بيرقدار، والمخرج والممثل المسرحي اللبناني روجيه عساف، والمخرج السينمائي السوري أسامة محمد، في الجلسة الأولى التي أدارها الياس خوري، وحضرها وزير الثقافة اللبناني طارق متري، من وضع الإصبع على الجرح من خلال تجاربهم المُخجلة في حق كل إنسان يسكت عنها. ابراهيم الذي رفض عام 2003 تسلّم جائزة «الرواية العربية» احتجاجاً على سياسات النظام المصري وتضامناً مع الشعبين الفلسطيني والعراقي، لمّح الى الانفصام المصابة به السلطات المصرية التي أذاقته وأمثاله طعم الدم، ثم تعود لتمنحهم جوائز. عرض إبراهيم لتجربته الشخصية في موضوع المصادرة، بدءاً من رواية «تلك الرائحة» التي كتبها عام 1966 تعبيراً عن السجن الطويل في الواحات، ومنعت في مصر ثم نشرت مشوّهة. وخلص إبراهيم الى أنه تعلّم خلال 40 سنة من النشر والكتابة، كيف يتحايل على الرقابة، منتقداً توسّع رقعة المساحة القمعية التي تُعطى للأجهزة مثل الأزهر والجيش ووزارة الدفاع ومجلس الشعب وغيرها. ومع ذلك، أبدى ابراهيم تفاؤله من هامش الحرية الذي يتوسّع في مصر حالياً، ولكن «ليس كمنحة من الحكومة والنظام، بل نتيجة للضغط القوي من السياسات الخارجية ومقاومة الشعب بغية توسيع مساحة حرية الرأي».
وانتقالاً الى قوانين الطبيعة التي تُنصف حرية الإنسان وحقوقه، أكثر من قوانين أخيه، اعتبر الشاعر السوري فرج بيرقدار الذي مارس هواية «الاعتقال»، أن الخيال هو أحد أبرز عناصر العملية الإبداعية العصي على الأسر. بالنسبة إليه «السجن حيّز مغلق ومضاد، والحرية فضاء حميم ومفتوح»، لكن السجن بالنسبة إليه كان فيه مساحة حرية أكبر من خارجه في بلده الأم سورية، فأن «تطرح أسئلتك ومسائلك بحرية وإبداع في بلد مثل سورية، يعني أولاً أن تكون حرّاً أو سجيناً»، يقول.
أما روجيه عساف فتطرّق في ورقته التي جاءت بعنوان «حرية التعبير أم التعبير عن الحرية؟» الى خطورة الرقابة الذاتية. وتساءل: «أين نحن اليوم من الجدلية بين الحرية والتعبير عنها؟ بين الديموقراطية وممارستها؟ بين مشروع المواطنية وتطبيق مبادئها؟». كما تساءل إن كانت «الحرية التي نطالب بها جزءاً من الصراع على السلطة أو بين السلطات؟ أم انها مشروع ديموقراطي قصده توصّل جميع الناس الى التعبير والى معرفة أفكار الآخرين؟». وعرض لوضع «الغربال» الرقابي في لبنان الذي يتقلّب ويتحوّل ويتبدّل مع الظروف ومع المواقع مثل تلوين الحرباء وسط تغيرات البيئة المحيطة بها. فيصير «الحق هنا باطلاً هناك، والمباح هناك محرّماً هنالك».
ليس في الرقابة دمع وحزن وإهانة فقط، ففي أشكال الرقابة ما يُضحك أو شرّ البلية ما يُضحك، عندما يتحدّث عنها المخرج السينمائي السوري أسامة محمد، الذي قدّم ورقة بعنوان «كفاحي، لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير»، محوّلاً تجربته المريرة مع أجهزة الاستخبارات السورية الى سيناريو فيلم لا يخلو من السخرية المرّة.
منذ انتشار «ثقافة» المدوّنات الالكترونية في العالم العربي في التسعينات، والسؤال يطرح عن مدى أهمية مثل هذه المساحة التي من المفترض أن تنعم بالحرية. في هذه الجلسة حول المدوّنات التي استنفرت أجهزة الاستخبارات في سورية ومصر والأردن، كل طاقاتها لقمعها، انقسم المجتمعون بين مؤيّد لاعتبارها بديلاً عن وسائل الإعلام التقليدية، ورافض لاعتبارها مساحة هامشية أو «فشة خلق» لا تقدّم ولا تؤخر، خصوصاً مع استخدام المدوّنين لغة رخصية أحياناً، أو لغة تجمع بين فن الخط أو الحرف اللاتيني واللغة العربية. ونبه الياس خوري الى أهمية دراسة هذه اللغة التي باتت منتشرة بين عدد كبير من الشباب. في هذه الجلسة، دافع الناشط الحقوقي المصري جمال عيد عن الإنترنت بشراسة، معتبراً إياه وسيلة عصيّة على القمع. وسخر من الحكومات التي تلجأ الى تعطيل مدونة إلكترونية في اللحظة التي تظهر بدلاً عنها عشرة. بينما أبدى الصحافي والمدوّن الأردني محمد عمر تشاؤمه من واقع الصحافة الإلكترونية في الأردن، معتبراً أن العرب وجدوا في الإنترنت «مزبلة التاريخ»، إذ يتراجع مستوى المعلومات العربية ومستوى الحرية عبر الإنترنت، لكون الأنظمة الاستخباراتية المتطوّرة والدقيقة تمارس عليه الرقابة أكثر من الرقابة على وسائل الإعلام التقليدية. هذا عدا عن الأرقام القياسية لعدد المواقع التي تؤسسها الجماعات الإسلامية المتشدّدة، والتي «تستغّل الإنترنت لنشر ثقافة الكراهية والقتل». أما الناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان والصحافي السوري محمد العبدالله الذي اعتقل مع أخيه وأبيه بسبب إنشاء مدوّنة إلكترونية قام بها أخوه، فاستعرض لانتهاكات أجهزة الاستخبارات السورية التي اخترقت الشبكة العنكبوتية، معتبراً أن التدوين على رغم ذلك استطاع الوقوف في وجه السلطات الرسمية». ثم جاءت المدوِنة والباحثة الشابة رزان غزاوي لتتحدّث عن الجديد في التدوين، وتوصّلت الى نتيجة جد متفائلة مفادها «أنا أدوّن إذاً أنا موجود».
السلطة والصحافة
في الجلسة الثالثة التي أدارتها الباحثة اللبنانية زاهرة حرب، اعتبر الباحث والصحافي الفلسطيني صقر أبو فخر في ورقته «الإعلام الفلسطيني والحريات المغدورة، مجتمع أهلي تحت الاحتلال» أن الحريات الإعلامية تقلصت الى درجة الانعدام، في قطاع غزة مع الانفصال الجغرافي الذي قامت به حركة «حماس». وذكر أن العام 2007 من أسوأ الأعوام التي مرت على الإعلام الفلسطيني منذ اتفاق أوسلو. فقد شهد هذا العام أكثر من 250 انتهاكاً للحريات الإعلامية، أكثر من نصفها وقع على أيدٍ فلسطينية. وللمرة الأولى يحل الاحتلال الإسرائيلي في المرتبة الثانية كمصدر للقتل أو للاعتداء على الصحافيين الفلسطينيين.
وتساءل الشاعر والصحافي اللبناني عباس بيضون تحت عنوان «الصحافة وأعمدة الجمهورية المهددة»، ماذا تفعل الصحافة حين يستوعب الصراع الأهلي كل شاردة وواردة ويستغرق كل شيء؟ هل يمكن أن تبقى الصحافة للخبر والإعلام أم تتحول الى سلاح للرأي والموقف وأداة تحريض أهلي؟ وتوصل بيضون الى أن الجمهورية والديموقراطية صمدتا أمام الاجتياحات بتنوعاتها وادعاءاتها ملكية البديل. ثم انطلق الباحث الفلسطيني المقيم في لبنان عمرو سعد الدين في ورقته تحت عنوان «أولوية أم أولويات متعددة في الدفاع عن الحريات الصحافية»، من مقاربات عربية متباينة ليركز بعدها على تجربة الأردن في القضايا المرتبطة بحرية التعبير.
ثم عرض الناشط في الدفاع عن الحريات الصحافية التونسي كمال عبيدي حال حرية التعبير والصحافة بعد 3 سنوات من اغتيال سمير قصير. وشدد على أهمية تعاضد الصحافيين في ما بينهم لوضع خطة مدنية من أجل حمايتهم من كل انتهاك معنوي وجسدي ومادي.
مسك ختام الجلسات جاء أكاديمياً وتطبيقياً واقعياً مع مداخلات الباحثين والأساتذة الجامعيين، نهوند القادري وإيهاب بسيسو وزاهرة حرب. ثلاث مداخلات حرص أصحابها على الموضوعية والدقة في المعلومات التي قدّموها. فتطرقت القادري الى وثيقة تنظيم البثّ الفضائي التي تبناها معظم وزراء الإعلام العرب، لافتة الى ندرة ردود الفعل المقيّمة لأبعاد هذه الوثيقة ودلالاتها. القضية الفلسطينية الحاضرة الغائبة في إعلامنا العربي، تناولها الباحث الفلسطيني إيهاب بسيسو، متسائلاً: «هل ما زالت القضية الفلسطينية على تعريفها الوطني والقومي قضية تحرّر وطني من أجل الاستقلال والسيادة واستعادة الحق؟ أم هي الآن وفق البرامج السياسية العربية مجموعة قضايا يربطها الاسم فقط والمرجع التاريخي والسياسي؟ فالتعاطي الحالي معها يختلف عن أصل الأزمة وسبب القضية». وعرضت زاهرة حرب تحوّل التعددية في النظام الإعلامي اللبناني الى نقمة، وانتقاله من نظام متنوّع غني الى نظام مواجهة يحكمه الإطار السياسي.
الحياة – 19/06/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى