صفحات ثقافية

الصحافــة وأعمــدة الجمهوريــة المهتــزّة

null
عباس بيضون
لنبدأ بمديح الصحافة، وأي مديح اذا قلنا ان الصحافة من أعمدة الجمهورية. انها عمود في المجتمع المدني وفي الديموقراطية اللبنانية وفي القطاع الحديث وفي مشروع الدولة. أي انها عمود في المشروع التاريخي او الذي غدا تاريخياً، المشروع اللامتحقق والمريض والمهدد والمتناقض لابتكار لبنان. ماذا تكون الديموقراطية اذن وماذا تفعل الصحافة حين يستوعب الصراع الأهلي كل صغيرة وكبيرة ويستغرق كل شيء. هل يبقى لها ان تكون سجلا لهذا السطح السياسي الذي يستغرق النزاعات الكلامية بين الاطراف. هل يمكنها عندئذ ان تبقى للخبر والاعلام أم تتحول الى سلاح للرأي والموقف وأداة تحريض أهلي. ماذا تفعل الصحافة اذا تأخر انتاج اللبناني المتوسط وهو القارئ والمواطن، وتأخر توليد رأي عام لا يتدهور في الانقسام الأهلي. بل ماذا تفعل اذا تعذر ايجاد القارئ المستقل والجمهور المستقل وبالتالي التمويل المستقل. وقضي عليها بأن تساير لتأمين القارئ وان تمد اليد لتأمين المال. كيف يمكن تأمين أي استقلال حقيقي في مثل هذه الحال. كيف يمكن لشيء لهذا ان يضمن لها حرية في داخلها وحرية من خارجها. الصحافة اذن مصابة بعطب الديموقراطية نفسها. اذا كانت الديموقراطية تقريبا بلا ديموقراطيين واذا كانت بدون تقليد راسخ ولم تراكم ذخيرة من النضال والحماية الجماهيرية فإن الصحافة لا تجد كثراً يسألونها عن استقلالها او يحاسبونها عليه. وهي ايضا بلا قراء كافين لابقائها مستقلة وبدون رأي عام تحتكم اليه. ليست هذه شروطا سليمة وليست عناصر قوة بالطبع. الا ان الديموقراطية اللبنانية لا تبدو في قصورها بقدر ما تبدو في قوتها. انها بلا اساس وتأكل نفسها بنفسها لكنها رغم ذلك جعلت من لبنان واحة بكل المعاني واحة ثقافية بقدر ما هي اقتصادية ايضا. انها ضعيفة مهددة بالميليشيات والسلاح الأهلي لكنها رغم ذلك امنت تعددا ومدى من السجال. الأهم من ذلك كله هو ان هذه الديموقراطية المريضة قاومت اهوالاً حقيقية ونجت من كل منها بخسائر اقل او اكثر وبقيت واقفة. قاومت نزعات استبداد عسكري توالت اعواما وتكررت اكثر مرة. قاومت هيمنة مسلحة فرضت بالقوة على المجتمعات مسارا واحدا. قاومت انتدابا ووصاية داما 30 عاما. لم تستطع المخابرات ولا السلاح الفلسطيني او سلاح القوات اللبنانية او الانتداب السوري ان يستأصلوا الديموقراطية اللبنانية ولو مالوا لتضييقها رغم ضغوط الاتجاهات، التي لا تملك فحسب سلطة الموقف وانما فضلا عن ذلك في غالب الاحيان سلطة التمويل، استطاعت الصحافة ان تخوض مساومة صعبة مع شروطها وان تخرج من ذلك بحد متفاوت من الالتزام المهني. رغم كل شيء حظيت الصحافة اللبنانية بمقام وتأثير في صناعة الحياة السياسية اللبنانية. حال الصحافة في ذلك حال الدولة والديموقراطية. بل وحال النخب اللبنانية والقطاع الحديث والطبقة الوسطى والافراد بما هم افراد. انها ضعيفة مثل كل هؤلاء وتلك، بل هي معطوبة شأنهم جميعا وشأنهم ايضا هي بلا اساس. الجميع يملكون وجودا هامشيا والجميع تحت وطأة تجاذب أهلي يجعلهم ملتبسين دائما بالانقسامات الأهلية، انه ضعف عضوي والتباس لا مخرج منه، بل هو مرض وتناقض ولا تحقق مستمر. مع ذلك فإن ما يبدو قوة صورية وشبحا فحسب لا يتحطم، رغم توالي الحروب والصدمات والاعتداءات، ولا يغدو هباء. ما يغدو احيانا مبدأ فحسب لا يزول. ما يستضعف يظل منه دائما ما يمكن استضعافه من جديد. لقد بقيت الديموقراطية اللبنانية وكذلك الصحافة بقوة المبدأ العاري احيانا صامدتين. الجمهورية بلا جمهوريين لكنها صامدة، لعل هذا اكثر ما امتحناه طوال العقود الأخيرة السوداء. مرت موجات وقوى عاتية لكنها عبرت اما الاضعف فبقي في الارض. لسنا هنا لنمتدح الضعف فالأرجح ان كل احلام القوة التي خامرتنا، ولا تزال، كانت سرابا وأكثر ما ركز كان مؤسسا على ضعفنا. وان ما سنؤسسه اليوم او غدا لن يكون شيئا آخر. قد تغدو الدولة في احيانا ساحة تنازع اهلي فحسب لكنها تبقى بهذه الصفة، قد لا يبقى سوى قانون الصراعات لكن القانون يستمر على هذا الأساس. قد تغدو الصحافة مدرسة للنزاعات لكنها حاجة بهذا المعنى، قد لا يبقى من الديموقراطية سوى خط الهدنة لكنها تستمر فيه. الجمهورية تتقلص وتنفرط وتتحول الى خطوط تماس لكنها غنيمة الجميع، والجميع يقتتلون عليها، وفيما هم يتكالبون عليها يمحضونها اعترافاً. الاقوياء او الذين يخطر لهم ذلك لن تنفعهم قوتهم فهذه الحدود الواهية شبه الخفية ستجعلهم يرتطمون بقوتهم وربما يختنقون فيها. لفرط ما يمقت الضعف نفسه تتولد منه تهويمات قوة واستبداد، لفرط ما يخجل بنفسه تخرج منه الغيلان. حين يرى الواقع نفسه وصمة يسهل الانتصار عليه، الجمهورية هي دائما أول من يقع واعمدتها اول ما يلتوي لكن ذلك فوق الطاقة ولا يدوم. الضعف بحد ذاته ميزان ولا ينكسر الى الأبد، انه قانون ولا يعيش الاستثناء اكثر من عمره. لقد زالت قوى ليس الا لأن الغلبة على الواقع لا تنتهي بشيء آخر. ذابت أجهزة ونظم حين وجدت نفسها بلا سبب.
أما لماذا تصمد الجمهورية وتصمد الديموقراطية وتصمد الصحافة بالتالي فلأن القوة لا تستطيع ان تعيش في قمقم، ولأنها في الوقت الذي تريد ان تحقق فيه نفسها تجد نفسها محبوسة. في الوقت الذي يغدو لها مشروع خاص لن تجد له بلدا. انها تبدأ عندئذ في الارتطام بنفسها الى ان تفقد أسبابها. وقد لا تجد مناصا من ان تغزو نفسها او بلدها. تصمد الجمهورية وتصمد الديموقراطية والصحافة، ربما بقوة المثل السلبي. يمكن استضعاف الجمهورية كل اليوم والحق ان استضعافها هو بحد ذاته سياسة الكثيرين، بل هو أحيانا السياسة نفسها، لكنها بالتأكيد ضرورة لمستضعفيها. لقد صمدت لفقدان البديل. كان للاجتياحات العسكرية او القومية او الوطنية او التحريرية ادعاء البديل لكنها لم تكنه، حملت اشواقا ملحمية، تطلعات وحدة واندماج وانتظام عسكري ودولة قائدة وثورة دائمة. لكننا في بلد يبيع الاحلام ولا يصلح لها. بلد وجد لمشروع غير متحقق ولا يحتاج الى مشروع اضافي. بلد وجد كنظام ولا يحتاج الى نظام آخر. لا تملك الاجتياحات الا ان تصطدم بنفسها، ولا تجد مستقبلا الا ان تتحول الى استبداد وغزو داخلي.
لم تكن الصحافة أقل تورطا في الواقع، لقد دخلت عميقا في حروب ايديولوجية، وغالبا اكثر مما تحتمل مهنتها، وناضلت فيها واحيانا كثيرة وراء حدود الحقيقة وأبعد منها. زامنت حروبا حقيقية لم تترك لها خيارات واسعة بالطبع وحدت من عقدها مع التحري والاعلام. مع ذلك فإن عقدها مع الحرية بقي رغم انه كان يضيق او يتسع في الظروف. عقد مع الحرية يجعل للصحافة هامشا وراء الانحيازات والحروب والتورطات. الحرية ولو ملتبسة بانقسامات المجتمع هي ايضا مبدأ وهي ايضا امتياز. انه مثال ينفصل شيئا فشيئا عن الظرف ويتحول الى هدف والى غاية. هكذا كان للصحافة مع كل تورطها مثالها ايضا. كان سمير قصير من بين الذين سعوا الى ان يعطوا للصحافة قوة المثل وان يجعلوا منها رديفا لمبدأ. كان سمير قصير مثل هذا الالتقاء بين الكلمة والشارع، لحظة نادرة وثمينة ليس للبنان فحسب ولكن للصحافة ايضا. لقد غدت الصحافة متحدة بمثالها ودم سمير قصير وجبران تويني كانا عمادة هذا الاتحاد، انها لحظة مفقودة الآن لكن على الصحافة استعادتها، هكذا علينا العودة الى سمير قصير وجبران تويني
لا نعرف اذا كان الاطار القانوني لحرية الصحافة هو افضل المداخل الى الموضوع. اذا كان من وصف للظرف الراهن فهو انه حرب بالالفاظ وغير الالفاظ. ولكن بكل معاني الحرب. لا يعدم المتأمل في ان يجد محاكاة بين نظم القتال ونظم السجال السياسي الراهن. انها الحرب ولا يهم كيف تفعل المهم ان تصيب. قد ينجح خبر كاذب فيما لا ينجح فيه خبر صادق ويخدم الشائعة اكثر مما يخدم الواقعة. هكذا نصل الى اعلام لا يعلم. جله دائما في ما وراء الخبر لا في الخبر نفسه. انه اعلام شبحي يغرف من خيال تآمري خصب. نصف الحرب الحالية واكثر يدور في الاعلام وساحته الصحافة والتلفزيون والاذاعات، والارجح ان الاعلام هو خندق المتحاربين. بوسعنا الكلام هكذا عن طابع حربي للاعلام وعليه فان مسؤولية الصحافة والتلفزيون في الحرب الراهنة مسؤولية لا تنكر. لا ينحط الاعلام فحسب الى ان يغدو في احيان بوقا بل يدخل في صناعة الحرب الاساسية، ليس اعلام الرأي والموقف اليوم سوى مدفعية وقواعد للرمي والقصف. سياسيونا في الغالب يائسون من اي خطاب مشترك يواصلون خطاب تعبئة قوامه استثارة النعرات والعصبيات وتعهير الخصم ووصمه. انهم اليوم مشنعون من أسوأ طراز، زارعو شائعات ومراءون. سنتكلم هكذا عن نوع من البذاءة السياسية، الاعلام في احسن الأحوال ناقله وناشره وذلك يحدث بدون تحفظ ولا احتياط حقيقيين، التصريحات والندوات وبرامج التوك شو السياسي غدت مع الوقت مدارس حزبية. الجمهور اللبناني المنقسم يتعلم فيها فنون المحاججة والرأي والرأي المضاد. انها مدارس حزبية بالقدر التي هي مدارس للحرب. هكذا يتورط الاعلام في انقسام المجتمع ونزاعاته الأهلية. يتحول من حيث يريد او لا يريد الى اعلام احياء ومناطق وجماعات، بل هو يموه هذا الانقسام ويعطيه مشروعية وطنية وعموما كاذبا. اننا هكذا ندخل في مؤامرة كبرى على الوعي ويمكننا بالفعل ان نتهم، يمكننا بدون غضاضة ان نعتبر الاعلام شريكا في الجريمة ونحمله لا مسؤولية التحريض والتعبئة فحسب بل مسؤولية الدم المجاني الذي يسيل في الشوارع. يمكننا ان نتهم الاعلام الحربي بذات جرائم السياسيين والعسكريين فمن الواضح الآن ان أي تورط يقطر في النهاية دما. وان علينا حقا ان نتنبه كثيرا لكي لا نكتب بدم الآخرين ان مسؤولية الاعلام الحربي في التردي الحاصل تقارب الخيانة، خيانة مثاله ومشروعه الذي هو ايضا مشروع الجمهورية. الاعلام الذي هو من اعمدة الجمهورية يشارك في قتل الديموقراطية وتمويهها، يشارك في قتل والدته الحقيقية ويستمر بدون ان يدري في سلوك انتحاري، الاعلام الذي يشترك في القصف الأهلي لا يفعل شيئا سوى ان يحرق بيته، سوى ان يدمر سبب وجوده، لقد نشأ كمعادل للجمهورية، كرابطة وطنية وكفضاء يتعدى الجماعات والطوائف، انه كالديموقراطية والدولة والمجتمع الحديث والطبقة الوسطى ونمط العيش اللبناني جزء من الفضاء الوطني، وها هو الآن يتمرد عليه. انه المعادل الثقافي للقانون وها هو يتغلب عليه. المعادل للجمهورية ويشترك في اشعال النار فيها. انه يتحول بذلك الى اعلام مارق، الى اعلام عصابات، ولن نجد في ذلك سوى النذير بزوال الجمهورية او تصفيتها، لن نقول غير ذلك ونحن نواجه كل هذا التحريض والبذاءة مرئيين مسموعين.
مع ذلك فإن الاعلام مثله مثل المجتمع الأهلي يظل حتى وهو يحرق نفسه يتكلم ببراءة طفولية وربما ارتكاس طفولي عن الدولة والوحدة. مثله مثل المجتمع يذهب الى الخنادق وهو لا يزال يتكلم عن الاستقلال والدولة، انتهت حرب الـ15 عاما الى هذا النوع من الاتفاق الوطني او الثقافة الوطنية، لعب الانتداب على الانقسام وسحب من تحت هذا المشروع الوطني أرضه ومقوماته المادية، وهو منذ ذلك الحين ايمان لا واقع مقابلا له، انه ايمان فحسب لكنه ايضا حد ويمكن ان يتحول في مستقبل ما الى قوة. الجمهورية فكرة لكنها ايضا حارس خفي، الصحافة مثلها مثل كل شيء في هذا البلد اليوم تخون نفسها لكنها تقترب اكثر من مثالها، ما جرى منذ 14 آذار الى اليوم هو ايضا فرز قوي، ما جرى هو ايضا سقوط قاموس مختلط وتشويش فكري كبير، الكذب والتآمر يتفاقمان لكن الوعي مع ذلك يتحرر ويزداد وضوحا، الصحافة رغم كل شيء تصل من ناحية ما الى هذا الوعي، تقبض اكثر على دورها وحقيقتها، رغم كل شيء نجد الآن وثائق عن صدق والتزام نادرين، الشهادة لم تكن عبثا وسمير قصير وجبران تويني لم يموتا من اجل لا شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى